بالأسم فقط.. نتيجة الصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2024 (الرابط والموعد والخطوات)    قبل ساعات من اجتماع «المركزي».. سعر الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الارتفاع الأخير    إعلام فلسطيني: قوات الاحتلال تقتحم بلدات بالضفة الغربية وتستهدف الصحفيين    سر اللون البرتقالي "الخطير" لأنهار ألاسكا    أستاذ قانون دولي: اعتراف 3 دول أوروبية بفلسطين يعكس تراجع دور أمريكا    محللة سياسية: نتنياهو يريد الوصول لنقطة تستلزم انخراط أمريكا وبريطانيا في الميدان    مفاجأة، نيكي هايلي تكشف عن المرشح الذي ستصوت له في انتخابات الرئاسة الأمريكية    السفيرة الأمريكية السابقة بالأمم المتحدة: بايدن كارثة وسأصوت لترامب في انتخابات الرئاسة    بسبب لاعبي الأهلي وكبار السن، فيتو تكشف سر قائمة منتخب مصر المسربة التي أثارت الجدل    تريزيجيه يكشف حقيقة عودته للنادي الأهلي    لاعبو الأهلي يجهزون مفاجأة غير متوقعة لعلي معلول في نهائي دوري الأبطال    الزمالك يُعلن بشرى سارة لجماهيره بشأن مصير جوميز (فيديو)    "هذا اللاعب سيستمر".. حسين لبيب يُعلن خبرًا سارًا لجماهير الزمالك    نتيجة الصف الأول الإعدادي الترم الثاني 2024 برقم الجلوس والاسم جميع المحافظات    محافظ بورسعيد يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية بنسبة نجاح 85.1%    رفض يغششه في الامتحان، قرار من النيابة ضد طالب شرع في قتل زميله بالقليوبية    والدة سائق سيارة حادث غرق معدية أبو غالب: ابني دافع عن شرف البنات    الكشف عن القصة الكاملة للمقبرة الفرعونية.. أحداث الحلقة 9 من «البيت بيتي 2»    المطرب اللبناني ريان يعلن إصابته بالسرطان (فيديو)    4 أعمال تعادل ثواب الحج والعمرة.. بينها بر الوالدين وجلسة الضحى    أمين الفتوى: هذا ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    تسجيل ثاني حالة إصابة بأنفلونزا الطيور بين البشر في الولايات المتحدة    وزير الرياضة: نتمنى بطولة السوبر الأفريقي بين قطبي الكرة المصرية    البابا تواضروس يستقبل مسؤول دائرة بالڤاتيكان    بالأرقام.. ننشر أسماء الفائزين بعضوية اتحاد الغرف السياحية | صور    سي إن إن: تغيير مصر شروط وقف إطلاق النار في غزة فاجأ المفاوضين    ماهي مناسك الحج في يوم النحر؟    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23 مايو في محافظات مصر    الداخلية السعودية تمنع دخول مكة المكرمة لمن يحمل تأشيرة زيارة بأنواعها    محمد الغباري: مصر فرضت إرادتها على إسرائيل في حرب أكتوبر    الأرصاد تحذر من طقس اليوم الخميس 23 مايو 2024    تفاصيل المجلس الوطنى لتطوير التعليم فى حلقة جديدة من "معلومة ع السريع".. فيديو    تأكيدًا لانفراد «المصري اليوم».. الزمالك يبلغ لاعبه بالرحيل    ماذا حدث؟.. شوبير يشن هجومًا حادًا على اتحاد الكرة لهذا السبب    حظك اليوم وتوقعات برجك 23 مايو 2024.. تحذيرات ل «الثور والجدي»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    محمد الغباري ل"الشاهد": اليهود زاحموا العرب في أرضهم    بسبب التجاعيد.. هيفاء وهبي تتصدر التريند بعد صورها في "كان" (صور)    نجوى كرم تتحضر لوقوف تاريخي في رومانيا للمرة الأولى في مسيرتها الفنية    بقانون يخصخص مستشفيات ويتجاهل الكادر .. مراقبون: الانقلاب يتجه لتصفية القطاع الصحي الحكومي    22 فنانًا من 11 دولة يلتقون على ضفاف النيل بالأقصر.. فيديو وصور    متحدث الحكومة: بيع أراضي بالدولار لشركات أجنبية هدفه تعظيم موارد الدولة من العملة    مراسم تتويج أتالانتا بلقب الدوري الأوروبي لأول مرة فى