محمود محيي الدين: المواطن لن يشعر بأثر الإصلاحات الاقتصادية إلا إذا وصل معدل النمو الاقتصادي إلى 7% على الأقل    مجلس التعاون الخليجي يرحب بقرار مجلس الأمن بشأن الصحراء    الاتحاد الأوروبي يدرس إضافة روسيا إلى القائمة السوداء لغسل الأموال وتمويل الإرهاب    لاعب الإمارات: الطرد أربك حساباتنا أمام الأردن.. وسنعوض أمام مصر    القبض على 4 أشخاص لتجميعهم ناخبين بمخزن خردة ودفعهم للتصويت مقابل رشاوى انتخابية بإمبابة    وزير الثقافة يكرم المخرج خالد جلال بالمسرح القومي    الداخلية تواصل ضبط محاولات التأثير على إرادة الناخبين بسوهاج    «كى چى» تحت التهديد| الطفل وحده فى المواجهة.. والتوعية تحد من جرائم التحرش    كأس إيطاليا.. تعرف على تشكيل إنتر ميلان أمام فينيزيا    أكرم القصاص: المرحلة الثانية من الانتخابات أكثر انضباطا وتدخل الرئيس السيسي حاسم    مها محمد: كوليس ورد وشيكولاتة أجمل من التصوير    مهرجان البحر الأحمر السينمائي يكشف عن لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة    صحة الإسماعيلية تختتم دورة السلامة المهنية داخل معامل الرصد البيئي    قرارات جديدة تعزز جودة الرعاية الصحية.. اعتماد 19 منشأة صحية وفق معايير GAHAR المعتمدة دوليًا    بإطلالة جريئة.. رزان مغربي تفاجئ الجمهور في أحدث ظهور    رئيس جامعة طنطا يفتتح فعاليات هاكاثون 2025 لتحالف جامعات إقليم الدلتا    «هربنا قبل أن نغرق».. شهادات مروّعة من قلب الفيضانات التي ضربت نصف القارة الآسيوية    لأول مرّة| حماية إرادة الناخبين بضمان رئاسى    تشكيل أرسنال - بن وايت أساسي.. وساكا وإيزي وتيمبر بدلاء أمام برينتفورد    في حوار ل"البوابة نيوز".. رامي حمادة يكشف سر فوز فلسطين على قطر وطموحات المباريات المقبلة    كأس إيطاليا.. أتالانتا يضرب جنوى برباعية نظيفة ويعبر إلى الدور القادم    مجموعة مصر.. الأردن يضرب الإمارات بهدف على علوان في شوط أول نارى    هل يجوز التصدق من أرباح البنوك؟| أمين الفتوى يجيب    بدء تحصيل الزيادة الجديدة فى قانون الإيجار القديم اول ديسمبر    انتهاء ترميم المبانى الأثرية بحديقتى الحيوان والأورمان    هل يعتبر مريض غازات البطن من أصحاب الأعذار ؟| أمين الفتوى يجيب    أحمد فهمي يكشف تفاصيل رسالة هنا الزاهد بعد الطلاق    أهالي السيدة نفيسة يوزعون الشربات على الزائرين في المولد.. صور    حبس المتهمين باستغلال شيكات مزورة باسم الفنانة بوسي 3 سنوات    الخارجية السورية: وفد سفراء مجلس الأمن يزور دمشق    عون: لبنان تعب من المهاترات التي مزقته    ما حقيقة انتشار الدواجن السردة بالأسواق المحلية وتأثيرها على صحة المواطنين؟    ضبط 30 طن كفتة منتهية الصلاحية قبل طرحها للتداول بالأسواق داخل منشأة مخالفة بمركز أبو النمرس    الخامس في قنا.. القبض على " قرموش" لشراء اصوات الناخبين    القبض على 4 أشخاص بحوزتهم مبالغ مالية بمحيط لجان انتخابية في جرجا    لجنة إدارة الإسماعيلي تؤكد سعيها لحل أزمات النادي المالية وإنهاء قضايا الفيفا    الجيزة تنفّذ حملة مكبرة بعثمان محرم لإزالة الإشغالات وإعادة الانضباط إلى الشارع    مياه الشرب بالجيزة: كسر مفاجئ بخط مياه قطر 1000 مم أمام مستشفى أم المصريين    في اليوم العالمي لذوي الهمم.. غزة تواجه أعلى معدلات الإعاقة في العالم بسبب حرب الإبادة الجماعية.. 12 ألف طفل فقدوا أطرافهم أو تعرضوا لعاهات مستديمة.. و60% من السكان صاروا معاقين    «الري» تتعاقد على تنفيذ التغذية الكهربائية لمحطتي البستان ووادي الصعايدة    في يومهم العالمي.. 5 رسائل من الأزهر لكل أسرة ترعى طفلا من ذوي الإعاقة    نجوم عالميون يقودون حفل واشنطن لسحب قرعة كأس العالم 2026    وكيل لجنة مراجعة المصحف ورئيس منطقة الغربية يتفقدان مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم    ما مصير امتحانات الثانوية العامة بعد بلوغ «عبد الحكم» سن المعاش؟.. تفاصيل    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    ريهم عبدالغفور تحيي ذكرى وفاة والدها الثانية: "فقدت أكتر شخص بيحبني"    انعقاد الاجتماع الرابع للجنة الفنية المصرية – التونسية للتعاون الاستثماري    الأرصاد: استمرار انخفاض درجات الحرارة الملحوظ على مختلف أنحاء البلاد.. فيديو    السيدة انتصار السيسي تحتفي بيوم أصحاب الهمم: قلوب مليئة بالحب    أطعمة تعالج الأنيميا للنساء، بسرعة وفي وقت قياسي    الصحة تعلن ضوابط حمل الأدوية أثناء السفر| قواعد إلزامية لتجنب أي مشكلات قانونية    لاول مرة فى مستشفي شبين الكوم بالمنوفية..استخراج ملعقة من بطن سيدة مسنة أنقذت حياتها    مجلس حكماء المسلمين يشارك بجناح خاصٍّ في معرض العراق الدولي للكتاب 2025    هالاند: الوصول ل200 هدف في الدوري الإنجليزي؟ ولم لا    توافد الناخبين للتصويت في جولة الإعادة بانتخابات النواب بالإسكندرية| صور    أسعار الفراخ والبيض اليوم الاربعاء 3-12-2025 في الأقصر    الأمم المتحدة تحتفل باليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة    «الوطنية للانتخابات»: إعادة 19 دائرة كانت قرارًا مسبقًا.. وتزايد وعي المواطن عزز مصداقية العملية الانتخابية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الرزاق قرنح يكتب عن الكتابة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 01 - 12 - 2025


إعداد وترجمة: د. سارة حامد حواس
كانت بداياتى مع الكتابة فى السنوات الأولى لانتقالى إلى إنجلترا، حين كنتُ فى الحادية والعشرين تقريبًا لم تكن الكتابة آنذاك ثمرة خطَّة وضعتها لنفسي، بل شيئًا انزلقت إليه مصادفةً كنتُ قد كتبتُ قبل ذلك، عندما كنت طالبًا فى زنجبار (تنزانيا)، لكنها كانت محاولات عبثية لا تتعدَّى التسلية، أو لإمتاع الأصدقاء، أو للمشاركة فى عروض مدرسية، فكانت مُجرَّد نزوات عابرة، لملء فراغ الوقت، أو استعراض المهارة لم أُفكِّرُ يومًا فى تلك المحاولات كخطواتٍ أولى نحو مسارٍ ما، ولا رأيتُ نفسى شخصًا يسعى إلى أن يكون كاتبًا.
