أحمد فضل شبلول رحل الأديب الكبير مصطفى نصر (1947 - 2025) ورحلت معه الحكايات الجميلة والأعمال الفريدة، والصحبة الطيبة، وقد عرفت مصطفى نصر فى قصر ثقافة الحرية فى منتصف السبعينيات، وكان هو الأقرب إلى نفسى من بين كل الأدباء والكتاب والروائيين والقصاصين فى الإسكندرية، وعلى الرغم من بداياتى فى نادى الشعر الذى كان يعقد جلساته مساء كل أحد بقصر الثقافة، فإننى كنتُ أحضر أيضا فى نادى القصة مساء كل اثنين، وهناك تعرفت على معظم كتَّاب الرواية والقصة القصيرة وكان على رأسهم: إبراهيم عبدالمجيد ومصطفى نصر وعبدالله هاشم وسعيد بكر وسعيد سالم والسعيد الورقى وأحمد حميدة وسعيد بدر ومصطفى بلوزة وجميل إبراهيم متى ومحمد عبدالله عيسى، وحورية البدرى وفاطمة زقزوق وغيرهم، وعندما ننتهى من ندوة الاثنين أعود إلى محرم بك سيرًا على الأقدام مع مصطفى نصر فنقطع شارع النبى دانيال متجهين إلى محرم بك فيذهب مصطفى فى اتجاه شارع عمر بن الخطاب للوصول إلى شارع إيزيس، واتجه أنا إلى شارع محرم بك للوصول إلى شارع الإسكندراني وأحيانا كنت اتجه معه إلى بيته الكائن فى 14 شارع الأقحوان فى منطقة راغب باشا، وكان معظم حديثنا عمَّا يدور فى الندوة وما قيل فيها، وملاحظاتنا عليها. كنت أشعر بالتسامح الكبير الذى يحمله مصطفى نصر لزملائه من أعضاء نادى القصة، مهما قيل من تعليقات سلبية على قصة يقرأها، وكانت معظم تعليقاتى على الأخطاء اللغوية التى يقع فيها معظم من يقرأون قصصهم، فكان مصطفى يرد عليَّ قائلا: «عشان انت شاعر»، وكنت أرد عليه قائلا: فى عالم اللغة والكتابة لا فرق بين شاعر وروائى ورسَّام وموسيقار، ما دمنا نكتب باللغة العربية الفصحى. كنا أحيانا نذهب إلى ندوة توفيق الحكيم فى الصيف فى ركنه المعروف فى مقهى بترو، ثم مقهى الشانزليزيه فى منطقة لوران بعد أن رحل الخواجة بترو وأُغلقت مقهاه، وكنا نجد هناك الأساتذة: نجيب محفوظ وثروت أباظة ويوسف عز الدين عيسى وغيرهم. كنا صغارًا بالنسبة لهم، وكان مجدنا أن نراهم فقط ولا نتحدث إليهم. وقد فاجأنى مصطفى نصر - ذات يوم - بأنه استطاع التحدث مع نجيب محفوظ، بل استطاع أن يجرى ما يشبه الحوار الصحفى معه، نشره فيما بعد، وقد استفدت من مادته فى كتابى «عصر نجيب محفوظ» فماذا دار فى هذا الحوار شبه الصحفي؟ يقول مصطفى نصر: جاءنى بعض الزملاء كى نذهب لمقابلة الأستاذ نجيب محفوظ فى كازينو «بترو» بالإسكندرية – ذلك المكان الذى كان يجلس فيه – صيفًا – مع الأساتذة توفيق الحكيم وثروت أباظة، والعديد من كتاب مصر المعروفين، لكننى رفضت الذهاب إليه، لأننى لا أستطيع أن أقدم نفسى لأحد على أنى كاتب قصة دون أن يكون قد قرأ لى من قبل. ودعتنى الظروف بعد عدة سنوات إلى مقابلته فى حديقة فندق سان استفانو حيث انتقل إليه بعد هدم كازينو بترو. وجدته يجلس مع شاعر من أسرة غنية لم أكن قد قرأت له أو حتى سمعت عنه. كان يحكى لنجيب محفوظ عن تجربته فى إنتاج أحد الأفلام العربية من إخراج قريب له. واقتحمتُ عليهما جلستهما، مما ضايق الشاب الثرى فلم يرتح لوجودي. كان نجيب محفوظ ودودًا، نظر إليَّ وتحدث معى تاركًا الشاب الآخر والكلمات لم تزل بين شفتيه، قال: ماذا تفعلون فى الإسكندرية؟ كيف تنشرون أعمالكم؟ حكيت له عن تجربتنا فى نشر الأعمال على نفقتنا الخاصة بطريقة الماستر. قال فى أسى: الناس لا تقرأ الآن. والحل؟ مطَّ شفتيه وقال الشاب الآخر الذى ضاق بتغيير الحديث من السينما إلى الأدب: تجربة الدكتور أنس داود فى رأيى هى الحل الأمثل. قلت لنجيب محفوظ: الحل فى رأيى أن يفعل الأدباء ما فعلتَه فى أول حياتك. لقد كتبت للسينما عندما كانت رائجة، فلماذا لا نكتب للتلفزيون بجانب أعمالنا الأدبية؟ قال فى هدوء شديد: لكن تجربتى مع السينما لا أعتبرها من تاريخى الأدبي. قلت: كيف؟ لقد كتبت فيلم «درب المهابيل» وهو فى رأيى من أهم إنجازات السينما المصرية حتى الآن. تردد قليلا ثم قال مجاملا: عندك حق، هو فيلم يستحق أن أعتز به. فجأة سألنى الشاب الثري: أتمارس لعبة المصارعة؟ ضحكت قائلا: إننا نتحدث عن السينما والأدب، فما الذى ذكَّرك بالمصارعة؟ قال: جسدك يدل على أنك مصارع. كان نجيب محفوظ يتابع هذا فى صمت. نظر فى ساعته وقال للشاب الثري: ذهبت إلى محطة الرمل، وسألت عن مجلة (....)؟ قال الشاب الثري: سيأتى الأصدقاء بعد قليل، ومعهم نسخ منها. عاد نجيب محفوظ إلى الخلف، شد ظهره إلى مسند المقعد. ونظر إليَّ الشاب الثرى فى صمت وضيق شعرتُ بأنه يتمنى أن أقوم وأنصرف. إحساسى هذا جعلنى أتشبث بالبقاء أكثر نظرتُ إليه متحديا. نظر هو المائدة الخالية فى شرود. ونظرتُ أنا إلى الباب الحديدى الواسع، فقال نجيب محفوظ مجاملا: أهلا بك. أراد أن يقطع الصمت الذى حطَّ على الجلسة منذ لحظات، وليرحب بى بصفتى أول مرة أقابله. قال نجيب محفوظ: أتيتم فى وقت غير مناسب. فى الماضى لم يكن هناك تلفزيون، وكانت المجلات والجرائد تنشر القصائد والقصص فى الصفحات الأولى. شعرتُ بالأسى. لقد قضيت عمرى كله أحلم أن أكون أديبًا معروفًا. ضحيت من أجل هذا بالكثير. تخيل عندما تحس بعد ذلك أنك ضحيت من أجل لا شيء، من أجل سراب. تذكرت قصة كتبتها عن صانع طرابيش، علَّمه أبوه الصنعة أيام كانت منتشرة ورائجة، ومات الأب دون أن يعلمه صنعة سواها، وفجأة ألغت الدولة الطرابيش، وأغلق أصحابها دكاكينهم. انتهت الصنعة قبل أن يبدأ عمله. كان نجيب محفوظ – فى ذلك الوقت - متأثرًا بمقاطعة البلاد العربية لكتبه بعدما نُشر عنه تأييده لمبادرة كامب ديفيد. ثم حضر باقى الشلة. بعضهم يعرفنى أو قرأ لى من قبل. كان الشاب الثرى صامتًا مهمومًا طوال الوقت، فقال له أحد الحاضرين: اليوم أنت مش مبسوط! أومأ برأسه وعاد ثانية لحزنه وشروده. تحدثوا عن مقالات نشرت ضد الذين يتعاملون مع إسرائيل ثقافيا، فى مجلة اقتصادية تابعة لمؤسسة الأهرام، قلت: إنها المجلة الحكومية الوحيدة التى تستطيع نشر مثل هذه المقالات. قال أحد أفراد الشلة للشاب الثري: نفس رأيك الذى قلته من قبل. فقال فى حدة وهو ينظر إلى وكأننى رئيس تحرير المجلة: اليسار يسيطر عليها وسوف تطرد هيئة تحريرها فى القريب. كنت أفكر فى المأزق الذى وقعت فيه. أحاديث نجيب محفوظ المقتضبة ومجاملاته التى تثير الدهشة (يحكون أن أديبا شابا غير معروف وغير جيد أعطاه مجموعته القصصية المطبوعة بالماستر ليقرأها، فتصفحها فى الجلسة، ثم قال مجاملا: جيدة. فطلب منه الأديب الشاب أن يكتب عنها بحثوا عن ورقة ليكتب فيها فلم يجدوا، ففتح الشاب علبة سجائره بعد أن وضع ما فيها من سجائر فى جيبه، وكتب نجيب محفوظ كلمة قصيرة عن المجموعة، نشرها الشاب على ظهر مجموعته القصصية الثانية). نظر نجيب محفوظ فى ساعته وقال للشاب الثري: التاسعة .. أليس كذلك؟ أجابه: نعم. وقف؛ فوقفنا جميعا، صافحنا وسار خارجا من باب الحديقة. ووقف الشاب الثرى شاردًا، صافحنى الجميع عداه، ساروا أمامى خارجين من الباب. تابعتهم حتى خرجوا ثم سرت، أحسست بالضيق وكأننى خسرت صفقة عمري. سرتُ فى الطريق، وجدت نفسى أمام محطة «جليم». وقفت أنتظر الأتوبيس. المحطة خالية، ليس بها سواي، شعرت أن الوقت قد طال والأتوبيسات لا تأتي. أردت أن أجلس. كان جسدى غير قادر على الوقوف، وشعور يغمرنى بأننى ابتعدت عن بيتى مسافات شاسعة، كأننى ضللت الطريق، وسرت فى صحراء شاسعة بعيدة. أما اللقاء الثانى لمصطفى نصر مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ فقد كان فى القاهرة، يقول: كنت أسير بجوار مبنى مؤسسة الأهرام، ومعى الصديق محمود قاسم، وقد تسلمت ما يخصنى من نسخ رواية «الهماميل» بعد طبعها فى روايات الهلال، ورأينا نجيب محفوظ يسير وحيدًا ذاهبًا إلى الطريق العمومى لينتظر تاكسيا، صافحناه، قلت لمحمود قاسم: أأعطيه نسخة من الرواية؟ قال: أعطه. تذكرت وأنا أُخرج النسخة من الحقيبة، وأنا أكتب الإهداء أن صديقى سعيد بكر أرسل إليه روايته، فاعتذر له برسالة عن عدم تمكنه من قراءتها، فهو منذ أصيب بالسكر لا يقرأ إلا الأعمال التى يحتاجها فى كتابة أعماله وقلت هذا للأديب جمال الغيطانى عندما فكر فى تخصيص صفحة الأدب، التى يشرف عليها، لي، واقترح أن يعمل لقاء بينى وبين نجيب محفوظ، قلت له هذا، فقال: بالعكس نجيب محفوظ يقرأ معظم الأعمال التى تصدر. المهم أعطيت لنجيب محفوظ نسخة من رواية «الهماميل»، وعندما قرأ اسمى قالى لي: أنت مصطفى نصر؟ وكنت أعلم أن اسمى ذُكر أمامه فى جلساته فى الإسكندرية. ظننته لن يقرأ الرواية، وبعدها بقليل فاز بجائزة نوبل، واهتم العالم كله به، واهتمت أجهزة الدولة به، وإن حاول أن يكون عاديا، وألا يغير عاداته التى يرتاح إليها. وفوجئت به يتحدث عن روايتى «الهماميل» فى برنامج إذاعى اسمه «سمّار الليالي»، أبدى إعجابه بالرواية، وبالطريقة التى كتبت بها، واتصل بى أكثر من صديق ليخبرنى بذلك. أما اللقاء الثالث لمصطفى نصر مع نجيب محفوظ، فقد كان فى حديقة فندق سان استفانو مرة أخرى. ذهب إليه مصطفى فى سان استفانو بعد حصوله على جائزة نوبل، فإذا الجو قد تغير عن لقائه الأول معه، عدد الزوار أكثر من المرة السابقة أراد أن يحدثه عن روايته «الهماميل» التى تحدث عنها فى البرنامج الإذاعي، فظن محفوظ أن مصطفى يريد أن يهديه رواية جديدة ليقرأها. ولكن مصطفى أدرك أن هذا الأمر سيكون صعبا بعد نوبل. وعندما أحس محفوظ بارتباكه وعدم قدرته على توصيل الكلمات إلى أذنيه أشار إلى صديق له قائلا: قل له وهو ينقل إلى ما تريد. وعندما وقفت مودِّعًا دقَّ على يدى مداعبًا ومبتسمًا. وكانت هذه هى المرة الأخيرة التى يرى فيها مصطفى نصر كاتبنا الكبير نجيب محفوظ.