تاريخه.. فيديو    احذر التعرض للحرارة الشديدة ليلا.. تهدد صحة قلبك    «الصحة» تكشف عن 7 خطوات تساعدك في الوقاية من الإمساك.. اتبعها    أستاذ طب نفسي: لو عندك اضطراب في النوم لا تشرب حاجة بني    هيئة الدواء: نراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين عند رفع أسعار الأدوية    حظك اليوم| برج الجدي الخميس 23 مايو.. «تمر بتناقضات»    انتشال 3 جثث جديدة لفتيات ضمن واقعة غرق ميكروباص من أعلى معدية أبو غالب    البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان يلتقي الكهنة والراهبات من الكنيسة السريانية    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى مستهل التعاملات الصباحية الاربعاء 23 مايو 2024    عمرو سليمان: الأسرة كان لها تأثير عميق في تكويني الشخصي    "وطنية للبيع".. خبير اقتصادي: الشركة تمتلك 275 محطة وقيمتها ضخمة    إبراهيم عيسى يعلق على صورة زوجة محمد صلاح: "عامل نفق في عقل التيار الإسلامي"    رغم فارق السنّ.. «آلاء» والحاجة «تهاني» جمعتهما الصداقة و«الموت غرقًا» (فيديو)    طالب يشرع في قتل زميله بالسكين بالقليوبية    هل يجوز بيع جلد الأضحية؟.. الإفتاء توضح    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى محرم يكتب: أنا ونجيب محفوظ
نشر في الأهرام اليومي يوم 01 - 09 - 2017

لم أكن أحلم فى يوم من الأيام أننى سوف أرى نجيب محفوظ رؤية العين وأجلس معه وأتحدث ويبادلنى الحديث والقفشان ويعتبرنى صديقًا له. بدأت معرفتى باسم نجيب محفوظ فى السابعة عشرة أو الثامنة عشرة على ما أتذكر وكانت من خلال قراءتى للمرة الأولى لأحد أعماله وهى رواية «زقاق المدق».
كنت أداوم فى الأدب المصرى على قراءة كل ما يكتبه يوسف السباعى وبعض أعمال إحسان عبد القدوس الأولي. كنت أعتقد أن يوسف السباعى هو أبرز الأدباء المصريين ولكن ما لبثت أن سمعت عن اسم توفيق الحكيم فقرأت له مسرحية «أهل الكهف» ثم «يوميات نائب فى الأرياف» وإذا بى أشعر بأن نافذة كبيرة وجديدة قد فتحت أمامى وأطل منها على نوع من الأدب يختلف كثيرًا عما يكتبه يوسف السباعي. نوع أكثر فكرًا وعمقًا بل يقترب من الأعمال الأجنبية التى كنت أقرأها فى مترجمات قبل التحاقى بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. وبدأت أشعر بالفتور تجاه ما يكتبه يوسف السباعى وألتهم كل ما كتبه توفيق الحكيم، وعندما قرأت رواية «عودة الروح» أصبحت قارئًا مختلفًا يبحث عن كل ما هو مصرى حقيقي.
وذات يوم أرشدنى أحد الأصدقاء إلى نجيب محفوظ وعندما قرأت «زقاق المدق» دخلت من خلال هذا الزقاق إلى عالم كنت أبحث عنه وأخذت أسير فى دروبه مع هذا الكاتب وقرأت كل ما كتبه وأصبحت أنتظر الجديد له على أحر من الجمر وتمنيت أن أراه وأتحدث معه. وبالفعل رأيته أول مرة فى نادى القصة فى إحدى المناسبات لتكريم أحد الأدباء العرب وفى هذا اليوم حظيت برؤية أبرز أدباء مصر على رأسهم طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف السباعى وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمد عبد الحليم عبد الله وجاذبية صدقى وأمين يوسف غراب ولطفى الخولى ولم يتبادر إلى ذهنى أننى فى يوم من الأيام سوف يكون معظمهم أصدقاء لى ويتمنى بعضهم أن أقوم بتقديم أعمالهم على شاشة السينما. لم أشعر بالانبهار والزهو فى حياتى مثلما شعرت فى هذا اليوم. كانت أمنيتى فى ذلك اليوم أن أصافح نجيب محفوظ وأتحدث معه ولو كلمتين، ولكن للأسف لم يسمح لى المجال بذلك. كان فى ذلك الوقت فى حوالى الأربعين من عمره ويضع نظارة سوداء على عينيه وابتسامة مشرقة على شفتيه واكتشفت بعد ذلك أن هذه الابتسامة هى جزء من ملامحه وكأنه ولد بها.