لغتى الأولى هى الكيسواحيلية، وهي، بخلاف كثير من اللغات الأفريقية، كانت لغةً مكتوبةً قبل مجيء الاستعمار الأوروبي غير أن هذا لا يعنى أن الثقافة الشفوية لم تكن الأوسع انتشارًا.
كما أنَّ أقدم نماذج الكتابة النثرية فى الكيسواحيلية تعودُ إلى أواخر القرن السابع عشر، ولا تزال تلك الكتابات، حين كنت مراهقًا، حاضرة فى الذاكرة الثقافية، وتُتداول كتابةً وكلامًا.
ومع ذلك، فإن ما كان يصل إلى من الكتابة المعاصرة بالكيسواحيلية لم يتعدَّ قصائد قصيرة فى الصحف، أو قصصًا تُروى فى برامج إذاعية شعبية، أو كتبًا نادرةً تجمعُ قصصًا قصيرة. وغالبًا ما كانت هذه الأعمال ذات نزعةٍ تعليميةٍ أو فكاهيةٍ، موجهة إلى الجمهور العريض، وكان من يكتبها أشخاصٌ يعملون فى مجالات أخرى، معلمين أو موظفين فى الإدارات الحكومية مثلًا لم يخطر لى أبدًا أن الكتابة يمكنُ أن تكون مهنة، أو أنَّنى قد أمارسها بجديةٍ. لاحقًا طرأت تحولات كبيرة على الكتابة بالكيسواحيلية، لكننى أتحدَّثُ هنا عن تصورى آنذاك، حين كانت الكتابة بالنسبة إليَّ نشاطًا عارضًا، بلا حياةٍ حقيقيةٍ فيه، ولا ما يدفعنى إليه إلا المزاح أو الفراغ.
حين غادرتُ وطني، لم تكن طموحاتى كبيرة. كُنَّا نعيشُ مرحلةً صعبةً يسودها الخوف، وحكم تُمارس فيه الإهانة بدمٍ باردٍ. عندما كنتُ فى الثامنة عشرة من عمري، لم أكن أريد سوى النجاة، وأن أجد مكانًا آمنًا يتيحُ لى أن أعيشَ بكرامةٍ لم يكن فى بالى أى شيءٍ يربطنى بفكرة الكتابة.
ولكن هناك أمران غيَّرا منظورى إلى الكتابة فى إنجلترا بعد بضع سنواتٍ: أنَّنى صرتُ أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا بأسئلة الحياة التى كنت أظنها بسيطة، ثم، وهذا الأهم، إحساسى الجارف بالغربة والاختلاف هناك نشأت الكتابة من ذلك الإحساس، لا من قرارٍ واعٍ. بدأتُ أكتبُ بترددٍ، وبشيءٍ من الألم، من دون أن أعرفَ إلى أين أقودُ نفسي، فقط مدفوعًا برغبةٍ فى أن أقولُ أكثر ممَّا أقدرُ على قوله.
ثم، مع مرور الوقت، أدركتُ أنَّنى كنتُ أكتبُ من الذَّاكرة، ومن أى ذاكرةٍ! ذاكرةٌ نابضةٌ بالحياة، شديدة الوضوح، وتقفُ على النقيض من حياتى الجديدة الخفيفة، كأنَّها بلا ثقلٍ، فى إنجلترا صارت الغربة تثيرُ فيَّ إحساسًا حادًّا بما مضى: بحياةٍ مضت، وبأشخاصٍ تركتهم بلا وداعٍ، وبمكانٍ وأساليب حياةٍ فقدتها إلى الأبد، أو هكذا خُيَّل إليَّ حينها.
كنتُ، فى الجوهر، أكتبُ عن تلك الحياة التى فقدتها، وعن ذلك المكان الذى غادرتهُ، وعن كل ما حفظته الذاكرة منه وفى الوقت نفسه، كنت أكتبُ عن وجودى فى إنجلترا، أو عن كونى فى مكانٍ مختلفٍ تمامًا، بعيدٍ وآمنٍ إلى حدٍّ يولدُ فى داخلى شعورًا بالذَّنبِ وندمًا غامضًا.
ومع استمرار الكتابة، بدأ شعورى بالمرارة وانعدام الجدوى يسيطرُ عليَّ: مرارةُ السنوات القريبة التى عشناها، وعبثُ ما اقترفناه بأيدينا حتى صارت حياتنا على ما صارت إليه، وغرابةُ الحياة الجديدة التى وجدنا أنفسنا نعيشها فى المنفى.
يمنحُ السفر بعيدًا عن الوطن المرء مسافةً يرى منها الأشياء بوضوحٍ أكبر، ويحرِّرهُ ويمنحهُ سعةً فى الرؤية كما أنَّ هذه المسافة تكثِّفُ الذَّاكرة، وهي، فى نهاية المطاف، المدى الذى يتغذَّى منه الكاتب.
