ولأننى شرقى الهوى، يتطلب استدراجى حزمة إغراءات، كى أقبل أن أشاهد عرضاً فنياً غربياً، لا تكفى الدعوة المجانية عادة لتحفيزى، خاصة أن أية أنشطة أخرى ستربح المنافسة، ولو كان أحدها الاسترخاء فى السرير، لكن الدعوة هذه المرة مختلفة، لأنها تقودنى إلى دار الأوبرا الفخمة بالعاصمة الجديدة، وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم، فالإغراء أكبر من قدرتى على مقاومته، رغم أنه يتطلب جهداً استثنائياً، فى نهاية يوم عملٍ مُجهد، الهدف إذن كان استكشاف مدينة الفنون، والفضول طبيعة بشرية تحكم معظم تحركاتى، حتى أننى لم أكلّف نفسى مشقة قراءة مضمون الدعوة بشكلٍ دقيق، رغم أننى مغرم بالتفاصيل. للتعبير عن الانبهار مفرداتٌ ومصطلحات عديدة، لن أشغل نفسى حتى باستحضار بعضها، المهم أننى انبهرت فعلياً، بالعاصمة الهادئة ليلاً، ومدينة الفنون التى اجتذبتنى بجماليات معمارها، ثم دار الأوبرا بأناقتها التى تمنح الزائر إحساساً بسطوة الفن الراقى. جلستُ أتابع أوركسترا «نورديك بالس»، وأستعيد فترة فى حياتى سقطت من الذاكرة، عندما اجتذبتنى سيمفونيات زامفير وكورساكوف، ومؤلفون موسيقيون عالميون. وقتها كانت ذائقتى الفنية لا شرقية ولا غربية، بل تنحاز إلى أى فن عابر لحدود المشاعر. العرض الذى حمل عنوان «صوت الآن.. أو الحاضر»، اجتذبنى بتشكيل أوركسترالى غير تقليدى، أقرب إلى الأداء المسرحى: دخول درامى لعازفين يُبدلون أماكنهم وفق سيناريو أشبه بنص مكتوب، وقائده كريستيان يارفى أقرب لممثل يلعب دورا لا ينفصل عن الموسيقى، حركاته تنتقل بين الهدوء والانفعال لتترجم النغمات، يرفع يديه إلى الأعلى فأتذكر رقصة التنورة، التى تسمو بمؤديها فى اتجاه السماء.. إنها الصوفية تنساب بين الثقافات. يمكن أن أكتب الكثير عن معاناة الإنسان المعاصر، وتحوّلاته بين السكينة والتوتر فى عالم مأزوم، لكنى سئمت من استعمال هذه العبارات المستهلكة، نتيجة الإفراط فى استخدامها لترويج كل عمل فنى غير مفهوم. بعيدا عن سريرى، أمضيتُ أمسية بنكهة مغايرة، حاول فيها الموسيقار حثّ الحناجر على مشاركته، لكنه لم ينجح إلا فى حصد ثمار الأيدي، من جمهور وقور يمتلك خبرة أكبر فى التصفيق!