بعد تخرجى من الجامعة وعملى فى قسم القراءة والإعداد بأول شركة للإنتاج السينمائى قطاع عام تحت رئاسة المخرج صلاح أبو سيف لمدة ثلاثة سنوات ترك صلاح أبو سيف الشركة وانتقل إلى مؤسسة السينماوذهب جزء منا للعمل مع نجيب محفوظ الذى كان يعمل مستشارًا فنيًا فى المؤسسة وذهبت أنا مع الجزء الآخر للعمل مع عبد الرحمن الشرقاوى وذلك فى حجرات متجاورة. كنت أحرص على رؤية نجيب محفوظ ومعرفة كل شيء عنه من خلال حديثى مع زملائى الذين يعملون معه.
مكتبه
كان يحرص على الانتظام الكامل فى المواعيد فهو يحضر كل يوم فى الساعة التاسعة وينصرف الساعة الثانية حتى ولو لم يكن هناك عمل يؤديه. فى حين أن زملاءه من الأدباء الذين كانوا يعملون فى المؤسسة لم يكن أحد يحرص على أى مواعيد وكثيرًا ما تغيبوا تمامًا ما عدا سعد الدين وهبة الذى كان يحرص هو الآخر على الانتظام فقد كانت آماله الوظيفية كبيرة وبالفعل استطاع تحقيقها كنت أحب أن أدخل إلى حجرة نجيب محفوظ بعد انصرافه عن طريق بعض زملائه وأتأمل المكتب الذى يجلس عليه وهو مكتب كبير من المعدن فأجده منتظمًا ويلفت نظرى بطاقات دعوة كثيرة للحفلات والمناسبات موضوعة فى ترتيب إلى أن ينقضى ميعادها فيلقى بها إلى سلة المهملات دون أن يلبى هذه الدعوات. وكان هناك دائمًا كتاب على مكتبه يقرأه إذا لم يكن هناك عمل يشغله إلى أن ينتهى من قراءته فيحل كتاب غيره.
كان نجيب محفوظ أثناء عمله فى المؤسسة قد امتنع عن العمل فى «السينما» ككاتب «سيناريو» وتقريبًا امتنع عن بيع رواياته وقصصه حتى لا يثير الشبهة، ولكن «التليفزيون» كان يقوم بتحويل قصصه القصيرة إلى تمثيليات قصيرة وتمثيليات سهرة نظير أربعين جنيهًا لكل قصة، فكان يضع أمامه ورقة على مكتبه باسم القصة التى يتم صرف مستحقاته عنها ثم يتخلص من الورقة. وفى هذه الفترة من عمله فى المؤسسة لم يكتب من إبداعاته سوى بعض القصص القصيرة، وعندما سألته عايدة الشريف عن أحواله فى إحدى المرات أخبرها أنه يشعر وكأنه إنسان ميت، وكان يحلم بأن يصل إلى المعاش ليعود إلى الحياة ويتفرغ للكتابة.
وأذكر أنه عندما أصبح رئيسًا لمؤسسة السينما رفض أن تكون له سيارة وسائق فقد تعود أن يأتى إلى عمله سيرًا على الأقدام، وبعد انتهاء العمل يركب تاكسى أو كان يأتى ثروت أباظة بسيارته ليقوم بتوصيله. ورغم أن عبد الرحمن الشرقاوى كان يملك سيارة خاصة وكان مكتبه يواجه مكتب نجيب محفوظ، ولكنى لم أره مرة قد اصطحب نجيب محفوظ فى سيارته رغم أن الشرقاوى كان يسكن فى الدقى ونجيب محفوظًا قريبًا منه فى العجوزة.