هناك منطقٌ مألوفٌ فى هذا التسلسل من الأحداث: فالسَّفر بعيدًا عن الوطن يمنحُ مسافةً ورؤيةً أوسع، ويمنحُ الكاتب قدرًا من الاتساع والتَّحرُّر. إنه يضاعفُ من قوة التذكُّر والاسترجاع، وهو العالمُ الداخليُّ الخلفيُّ الذى يستمدُّ منه الكاتب مادته. فالمسافة تتيحُ له تواصلًا نقيًّا مع ذاته الداخلية، والنتيجة هى انطلاق أكثر حريةً لخياله.
إنها رؤيةٌ للكاتب باعتباره عالَمًا مكتفيًا بذاته، ومن الأفضل تركه يعملُ فى عزلةٍ. قد ترى فى ذلك فكرةٍ قديمة الطراز، أو صدىً لخيالٍ رومانسيٍّ من القرن التاسع عشر، يُضخِّمُ صورة المؤلف كذاتٍ بطوليةٍ، لكنَّها مع ذلك فكرةٍ لا تزال تتمتَّعُ بجاذبيةٍ وتجدُ مكانها بطرقٍ شتَّى حتى اليوم.
وإذا كان أحد التصوُّرات يرى فى البُعد وسيلةً لخلق عالمٍ مغلقٍ حول الكاتب، فإن تصوُّرًا آخر يرى فى ذلك البعد تحرُّرًا للخيال النقدِّيِّ بل يذهبُ هذا الرأى إلى أن الاغتراب شرطٌ ضروريٌّ للإبداع، إذ لا يكتبُ الكاتب أعمالًا قيَّمةً إلا حين ينعزلُ عن روابطه ومسؤولياته، وحين يتحرَّرُ من ألفةٍ تخفِّفُ من حدَّة الحقيقة التى ينبغى أن تُقال، والكاتب هنا بصفته بطلًا، أو كاشفًا للحقيقة.
وإذا كانت النظرة الأولى تذكِّرنا برومانسية القرن التاسع عشر، فإن الثانية تستدعى حداثيى العقود الأولى من القرن العشرين ووسطه فقد كتب كثيرٌ من كبار أدباء الحداثة الإنجليز بعيدًا عن أوطانهم، ظنًّا منهم أنَّهم لا يستطيعون قول الحقيقة كما يرونها إلا خارج المناخ الثقافى الذى اعتبروه خامدًا ومكبَّلًا.
لكنَّ هناك رأيًا مضادًّا أيضًا: وهو أن الكاتب، إذا عاش فى عزلةٍ بين غرباءٍ، فسيفقدُ توازنه وإحساسه بالناس، وبأهمية ومقدار صحة رؤيته لهم ويُقال إن هذا ينطبق خصوصًا فى زمن ما بعد الاستعمار، وعلى الكُتَّاب المنحدرين من أراضٍ كانت فى الماضى مستعمرات أوروبية.
فالاستعمار رسَّخ نفسه من خلال تراتبيةٍ عِرقيةٍ تزعمُ تفوُّقًا ثقافيًّا ومعرفيًّا وحضاريًّا، وسعى بجهدٍ لإقناع المقهورين بأن يؤمنوا بهذه الصورة عن أنفسهم.
أما الخطر الذى يواجهُ الكاتب ما بعد الاستعماري، فهو أن هذه الفكرة قد تكونُ نجحت بالفعل، أو ربما تنجحُ حين يعيشُ فى عزلةٍ غريبة داخل أوروبا.
فذلك الكاتبُ قد يتحوَّلُ إلى مهاجرٍ ساخطٍ، يسخرُ من أبناء وطنه الباقين هناك، وسط تشجيعٍ من ناشرين وقرَّاءٍ لم يتخلَّصوا حقًّا من عداءٍ دفينٍ، ويسعدهم أن يكافئوا كل حدَّةٍ أو قسوةٍ تُوجَّهُ إلى العالم غير الأوروبي ووفق هذا المنظور، فإن الكتابة بين الغرباء تعنى الاضطِّرار إلى الكتابة بنبرةٍ قاسيةٍ لتبدو صادقًا، أو أن تتبنَّى شيئًا من ازدراء الذات كأداةٍ للحقيقة، وإلا عُدُّتُ كاتبًا عاطفيًّا متفائلًا لا يُعتدَّ به.
كلا الرَّأيين اللذين يقولان إنَّ البعد محرِّر، ومشوِّه فى آنٍ، لا يمثلان الحقيقة الكاملة، وإن كان ذلك لا يعنى أنهما يخلوَان تمامًا من الصدق.
لقد عشتُ وأنا بالغٌ بعيدًا عن بلدى الذى وُلدت فيه، مستقِرًّا بين غرباءٍ، ولا أستطيعُ الآن أن أتخيَّلَ شكل حياةٍ أخرى لى غير هذه.
أحاول أحيانًا أن أتخيَّلها، لكننى أعجزُ أمام استحالة حسم الخيارات الافتراضية التى أضعها أمام نفسي..
وهكذا لم يكن ممكنًا أن أكتبَ وأنا فى حضن ثقافتى وتاريخي، وربما لا يكونُ ذلك ممكنًا لأى كاتبٍ على نحوٍ عميقٍ. فأنا أعلمُ أنَّنى جئتُ إلى الكتابة هنا، فى إنجلترا، فى حالة اغتراب، وأُدرك الآن أن هذه الحالة نفسها، أن تنتمى إلى مكانٍ وتعيشُ فى آخرٍ، كانت موضوع كتابتى طوال السنوات، لا كتجربةٍ فريدةٍ مررتُ بها أنا وحدي، بل كواحدةٍ من حكايات عصرنا.
كما أُتيح لى أن أقرأ على نحوٍ واسعٍ فى إنجلترا. أمَّا فى زنجبار، كانت الكتب باهظة الثمن، والمكتبات قليلة وضعيفة الحال.
