محمد سيد ريان حالة مصطفى نصر واختياره الإقامة والاستقرار بالإسكندرية طوال حياته ليست غريبة على كثير من المبدعين السكندريين الذين ظلوا بالمدينة، ورفضوا الانتقال للقاهرة حيث الفرص والوصول السريع ومن ثم الشهرة والجوائز والمناصب وغيرها من المزايا المادية والمعنوية. حتى فى المشهد الأخير له فى هذه الدنيا نجده يرفض البعد، فالمستشفى الذى ظل يتردد عليه للعلاج (العمال -كرموز)، والمسجد الذى شيعت منه الجنازة (مسجد سلطان)، والمدفن (مقابر عامود السواري)؛ تلك الأماكن الثلاثة (المستشفى - المسجد - المقبرة) كلاهما لا يبعدان كثيراً عن منزله فى شارع الأقحوان بمنطقة راغب القريبة من محطة مصر والمسافة بينهما حدود كيلومتر واحد، وهو ملخص لحياته كلها! على الرغم من اختلاف الأجيال بيننا، فقد تفتح وعيى بالتسعينيات وأوائل الألفية مع أغلفة رواياته بمكتبات الإسكندرية، وخاصة دار الهلال ودار مطابع المستقبل، ولم أعرفه بشكل شخصى إلا فى سنواته العشر الأخيرة، حيث جمعتنا لقاءات عديدة بعضها بمنزله أو بمعارض الكتاب بالإسكندرية، وأجريت معه منذ حوالى 5 سنوات حوارًا مطولًا نُشر ب «مجلة الثقافة الجديدة» بتكليف ومحبة من الأستاذ والصديق مسعود شومان، ولم تنقطع محاولاتى للتواصل معه خلال الفترة الأخيرة وكان يسعدنى جداً حفاظه على التواجد المستمر بصفحته الشخصية على ال «فيسبوك» وأتذكر أننى سألته عن ارتباطه وتجربته على مواقع التواصل الاجتماعى وتأثيرها على الناحية الفكرية والأدبية فقال لي: أنا خجول بطبعى وهذا أخرنى كثيراً، وال «فيسبوك» أخرجنى من أزمتى هذه، فقد اتخذته طريقة للتعبير عن نفسي، فعوضنى كثيراً ووفر علىّ مشوار أن أخرج وألتقى مع الناس خصوصاً مع المرض وتدهور الصحة فى الفترة الاخيرة». مصطفى نصر كاتب سكندرى كبير ومهم، ولُد بالإسكندرية، لأصول صعيدية، وهو عضو باتحاد كتّاب مصر ونادى القصة بالقاهرة، وعضو هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالإسكندرية، وكان عضو أمانة مؤتمر أدباء مصر فى الأقاليم عن المدة من 1985 إلى 1990. وعلى الرغم من أن جوائز الدولة بفروعها المختلفة خذلته رغم ترشحه أكثر من مرة، فقد تم تكريمه من جهاتٍ ثقافية عديدة، ومنها، على ما أتذكر فى الفترة الأخيرة حصوله على جائزة التميز فى الرواية من اتحاد كتاب مصر 2020، كما تم تكريمه بملتقى الشارقة للتكريم الثقافى عام 2021. صدرت له العديد من الروايات، والمجموعات القصصية، وكتب المقالات، وغيرها، ومن أبرز أعمالها : جبل ناعسة – الجهينى – الهماميل - سينما الدورادو – المساليب – النجعاوية - يهود الإسكندرية - ما لم يقله البحر - دفء المرايا ، الستات. نُشرت له قصص وسيناريوهات للأطفال فى العديد من المجلات مثل: «العربى الصغير» و«براعم الإيمان» و«علاء الدين» و«قطر الندى» و«ماجد» وغيرها، كما تحولت بعض أعماله إلى مسرحياتٍ وسهرات درامية وأفلام روائية قصيرة. عندما ذهبت لإجراء