نظرته إلى العمل الحكومى
كنت أنا وصديق العمر المخرج المؤلف رأفت الميهى من الموظفين المشاغبين فى «مؤسسة السينما»: كنا نريد أن تسير المؤسسة كما نهوى وليس كما يريد رئيسها نجيب محفوظ والقائمون عليها. وكان مدير المؤسسة رجلاً صارمًا لا علاقة له بالأدب والفن فحاول أن يتخلص منا فأرسلنا إلى إحدى شركات المؤسسة على أننا سوف نعمل فى الأفلام التى نقوم بإنتاجها ولكن فى نفس الوقت أوصى مدير شئون الأفراد بأن يسيء معاملتنا فكانت النتيجة بأن أسأنا نحن معاملته حتى أنه ندم على اليوم الذى جئنا فيه إلى الشركة، ولم نكتف بذلك بل ذهبنا لمقابلة نجيب محفوظ مدير المؤسسة لنشكوا له من رئيس الشركة الذى يريد أن يحولنا من كتاب «سيناريو» إلى موظفين فى شئون الأفراد، فأخبرنا مدير مكتبه بأن الأستاذ نجيب مرهق لأنه يحضر جلسات تعديل سيناريو «البوسطجي» مع «السيناريست» والمخرج حتى ساعة متأخرة من الليل يوميًا منذ أسبوع. ولكن عندما كشرنا على أنيابنا سمح لنا بالدخول على ألا نطيل معه، واستقبلنا نجيب محفوظ بالترحاب كالمعتاد وعلى شفتيه ابتسامته المعهودة ولم نكن معروفين لديه حتى ذلك الوقت، وعندما عرضنا عليه مشكلتنا فإذا به بكل هدوء يخبرنا بأن الفن شيء والوظيفة شيء آخر وأن العمل الحكومى ينقسم إلى قسمين فقط، إما حسابات أوسكرتارية وهو شخصيًا قضى عمره يعمل موظفًا فى القسم الثاني، وبالطبع لم نقتنع بما قاله الأديب الكبير لأن الدولة فى ذلك الوقت كانت تحتكر الفنون والآداب.
فيلم تسجيلي
ثم انتقلت للعمل كمخرج فى المركز القومى للأفلام التسجيلية مع نخبة من الزملاء والأصدقاء تحت رئاسة الفنان حسن فؤاد فكان المركز يضم صلاح التهامى وهاشم النحاس ورأفت الميهى وأشرف فهمى وأحمد راشد وداوود عبد السيد وخيرى بشارة وعلى عبد الخالق ومحسن زايد. كان أول ما فكرت فى عمله هو تقديم أفلام تسجيلية عن كبار الأدباء فهم يستحقون أن يكونوا نجومًا مثل نجوم السينما.
تحمس حسن فؤاد لهذه الفكرة، وبدأت بالأديب محمود تيمور وكان إنسانًا فى غاية الرقة والأخلاق الرفيعة والكرم الزائد أثناء تواجدنا للتصوير فى بيته، وكانت الشخصية الثانية هى نجيب محفوظ وكان قد خرج على المعاش وكان يعرفنى معرفة وثيقة إذ كنت قد أصبحت كاتب «سيناريو» متميز تنال أفلامى الجوائز وتمثل مصر فى المهرجانات الدولية، وكنت قد قمت بتحويل بعض قصص نجيب محفوظ إلى أفلام «سينمائية».