أمَّا المكتبات العامة، وهى قليلة كذلك، فكانت فقيرة وقديمة. وقبل كل شيءٍ، لم أكن أعرفُ ما الذى أريدُ قراءته أصلًا، فكنتُ أكتفى بما يقعُ بين يديَّ مصادفةً.
قد بدا لى فى إنجلترا أنَّ فرص القراءة لا حدَّ لها، ومع الوقت بدأتُ أرى اللغة الإنجليزية كمنزلٍ فسيحٍ رحب الجوانب، يستقبلُ المعرفة والكتابة بكرمٍ غير متعمِّدٍ. وكانت تلك أيضًا طريقًا أخرى إلى الكتابة.
أؤمنُ أنَّ الكُتَّاب يبلغون الكتابة من خلال القراءة؛ فمن تراكم الخبرات، ومن التكرار والصدى، يصوغون تلك النغمة الداخلية التى تمكِّنهم من الكتابة وهذه النغمة أمرٌ دقيقٌ وحسَّاسٌ، فهى ليست طريقة منظَّمة يمكن تفسيرها بسهولةٍ، رغم أن نُّقاد الأدب يحاولون ذلك، ولا أداةَ وظيفية تدفعُ السَّرد قُدمًا، لكنها، حين تأتى فى موضعها، تصبح نَسَقًا معقّدًا من الحركات السردية، يضفى على العمل صدقًا وإقناعًا.
ولا أقصد بهذا أن أجعل الكتابة لغزًا غامضًا، أو أزعم أنها عصيَّة على التحليل، أو أن النقد الأدبى نوعٌ من الوهم. فالنَّقد الأدبى يعلِّمنا الكثير عن النَّصِ وعن الأفكارِ التى تتجاوزه، غير أنَّنى لا أظنُّ أنَّ الكاتب يجدُ صوته الكتابيِّ عبر النَّقد؛ فذلك الصوت يأتى من مصادر أخرى، فى مركزها القراءة نفسها.
أمَّا التعليم الذى تلقيته فى زنجبار فكان تعليمًا استعماريًّا بريطانيًّا، رغم أننا، فى مراحله الأخيرة، كنا دولة مستقلَّة، بل وثورية لفترةٍ وجيزةٍ وربما يصحُّ القول إن معظم الشباب يمرُّون بمرحلةٍ مدرسيةٍ يكدِّسون فيها معرفةً لا يرون لها معنى آنذاك، أو تبدو لهم مفصولةً عن واقعهم. لكن الأمر لدينا كان أكثر التباسًا؛ إذ جعلتنا المعارف التى كنا نتلقَّاها أشبه بمستهلكين عَرَضيين لموادٍ صُمِّمت لعالمٍ آخر.
ومع ذلك، وكما يحدثُ مع غيرنا من التلاميذ، خرج من تلك التجربة شيءٌ مفيدٌ. فقد تعلَّمتُ من نظام التعليم هذا ، إلى جانب أمورٍ قيَّمةٍ كثيرة، كيف كان البريطانيون يرون العالم، وكيف كانوا يروننى أنا لم أفهم ذلك فورًا، بل تبيَّن لى مع الزمن، ومع تراكم خبراتٍ أخرى وتأمُّلاتٍ لاحقةٍ.
لكن لم يكن ذلك مصدرى الوحيد للتعلُّم؛ فقد كنتُ أتعلمُ أيضًا من المسجد، ومن مدرسة القرآن، ومن الشوارع، ومن البيت، ومن قراءاتى العشوائية الحرَّة وغالبًا ما كانت المعانى التى أتعلَّمها من هذه الأماكن تناقضُ تمامًا ما أتعلمهُ فى المدرسة.
ومع أن هذا بدا مربكًا ومؤلمًا أحيانًا، وربما مُحبطًا، إلا أنَّه مع مرور الوقت تحوَّل إلى تجربةٍ حيويةٍ، وعمليةٍ ديناميكيةٍ للتعامل مع تناقضات العالم، حتى وإن بدأت من موقعٍ هشٍّ وضعيفٍ.
ومن هذا الصراع تولَّدت طاقة على الرفض والمقاومة، وعلى التمسُّك بالتحفُّظات التى تغذيها المعرفة والزمن ومنه أيضًا نشأت القدرة على التقبُّل والاستيعاب، وعلى الاعتراف بالاختلاف، والإيمان بإمكانية وجود أساليب أكثر تعقيدًا واتساعًا للفهم والمعرفة.
وحين بدأتُ أكتبُ، لم يكن بوسعى أن أندسَّ ببساطةٍ فى الزحام، آملًا أن يُسمع صوتى يومًا ما بفضل الحظِّ أو مرور الوقت. كان عليَّ أن أكتب وأنا مدرك أن بعض قُرَّائى المحتملين ينظرون إليَّ من زاويةٍ معينةٍ، عليَّ أن أحسب حسابها كنتُ واعيًا بأننى سأقدِّم نفسى لقُرَّاءٍ قد يرون أنفسهم المعيار، متحرِّرين من أى ثقافةٍ أو هُويةً عرقيةٍ، متعافين من الاختلاف وكنتُ أتساءل دائمًا: كم يمكننى أن أفصح؟ وكم يمكن أن أُفترض معرفته لدى القارئ؟ وهل ستظل حكايتى مفهومة إن لم أفسِّر أكثر؟ وكيف يمكن أن أوازن بين كل ذلك، وأظلّ أكتب أدبًا روائيًّا؟
وبالطبع، لم تكن هذه التجربةُ فريدةً لى وحدي، رغم أن تفاصيلها تبدو كذلك كلما اشتبك المرء معها ويمكن القول بأنَّها ليست حتى تجربةٍ معاصرةٍ أو خاصة تمامًا كما أصفها، بل سمة ملازمة للكتابة ذاتها، فالكتابة، فى أصلها، تبدأُ من شعورٍ بالهامشية والاختلاف ومن هذا المنطلق، فالقضايا التى أثيرها ليست جديدة، لكنها فى زماننا تتلوَّن بخصوصية عصرها، بالإمبريالية، والاقتلاع من الجذور، والواقع الذى نعيشه.