حوار معه كنت أعتقد أن الأمر صعب، ولكن يكفى الجلوس بجواره للحظاتٍ تتحول بعدها لساعاتٍ ممتدة من النقاش والحوار المستمر تأخذك فيها الأحاديث الممتعة التى لا تتنهى عن الإسكندرية بشوارعها الممتدة وأسواقها العامرة وحواريها وأزقتها الضيقة، وتسير معه عبر الحكايات إلى الماضى وشخوصه وأحداثه لتكتشف جمال الكتابة، وسحر الكلمة، وروعة السرد. كان متفائلاً رغم كل شيء وقال لي: «الناس ترغب فى القراءة، والشباب بخير، وهذا واضح فى التزاحم وقت معارض الكتب، وأتمنى أن يزداد الإهتمام بالكتاب والقراءة والعلم، فهذا هو الطريق الوحيد للتعايش مع العصر.» حكى لى أن موت أمه فى طفولته، ومعاناته بسبب فقدها، والبدانة التى صاحبته منذ الطفولة، قد أبعداه عن الناس ودفعاه للانطواء، وكانت القراءة هى الحل، فأتفق مع صاحب مكتبة بشارع إيزيس (الشارع الرئيسى القريب من بيته) لاستئجار الكتب لقراءتها، وهكذا قرأ للمنفلوطى وباكثير والحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ . سألته بصراحة مطلقة: هل خسرت بوجودك بالإسكندرية الانتشار والمجد الذى تستحقه؟ فأجاب: كل شخص يحب المكان الذى نشأ فيه، هذه حقيقة، لكن الإسكندربة شيء آخر، الإسكندرية أجمل مكان فى العالم، ثرية فى كل شيء؛ لكن المركزية البغيضة التى انفردت بها القاهرة تفسد كل شيء كل شيء موجود فى القاهرة ولا يتركون للمدن الأخرى شيئاً. الذى يؤلمنى كثيراً أن أكثر من 90% من أدباء الإسكندرية ينشرون كتبهم على حسابهم رغم ظروفهم المعيشية الصعبة. كان متواضعاً فى كل شىء إلا موهبته فقد كانت عظيمة وكان يستحق أكثر مما منحته الحياة الظالمة لأمثاله، لم يصدمنى قوله «أقسى ما يؤلمنى أن يحصل البعض على حقوق ليست له، وللأسف يحدث هذا فى المشهد المصرى كله، والإسكندرية متأثرة بهذا أيضاً، هناك أدباء مصابون بحالة من تضخم الذات، يقولك أنا الأفضل، وأنا الذى فعل كذا وكذا، وبعض البلهاء يصدقونهم دون أن يقرأوا لهم حرفاً». روى لى أن أكثر الكتاب الُمحببين إليه جمال الغيطاني، وسبب ذلك فى رأيه أن تكوينه قريب للغيطانى فى أشياء كثيرة، فهو أصلاً من المراغة وهو من جهينة وهما متجاوران فى الصعيد، وكذلك فهو روائى قدير، بثقافته وتأمله وهدوء أعصابه وهى سمة مهمة من وجهة نظر مصطفى نصر، فكتابة الرواية تحتاج لشخص هادىء متأمل، بينما القصة القصيرة تتماشى أكثر مع الشخص العصبى المزاج. قالى لى نصيحة وقتها لم أنشرها بالحوار فقد كنت أمر بفترة إحباط كدت بسببها أن أبتعد عن الكتابة لفترة فقال لى «من يبتعد عن الكتابة .. الكتابة تبتعد عنه« وأعطانى مثالًا لأحد الكبار المعروفين خسر كثيراً بابتعاده. ترن فى أذنى كلماته القليلة وتجد أصداء كثيرة. رحل مصطفى نصر الذى لم يهجر الكتابة يوماً، وظلت صفحته على ال «فيسبوك« نشطة حتى المنشور الأخير الذى كتبه غيره له هذه المرة: «انتقل إلى رحمة الله مصطفى نصر بعد صراع مع المرض«. ألف رحمة ونور عليك يا غالي.