كنت أرى أن حياة نجيب محفوظ مادة خصبة للتسجيل، فقد نشأ فى منطقة شعبية وهى حى الجمالية، وهو صاحب ندوتين شهيرتين فى ذلك الوقت واحدة فى الشتاء فى مقهى ريش والثانية فى الصيف فى مقهى بترو فى الأسكندرية، كما أن له أسلوب حياة جدير بأن يقتدى به، وعندما قابلته وعرضت عليه الفكرة لم يمانع وجلست معه كثيرًا ورافقته كثيرًا فى كل تحركاته حتى توفرت لى المادة لكتابة «السيناريو»، وعندما بدأت التصوير كان أشبه بالممثل المتفانى المطيع حتى أننى كنت أطلب منه الإعادة أكثر من مرة فلا يتضرر ويقوم بتنفيذ كل ما أطلبه منه دون اعتراض. وأذكر أننى بدأت التصوير فى بيته فى العجوزة، وهو شقة فى الدور الأرضى تطل على النيل، وهى نفس البيت الذى تسكن فيه الممثلة برلنتى عبد الحميد، وأذكر أننى عندما كنت أذهب إلى برلنتى عبد الحميد أثناء كتابتى «لسيناريو» فيلم «العش الهادي» المأخوذ عن مسرحية لتوفيق الحكيم، وأمر من أمام باب شقة نجيب محفوظ كنت أتعجب لأن هذا الأديب العظيم يسكن فى الدور الأرضى بينما هى تسكن فى الدور الرابع حيث ترى النيل الذى يعشقه نجيب محفوظ، ويبدو أنها كانت تشعر بما يدور فى داخلى فكانت تخبرنى بأن شقة نجيب محفوظ أكثر صحية لأن شقتها فى الشتاء بمثابة ثلاجة لا تدخلها الشمس، وبالفعل أدركت أنها صادقة ذلك أننى كنت أقوم بتصوير«الفيلم» فى فصل الشتاء فوجدت شقة نجيب محفوظ تنعم بالدفء.
شقة
كانت الشقة متوسطة المساحة وتتكون من «صالة» وضع فيها «صالون» استقبال وهناك غرفة نوم واحدة له ولزوجته والأخرى لابنتيه، وتؤدى «الصالة» إلى حجرة كبيرة على اليسار وهى المطلة على النيل ومنقسمة إلى قسمين خصص القسم الأكبر ليكون حجرة الطعام والجزء الباقى به مكتب كبير مزدحم بالكتب ولكن مرصوصة بنظام وخلف المكتب مكتبة ليست ضخمة تمتلئ ببعض الكتب باللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، كان نجيب محفوظ يجيد الإنجليزية إجادة تامة خاصة أنه استطاع أن يقرأ رواية جيمس جويس «يوليسيس» وهى رواية فى غاية الصعوبة وهى من روائع أسلوب تيار الوعى فى الرواية، ويقال إن الذين استطاعوا أن يستوعبوا هذه الرواية فى العالم قلة قليلة للغاية، وقد قام الدكتور طه محمود طه بترجمتها وقضى فى هذه الترجمة سنينًا طويلة، ولكن الترجمة فى رأيى ليست دقيقة وأنقصت من قدر الرواية العظيم. ولا عجب فى أن نجيب محفوظ قد قرأ هذه الرواية واستوعبها تمامًا ولا عجب فى أنه يتقن الإنجليزية إلى هذه الدرجة من الإتقان فقد تعلم نجيب محفوظ فى زمن كانوا يأخذون فيه التعليم مأخذ الجد.
وأبو العلاء المعري، وعندما سألته عن الأدباء الأجانب أخبرنى بأنه يفضل «دوستويفسكي» و«توماس مان» و«جيمس جويس» و«بروست» و«فولكنر» وأبديت له دهشتى لأنه لم يعجب ب«فولكنرإيرنست هيمنجواي» الذى كنت أعجب بفنه خاصة أسلوبه الرائع وجمله القصيرة التى تحمل أكثر من معنى فأخبرنى بأن فولكنر توغل فى النفس الإنسانية أكثر من هيمنجواى الذى لم تشغله سوى فكرة واحدة وهى الحرب والسلام والذى يقرأ نجيب محفوظ يجد بالفعل تأثير هؤلاء الكتاب فى أعماله، ففى ثلاثية نجيب محفوظ يظهر فيها تأثير دوستويفسكى وتوماس مان أما «اللص والكلاب» و «الطريق» و «الشحاذ» فيظهر تأثير جويس وفولكنر ولكنى أرى أن تأثير فولكنر طاغ فى معظم أعمال نجيب محفوظ، لكن نجيب محفوظ استطاع بالمعمار المتميز فى بناء رواياته أن يقف هو الآخر شامخًا وسط هؤلاء العمالقة.