وأحد أبرز ملامح واقعنا اليوم هو ذلك الترحالُ الواسع للغرباء إلى أوروبا. ومن ثمَّ، لم تكن هذه الأسئلة هواجسى وحدي؛ فبينما كنتُ أنشغل بها، كان آخرون، ممن وجدوا أنفسهم غرباء كذلك فى أوروبا، يواجهون المشكلات ذاتها، ويحقُّقون نجاحًا كبيرًا فى التعامل معها وربما أعظم ما أحرزوه أنهم منحونا فهمًا أكثر دقةً ورهافةً للسرد، والطريقة التى ينتقلُ بها ويتحوَّل من سياقٍ إلى آخر. وقد جعل هذا الفهمُ العالمَ أقلَّ غموضًا، وأقربَ إلى الإدراك، بل أصغر حجمًا.
الكتابة ليست عن أمرٍ واحد، وليست عن قضيةٍ بعينها أو هَمٍّ من دون غيره. ولأنها معنيةً بالحياة الإنسانية على نحوٍ أو آخر، فإنها، عاجلًا أم آجلًا، تمسُّ القسوة والحب والضعف.
وأنا أؤمنُ أنَّ على الكتابة أيضًا أن تكشفَ ما يمكن أن يكون على نحوٍ مختلفٍ، أن تُظهِر ما لا تراه العين المتسلطة الصلبة، وأن تُبرز ما يجعلُ أشخاصًا، رغم صِغَر شأنهم فى الظاهر، واثقين بأنفسهم مهما احتقرهم الآخرون لذلك وجدتُ أن من الضرورى أن أكتبَ عن ذلك أيضًا، وأن أفعلَ ذلك بصدقٍ، بحيث تظهرُ القسوة والفضيلة معًا، ويبرزُ الإنسان ما وراء هذا التبسيط وهذه الصُّور النمطية.
وحين ينجح هذا، ينبثقُ منه جمالٌ من نوعٍ خاص.
تعلمتُ أن أجد متعة فى القراءة ببساطةٍ لأنَّنى أحب الحكايات. فى البداية، حين تكون طفلًا، تُروى لك القصص، وهذا ما كان يحدث معنا فطريقتنا فى العيش ونحن أطفال، كانت مسؤولية النساء بالكامل. كنا نعيشُ فى إطار عائلةٍ ممتدةٍ، وحين أقول "النساء" فأنا أعنى أكثر من واحدةٍ، العمَّات وغيرهنَّ وكان جميلًا حقًّا أحيانًا أن أجلس قريبًا منهنَّ وهنَّ يروين القصص لبعضهن، أو أحيانًا يُشركننا فيها، ومن هنا بدأ الأمر.
ثم حين تعلَّمتُ القراءة، جاءت الكتب، ولم تكن كثيرة فى ذلك الوقت. أذكر مثلًا حكايات إيسوب، مترجمةً إلى السواحيلية، وكانت من أوائل الكتب التى قرأتها فى المدرسة. لكن ذلك لم يكن يشبه القراءة التى تأتى لاحقًا، تلك التى تقوم فيها بإعادة قراءة الشيء نفسه مرات ومرات يبدو أن الأطفال، وأقولُ هذا بعدما لاحظته مع أطفالي، يمكنهم قراءة الكتاب نفسه عشرين مرة من دون أن يملِّوا. أظنُّ أنَّ الألفة جزءٌ من متعة القراءة أيضًا.
لكن مع مرور الوقت، يحلُّ الفضول محلَّ تلك الألفة، وتتحوَّلُ القراءة إلى تجربةٍ مُرضيةٍ بعمق، لأنك لا تستمتعُ فحسب، بل تتعلَّمُ أيضًا.
بالتأكيد، الكتب التى نقرؤها فى الصِّغر تترك أثرًا كبيرًا وكذلك القصص التى نسمعها فى تلك المرحلة قد لا نتذكَّرُ دائمًا تجربة القراءة نفسها، لكن بعض القصص تظلُّ حاضرةً فينا لوقتٍ طويلٍ، وتصبحُ، بالنسبة إلى الكاتب، بمكانة ينابيع يعودُ إليها ليستكشفها من جديدٍ.
وعندما تعودُ لتقرأ قصة مثل ‹›قمر الزمان والأميرة بدور››، وهى من القصص التى أذكرها وأحبها، تكتشفُ حين تقرؤها بنسخةٍ موجَّهةٍ للكبار أنَّها أكثر تعقيدًا بكثيرٍ مما كنتُ تتخيله طفلًا. فيتَّضح أن تلك القصص التى قرأناها فى الصِّغر كانت تحتوى على طبقاتٍ متعددةٍ، تصبح فيما بعد مصادرَ محتملةٍ لمغامرةٍ جديدةٍ، وهذه المرَّة مغامرة قراءة.
الكتابة لم تكن مهنةً ممكنةً أصلًا وأنا أكبر لم أعرف أى شخصٍ يعيشُ من الكتابة أو يمتهنها بصورةٍ احترافيةٍ لذلك لم يكن هذا ضمن أحلامي، فكان بالنسبة إليَّ أشبه بأن تحلمَ بأن تصبحَ رائد فضاء، وهذا أمرٌ بعيدٌ تمامًا عن الواقع. فلم يكن هناك أحدٌ تعرفهُ يمارسُ ذلك.
كنتُ أسمعُ الأطفال يقولون مثلًا: "أريد أن أصبح سائق قطار"، أو "مبرمج حاسوب"، لكننى لا أذكرُ أننى فكَّرتُ فى شيءٍ كهذا بوضوحٍ. أظنُّ أنَّنى كنتُ، لفترةٍ طويلةٍ، منفتحًا على ما قد تأتى به الحياة كنتُ ببساطةٍ أستمتعُ بالمدرسة، والتعلُّم، وبكل ما يرتبطُ بهما، وأفترضُ أنَّنى سأظلُّ أفعل هذا لوقتٍ طويلٍ. وربما كان ما أردَّتهُ حقًّا هو أن أظلُّ تلميذًا.
لا أرى الكتابة مجرد متعة، بل ضرورة. وهذا ما تحدثتُ عنه فى محاضرتى عند تلقِّى جائزة نوبل فى الآداب فبينما كنتُ أبدأ فى التفكير ببعض المسائل، كانت هناك حاجات ملحة تدفعنى للكتابة عنها، ولهذا بدأتُ أكتب.