رحلة محفوظ اليومية
كان نجيب محفوظ يخرج من بيته كل يوم فى السابعة صباحًا ويسير فى شارع النيل على قدميه فى خطوات منتظمة حتى يصل إلى قرب ميدان كوبرى الجلاء «كوبرى بديعة سابقًا» فيتوقف عند بائع جرائد ويتصفح كل الصحف والمجلات التى تصدر ويختار منها ما يشاء ثم يواصل طريقه حيث ينحرف يسارًا إلى جوار النادى الأهلى ومن هنا يتجه إلى كوبرى قصر النيل، ويظل ماشيًا إلى أن يدخل أو شارع سليمان باشا أو طلعت حرب حاليًا. وليست أعلم لماذا تم إلغاء اسم سليمان باشا وإزالة تمثاله فإنه أعطى لمصر مثلما أعطى طلعت حرب وكان الأولى أن يبحثوا لطلعت حرب عن شارع آخر وكان الأفضل أن يكون الشارع الذى يقع فيه المبنى الرئيسى لبنك مصر، ولكن عقلية رجال يوليو كانت عقلية انتقامية، وليست عقلية ثوار عظماء. وفى شارع طلعت حرب يتجه نجيب محفوظ إلى مقهى ريش حيث يجلس ويحتسى أول فنجان قهوة ويدخن أول سيجارة له ويقرأ الصحف بإمعان ثم ما يلبث أن ينهض وينصرف إذا لم يكن ارتبط بمواعيد على المقهي، وكان فى طريق العودة يستقل أحد التاكسيات إلى بيته وعندما يصل إلى البيت يقوم بتغيير ثيابه ويرتدى فوق البيجامة الكستور الروب الثقيل ويجلس على مكتبه ويبدأ الكتابة أو القراءة.
كان انضباط المواعيد هو فلك حياته وقد أخبرنى صلاح أبو سيف وفريد شوقى عن دقة مواعيد نجيب محفوظ وأنه كان يأتى قبل خمس دقائق من الميعاد ويظل منتظرًا أمام المكان حتى يحل الوقت فيدخل. كان من يراه فى هذه الفترة التى أقوم فيها بتصوير الفيلم لا يمكن أن يدرك أن نجيب محفوظ قد جاوز الستين من عمره، بل هو على الأكثر فى الخامسة والأربعين، وكان شديد الطاعة لأوامر الأطباء مثله كمثل الموسيقار محمد عبد الوهاب.
وكان فى يوم الخميس بعد أن ينتهى من جلوسه على مقهى ريش يذهب إلى مكتبه فى جريدة الأهرام ورغم أنهم فى الأهرام كانوا يضعون له كل الصحف الصادرة على مكتبه إلا أنه تعود أن يشتريها من بائعه المفضل. وفى الأهرام ينتظر وصول توفيق الحكيم فينتقل إلى مكتبه هو وزكى نجيب محمود ولويس عوض وحسين فوزى وإحسان عبد القدوس ثم ينضم إليهم بعد ذلك يوسف إدريس، وفى المساء يذهب إلى سهرة أصدقائه المقربين «الحرافيش» فى بيت الكاتب الساخر محمود عفيفى حيث يجتمع مع عادل كامل وأحمد مظهر والدكتور زكى مخلوف والمخرج السينمائى توفيق صالح وصلاح جاهين ورسام الكاريكاتير بهجت.
أهل الهوي
بعد انتهائى من فيلم «الباطنية» وعرضه بنجاح كبير طلب منى المنتج محمد مختار زوج نجمة الجماهير نادية الجندى فى ذلك الوقت بتقديم موضوع آخر لها، وأخذت أبحث وأقرأ وأفكر ولكنى لم أهتد إلى الموضوع المناسب لها، إن من أصعب الأشياء أن تعثر على موضوع لنجم معين. كان نجيب محفوظ ينشر كل ما يكتبه أولاً فى جريدة الأهرام قبل أن ينشره فى كتاب فقرأت له قصة قصيرة بعنوان «أهل الهوي» وعثرت فى هذه القصة على ضالتى التى كنت أبحث عنها فاحتفظت بالصفحة ووضعتها فى درج مكتبي.
وعندما أتى محمد مختار يسألنى عن الموضوع أخرجت له هذه القصة. قرأتها نادية الجندى أكثر من مرة وأطلقت كعادتها البخور واستخارت الله فقررت أن تكون هى فيلمها القادم.
عندما جلست مع نجيب محفوظ لأستزيد منه فى هذه القصة القصيرة أخبرنى بأنه كتبها فى الأول كرواية طويلة ولكنها لم تعجبه فأعاد كتابتها كقصة قصيرة، وربما هذا لم يحدث فى تاريخ الأدب فمن المعتاد أن يكتب الروائى قصة قصيرة ثم ما يلبث أن يحولها إلى رواية، وأعطانى نجيب محفوظ مخطوطة الرواية حيث كتب عليها «لاغي» وطلب منى أن أقرأها لعلنى أستفيد منها. وبالفعل قرأتها وأدركت أنه كان محقًا فالقصة القصيرة أفضل بكثير من الرواية، وأذكر أننى أعطيت هذا المخطوط لعلى بدرخان ولكنه أضاعه، ولذلك من يعثر على هذا المخطوط لا يحاول أن ينشره لأن هذا كان ضد رغبة نجيب محفوظ.
أهل القمة
واخترنا سمير سيف بدلاً من على بدرخان وكنت تقريبًا قد انتهيت من كتابة السيناريو وعندما قرأ سمير سيف السيناريو أراد أن يحول الموضوع إلى موضوع انتقام مبيت من جانب البطل، وتحمست للفكرة وقمت بكتابة سيناريو آخر رغم عدم حماس نادية الجندى فقد أعجبها السيناريو الأول لأنها هى التى تقوم بالانتقام وعقدنا اجتماعًا لاختيار المعالجة الأفضل وانقسمت الآراء فاقترحت عرض الأمر على نجيب محفوظ، كان الرجل لا يتدخل فى أمر السيناريو الأول مما أثلج صدر نادية الجندي، واعتذر سمير سيف عن إخراج الفيلم لأنه ارتبط بالعمل فى فيلم أجنبي، ولم نجد أمامنا سوى حسام الدين مصطفى فقمت بالاشتراط عليه بألا يغير شيئًا إلا بموافقتى وكتبت هذا الشرط فى عقدى وظهر الفيلم باسم «وكالة البلح» ونجح نجاحًا كاسحًا. وشجع هذا النجاح المنتج عبد العظيم الزغبى الذى اشترى من نجيب محفوظ قصة «أهل القمة» على أن أقوم بكتابة السيناريو بعد أن أسند الإخراج لعلى بدرخان وعندما قرأت القصة وجدتها أنها رواية قصيرة أو قصة قصيرة طويلة ووجدت أن نجيب محفوظ تأثر فى كتابتها بكونه كاتب سيناريو أيضًا. ولذلك لم نرجع إليه فى شيء. استغرق العمل فى السيناريو ما يقرب من العام، فالعمل مع على بدرخان ليس سهلاً وهو يأخذ رأى كل من حوله وكل من يقابلهم ويعيد التفكير فيما كتبناه واتفقنا عليه ويقرر أن نكتبه مرة أخري. وهو يشبه فى هذا صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وأشرف فهمى ولكن النتيجة تأتى دائمًا مرضية ولذلك فإننى أضحك عندما أسمع أنهم فى أيامنا هذه يكتبون السيناريو فى أسبوعين أو ثلاثة وتكون النتيجة أننا نشاهد كوارث سينمائية بدلاً من الأفلام السينمائية.