أما استمرارى فى الكتابة، فسببه أنَّنى كل يومٍ أواجه أمورًا تحتاجُ إلى أن تُثار وتُكتب، وتُطرح للأسئلة والتأمل. وهذا هو دافعى الأساسي: أن أتكلم عمَّا أراه، وأن أفعل ذلك بطريقةٍ تساعدنى على فهم ما أراه بعمقٍ أكبر، وفى الوقت نفسه أن أنقلَ هذا الفهم إلى الآخرين، إن وجدوا فيه اهتمامًا أو صدى.
أرى أن الكتابة وسيلة مهمة لتوسيع الرؤية الإنسانية ومشاركتها مع الآخرين. وهذا لا يعنى بالضرورة أن ما نكتب يكون دائمًا نافذ البصيرة أو جديدًا تمامًا فأحيانًا نقرأ ما يقوله الآخرون ونجدُ فيه صدى لتجاربنا وفهمنا، وربما نجدُ فيه ضوءًا يساعدنا على إدراك أوسع، وأحيانًا لا يكون أكثر من تأكيدٍ لما كنا نحسُّه ولم نثق به تمامًا هناك أشياء كثيرة ومعقدة تحدث، سواء فى عملية الكتابة نفسها أو فى تفاعل القارئ معها. وأنا أتكلمُ هنا بصفتى كاتبًا وقارئًا فى الوقت ذاته.
والجانب الممتع فى الكتابة: أنَّك لا تكتبُ لتحادث نفسك فقط، بل تتحاورُ مع قُرَّاءٍ متخيلين، حتى لو لم تتصورهم بوضوحٍ. فأنت لا تكتب مذكراتٍ خاصة، بل تعرف فى داخلك أنَّك تخاطبُ أناسًا آخرين ولهذا تتناولُ فى كتابتك أحداث العالم، وقد يكون ذلك فى شكل حكاية لكن الرواية ليست مجرد سرد؛ إنها أداةٌ لمواجهة القضايا، ومناقشة الظلم، والتعبير عن الألم والحب أيضًا.
تأتينى أفكار الكتابة من تلقاء نفسها، فلا أتعذَّبُ فى البحث عنها. أشعرُ أنَّ هناك عددًا محدودًا من الموضوعات التى تشغلُ بعض الكُتَّاب بحقٍّ، خصوصًا أولئك الذين يكتبون بطريقةٍ تأمليةٍ أكثر هناك أمورٌ تعودُ إلينا مرارًا، ربما مرتبطة بتجاربٍ معينة أو مخاوفٍ لم نفهمها بعد ونحتاجُ إلى الاستمرار فى استكشافها أو الحديث عنها.
بعد انتهائى من روايةٍ ما، غالبًا ما أجدُ نفسى أقول: "لكننى لم أتحدث عن كذا أو كذا››، وقد لا أتمكن من معالجة تلك الفكرة فورًا، لكنها تبقى فى ذهني، تنتظرُ وقتها. أقولُ لنفسي: عندما أستطيعُ، سأعودُ إليها، فهناك جانب لم أتناوله بعد.
وربما أعودُ وربما لا، لكنها تبقى موجودة، تدورُ فى الذهن وتختمرُ ببطءٍ، وتبقى قريبة كأنها تنتظرُ لحظة الانبثاق وأحيانًا يكون ما يشعلُ الفكرة مشهدًا أراه، أو شيئًا أقرؤه، يمنحها تلك الشرارة السعيدة لتبدأ فى التكوُّن.
وحين تبدأُ الفكرة فى الظهور على هذا النحو، أتابعها بالقراءة عنها أكثر، والتفكير فيها، وتدوين الملاحظات فليست المسألة مجرد فكرة تظهرُ فأتخذ القرار بالكتابة عنها فورًا، بل تحتاجُ إلى وقتٍ لتتحرَّك وتتشكَّل وتكتسبُ ملامحها قبل أن تصبح واضحة وقابلة لأن تتحوَّلُ إلى عملٍ أدبيٍّ.
أفضل نصيحة يمكن أن تُقدَّم للكاتب هى ببساطة: اكتب، ولا توجدُ طريقة سحرية أو وصفة جاهزة. لا يمكنك أن تقول "إذا وقفت على رأسك مرتين فى اليوم ستصبح كاتبًا." فالأمر أبسط وأعمق من ذلك: عليكَ أن تكتب، وأن تستمرَّ فى الكتابة، وألا تدع الإحباط يوقفك. فقط واصل الكتابة.
قد يحدثُ أن تكتشفَ فى النهاية أنَّك لستَ فى المجال المناسب، لكنَّك لن تعرفَ ذلك إلا من خلال التجربة نفسها، لا من خلال الشكِّ فى نفسك ستكتشفهُ فقط بخوض عملية الكتابة كاملة وحتى إن لم ينجح الأمر، وإذا لم تتمكَّن من جذب أى اهتمامٍ على الإطلاق بما تكتبهُ، فقد يكونُ ذلك إشارة إلى أنَّك فى الاتجاه الخاطئ ومع ذلك، لا أنصح بالاستسلام حينذاك، بل أنصحُ بالاستمرار والمُضى قدمًا.
أكثر ما أحبه فى الكتابة، ربما اللحظة التى تنتهى فيها! فالكتابة تكون فى أجمل حالاتها عندما تكتملُ،أو عندما تكون انتهت بالفعل. بالطبع، لعملية الكتابة ذاتها متعتها أحيانًا؛ فبين الحين والآخر، فى نهاية يوم من العمل، قد يمكنك أن تقول: "نعم، كان يومًا جيدًا، كتبتُ ما يرضينى اليوم" لكن هناك أيضًا أيام تنهضُ فيها وأنت تفكر: "يا له من هراءٍ كتبتُه! عليَّ أن أبدأ من جديدٍ غدًا».
ورغم ذلك، أظنُّ أنَّ أجمل لحظةٍ فى الكتابة هى تلك التى تقولُ فيها لنفسك: "نعم، أعتقدُ أنَّنى انتهيت. هذا هو العمل كما يجب أن يكون».
لديَّ كُتَّاب مفضلون أكثر من كونى أملك كاتبًا واحدًا مفضلًا يمكننى تسميته. وهذه القائمة تتغيَّرُ من وقتٍ لآخر. فلو عدتُ عشر سنوات إلى الوراء، لستُ متأكدًا من أنَّنى كنتُ سأختار الأسماء نفسها. ربما بقيَ بعضهم، لكن الذائقة تتطَّورُ.
فى الآونة الأخيرة استمتعتُ بقراءة كُتَّاب أفارقة مثل «مازا منجيستِه» و«يفون أديامبو أووور»، وأعتقدُ أنهما يقدمان أعمالًا رائعةً؛ وكلاهما نشر حديثًا روايته الثانية فى بداية مسيرته الأدبية. كما أنَّنى أُعجب بكُتَّاب مثل «ج. م. كوتزي» و«نور الدين فرح» و«مايكل أنداتجي»، وهناك غيرهم كثيرون.
إذن، الأمر ليس حصرًا على "مفضَّلٍ واحدٍ"، بل هو انفتاحٌ على العديد من الكُتَّاب المبدعين، أقرأ منهم بقدر ما يسمحُ به الوقت والظروف، فالفرصة ليست دائمًا متاحة لاكتشاف الجميع أو قراءة كل ما نودُّ، ولكنَّ هناك كثيرين أعتبرهم من المفضلين.
ما يلهمنى للكتابة هو قدرتى على التعبير الصادق عمَّا أراه وما يشغلنى من قضايا لا يقتصرُ الأمر فقط على أن عينيَّ مفتوحتان فأكتب كل ما يلفتُ انتباهي، بل إن هناك همومًا أعمق تدفعنى إلى الكتابة على سبيل المثال، يثيرُ اهتمامى كثيرًا كيف يتمكَّنُ الناس من تجاوز الصدمات واستعادة توازنهم، ولا أقصدُ بذلك اللاجئين وطالبى اللجوء فقط، بل البشر جميعًا، كيف يقدرُ المرء على استخراج معنى أو قوة من المحن ومن التجارب القاسية التى يمر بها.
كان يشدُّنى دائمًا أيضًا موضوع العائلة، بخاصة كيف يمكن أن يتعايشُ داخلها الحب والسلطة فى الوقت نفسه. فمعظم العائلات يربطها الحب، لكن فى داخل هذا الحب تتولَّدُ صراعات على النفوذ أو التحكم هذه التعقيدات هى ما يثير اهتمامي: كيف يمكنُ أن تنبعُ قسوة من قلب الطيبة، كأنَّ الحنان يتحوَّلُ إلى مطالبةٍ بالطاعة أو الخضوع حتى لا «نُخجل العائلة» بتصرفٍ معين.
كما يهمُّنى بشكلٍ خاص وضع المرأة فى ثقافتنا، وفى ثقافاتٍ كثيرة أخرى. هذه كلها أمور أشعرُ بأنَّها تستحقُّ أن يُكتب عنها، وأن يُقال فيها شيء صادق. وأخيرًا، هناك أيضًا دافع آخر لا يقل أهمية، وهى متعتى فى أن أخلق من الكتابة شيئًا جميلا وممتعًا.
لا أعلمُ إن كان للكاتب مكان محدد فى الحياة العامة ربما هناك أدوارٌ متعددةٌ، وليس دورٌ واحدٌ ، وهذا أمرٌ جيدٌ فى رأيي. يسعدنى أن يكون للروائيين حرَّية اختيار ما يناسبهم وما يشعرون أنه الأفضل لطريقتهم فى الكتابة والتفاعل مع الناس. قد نختلفُ جميعًا فى تصوراتنا عمَّا ينبغى أن يكون عليه الكاتب أو نوع الكتابة، لكن من وجهة نظري، من الأفضل أن يحدِّدُ كل كاتبٍ علاقته بجمهوره ومجتمعه بطريقته الخاصة، من دون أن نقول: ‹›هكذا يجب أن يكون الأمر›› أو ‹›هكذا لا يجوز››. أعتقد أن جميع الطرق مشروعةٌ ما دامت صادقةً.
أما عن عملى كأستاذٍ فى جامعة كِنت، وما إن كان هناك تعارضٌ بين عملى الأكاديمى وعملى الإبداعي، فأعتقد أن التعايش بينهما ممكن وسهل فى الغالب. على المستوى الفكري، لا أرى أى صراعٍ بين أن أكون أكاديميًّا فى الأدب وبين أن أكون كاتبًا للروايات. فى الواقع، كثيرًا ما يُغنى أحد الجانبين الآخر فحين أقرأ كتابًا أو أُحضِّرُ لمناقشة نصٍّ مع الطلاب، أفكِّرُ أيضًا فى الطريقة التى كُتب بها، وكيف استطاع الكاتب أن يحقِّقَ تأثيرًا معينًا، وهذا بدوره يعود إليَّ حين أكتب، فأحاول أحيانًا الاستفادة من هذه الأفكار أو التجارب الأسلوبية.
تبدأ الصعوبة لاحقًا مع التقدُّم فى المسيرة الأكاديمية، حين تتراكمُ المسؤوليات الإدارية والمؤسسية التى لا علاقة لها مباشرةً بالتدريس أو القراءة أو الكتابة. يمتلئُ الذهن حينها بأمورٍ أخرى تجعلُ إيجاد المساحة الذهنية للكتابة أكثر صعوبةً.
ومع ذلك، لا يعنى هذا أن العمل الإدارى أو المؤسسى خالٍ من المعنى، فأنا أجدُ فيه أحيانًا قدرًا من الإلهام والمتعة أحب أن أكونُ جزءًا من الجامعة، وأن أفكِّرَ فى الأفكار التنظيمية، وكيفية تطوير الأقسام أو تحسين سير العمل هذا أيضًا يثير اهتمامي، وإن لم يكن بقدر الكتابة والإبداع لكنه على أية حال يستهلك الوقت والطاقة، ومع مرور السنوات يصبحُ من الأصعب بعض الشيء أن تجد المساحة التى تحتاجها إلى التفكير والكتابة الإبداعية.
أعتقد أن التخطيط المسبق ممكن جدًّا، لكن الأمر فى النهاية يعتمدُ على نوع الكتابة التى يقوم بها الشخص فإذا كان الكاتب يركِّزُ على الحبكة، فربما يحتاجُ فعلًا إلى تخطيط كل تفصيلةٍ حتى لا يضيعُ منه تسلسل الأحداث أو يختلطُ عليه خط القصة، هكذا أتصور، على الأقل غير أنَّنى لا أكتبُ بهذه الطريقة، لأن أعمالى ليست مبنية على الحبكة بشكلٍ أساسيٍّ.
مع ذلك، هناك قدرٌ من التخطيط لا بد منه، وإن كان بطريقةٍ غير صارمةٍ. عادةً ما يستغرقُ الأمر وقتًا بالنسبة لى لأفكِّر فى الفكرة، ولكن ليس بشكلٍ مكثَّفٍ. لا أجلس أمام الورق أقول لنفسي: «ما الخطوة التالية؟».بل تدورُ الأمور فى الخلفية، بينما أمارسُ حياتى وأفكِّرُ فى أشياءٍ أخرى، حتى تأتى اللحظة التى أشعرُ فيها أن الوقت حان لأبدأ فى تدوين بعض الملاحظات. ومن هناك تبدأ العملية فى شكل مذكراتٍ قصيرةٍ تتراكمُ تدريجيًّا، إلى أن يأتى وقت الكتابة الفعلية.
ثم تتطوَّرُ المسودة الأولى، وبعدها مع المسودة الثانية تظهر تفاصيل جديدة، وربما تتكشَّفُ اتجاهات لم تكن واضحة من قبل. إذًا، هناك قدرٌ من التخطيط، لكن فى المقابل أترك دائمًا متسعًا للكتابة نفسها كى تقودُ الطريق وتفتحُ أمامى خياراتٍ جديدةٍ وأنا أمضى قدمًا.
الكثير من المجلات والدوريات أصبحت تُنشر الآن عبر الإنترنت، وهذا بالتأكيد ترك أثره على طريقة إصدار النصوص القصيرة، وربما أثَّر بالفعل على طبيعة النشر بشكلٍ عام.
كما أعرف بعض الأشخاص الذين يفكرون بطريقةٍ أكثر طموحًا، إذ بدأوا بنشر كتب كاملة على الإنترنت، بحيث يستطيعُ القارئ أن يقرأها مباشرةً، أو أن يطلبُ نسخةً ورقيةً منها تُطبع خصيصًا له وتُرسل إليه بالبريد. أعرفُ موقعًا واحدًا على الأقل يقوم بهذا بالفعل، تشترى الكتاب فيقومون بطباعة نسخة واحدة فقط وإرسالها إليك.
ويبدو أنهم قادرون على فعل ذلك لأن التكنولوجيا جعلت طباعة نسخة واحدة أمرًا سهلًا وغير مكلِّفٍ، على عكس السابق حين كانت الجدوى الاقتصادية تعتمدُ على عدد النسخ المطبوعة. فى الماضى كان من غير الممكن طباعة عدد قليل من النسخ من دون أن تكون التكلفة مرتفعة جدًّا.
لكن هذا التطور غيَّر قواعد اللعبة، وأصبح من الممكن، من حيث المبدأ، أن يُصدر للكاتب خمس نسخ فقط من روايته، ربما هذا مبالغٌ فيه قليلًا، لكن يمكنه أن ينشر لجمهورٍ صغيرٍ لا يتجاوز مائة أو مائتين من القراء، ويظلُّ ذلك مشروعًا قابلًا للاستمرار اقتصاديًا. وهذا، بلا شكٍّ، سيحدث فرقًا كبيرًا فى عالم النشر والكتابة مستقبلًا.
ليس شرطًا أن أفتتح الرواية بسؤالٍ، ولا بالضرورة سؤالًا يحتاجُ إلى إجابةٍ محددةٍ، بل فكرةٍ ما. ففى الواقع، كثيرٌ من القصص هى محاولةٌ من الكُتَّاب للإجابة عن أسئلةٍ شخصيةٍ أكثر من كونها أسئلة يطرحونها على القارئ. على الكاتب أن يمتلكُ إيمانًا بأفكاره وبما يشعرُ أنه بحاجةٍ إلى حديثه عن العالم.
إيجاد الصوت الكتابى ليس عملية آلية تأتى من اختيار الكلمات أو الأسلوب فحسب، بل هو أشبه بالموسيقى، يتدفَّقُ بشكلٍ طبيعيٍّ ويُعدُّ جزءًا من أدوات الكاتب الفنية. إنه أسلوبٌ مميزٌ يتكوَّن بمرور الوقت والممارسة المستمرة.
طقوس الكتابة
لقد كتبتُ فى أماكنَ كثيرةٍ. كنتُ فى السابق أكتبُ كثيرًا وأنا جالسٌ على كرسيٍّ فى غرفة المعيشة، أضعُ الدفتر على ذراع الكرسى وأكتبُ. لكن بمرور الوقت، بدأتُ أتحوَّل نحو التكنولوجيا فى البداية استخدمتُ آلة كاتبة، ثم انتقلتُ إلى جهاز «أمستراد» الذى كان يستغرقُ وقتًا طويلًا ليبدأ العمل، ويصدر صوتًا مزعجًا أشبه بالطنين. أما الآن فأكتب مخطوطاتي، مثل معظم الناس، على الحاسوب. أحيانًا أكتبُ ملاحظات فى دفترٍ صغيرٍ عندما أكونُ فى القطار أو السيارة، لكنها لا تبدو نصوصًا مكتملةً حتى أنقلها إلى الشكل الرقمي.
أمَّا عن جدولى فى الكتابة، فيعتمد الأمر على طول العمل. فالروايات مثلًا تحتاجُ إلى عدَّة أشهر لكتابتها كاملة، وأحب أن أضمن لنفسى فترة محددة لا تشغلنى فيها مشروعات أخرى كبيرة ومع ذلك، لا بأس فى كتابة نصوص قصيرة وتركها جانبًا لبعض الوقت. فى إحدى الروايات كتبتُ الفصل الأخير أولًا، ثم تركته لسنواتٍ قبل أن أعودُ إليه لاحقًا وأدمجهُ فى عملٍ نثريٍّ أطول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.