أثناء العمل فى هذا الفيلم تعرفت على سعاد حسنى حيث كانت ما زالت زوجة على بدرخان وأصبحنا أصدقاء اقتربت من شخصيتها كثيرًا ومما لفت نظرى فى شخصيتها أنها إذا ما جلست مع من يفوقها علمًا تجيد الإنصات وحبًا فى المعرفة. وأذكر أننا كنا نتناول العشاء فى منزل المنتج عبد العظيم الزغبى وهو أيضًا من خريجى قسم اللغة الإنجليزية وكان لديه مكتبة تضم الكثير من الكتب عن السيناريو وأخذ يقرأ مقتطفات منه ويترجم لسعاد ما يقرأه ويشرحه وهى تنصت له فى اهتمام شديد وقد بدت الحسرة على وجهها لأنها تجهل الإنجليزية، فطلب منى عبد العظيم الزغبى أن أترجم لها الكتاب. وقمت بعد ذلك بترجمة الكتاب وعند صدور الترجمة فى كتاب كانت سعاد قد رحلت وأقامت فى إنجلترا.
أذكر أن نجيب محفوظ أخبرنى بأنه كان يتابع كل ما كتبه النقاد عن الفيلم وهذا ما شجعه على أن يذهب لمشاهدته. وبعد أن علمت أنه شاهد الفيلم قمت بالاتصال به تليفونيًا لأسأله عن رأيه فأخبرنى بأن يوسف القعيد كان محقًا عندما كتب أن الفيلم تفوق على القصة. استنكرت منه ما قاله وأخبرته بأننا لم نفعل شيئًا أكثر من قصته العظيمة، وكان هذا هو حال نجيب محفوظ فى كثير من الأحيان مع الذين يحولون رواياته أو قصصه إلى أعمال سينمائية أو تليفزيونية. كنت أحيانًا لا يعجبنى بعض هذه الأعمال وأتعجب عندما أرى نجيب محفوظ فى ندوته وقد أخذ يمتدح عملاً تلفزيونيًا أو سينمائيًا متوسط القيمة أمام صاحبه مخرجًا أو كاتب سيناريو، وأذكر مرة أن اعترضت على هذه المجاملة فابتسم فى رقة وأخبرنى فى هدوء بأنه مسئول فقط عن الكتاب وأن العمل السينمائى أو التليفزيونى هو مسئولية صانعيه وما دام العمل انتهى وعرض فلماذا يغضب هؤلاء الناس الذين تعبوا فى عمله ولم يوفقوا فى ذلك. لو كانوا أخذوا رأيه أثناء الكتابة لأعطاهم الرأى الصواب والنصيحة المفيدة. ولذلك كنت أحرص فى كثير من الأحيان على أن يقرأ نجيب محفوظ السيناريو الذى أقوم بكتابته عن إحدى رواياته أو قصصه.
سمارة الأمير
كان آخر أجر حصل عليه نجيب محفوظ فى السينما عن أى قصة أو رواية هو 4500 جنيهًا فى الوقت الذى كان إحسان عبد القدوس يحصل على مبلغ 7000 جنيهًا. وكان نجيب محفوظ يعلم ذلك فلم يتذمر أو يعترض أو يطالب بالمساواة أو ما يزيد كما يفعل الكثير من الأدباء وكتاب السيناريو بل كان راضيًا بهذا الأجر، وبعد أن حصل على جائزة نوبل اخترت قصة «سمارة الأمير» لأشتريها لإعجابى بها وإعجاب نجمة مصر الأولى نبيلة عبيد بها، وذهبت إليه فى مقهى «على باب» بالتحرير حيث وجدته جالسًا مع الناقد رجاء النقاش يعملان. كان اللقاء حارًا بالقبلات، وأخبرته بما أريد فابتسم فى حيرة وأخبرنى بأن توفيق صالح حدثه فى هذا الأمر من أجل على بدرخان فوعده وأنا أعلم جيدًا أنه عندما يعد أحدًا برواية أو قصة لا يحل هذا الوعد إلا إذا جاء الطرف الآخر ليحله من وعده حتى ولو جاء من يضع أمامه الثمن كاملاً، واصابنى اليأس ولكن انتظرت حوالى أسبوعين علمت خلالها أن هنا بعض المشاكل وأن الجهة الإنتاجية لن تنتج المشروع. فقمت بالاتصال تليفونيًا بنجيب محفوظ وأخبرته بما علمته فطلب منى أن أمهله يومين وبعد يومين اتصلت به فطلب منى أن أقابله فى مكتبه فى الأهرام. استقبلنى فى حفاوة كعادته وكنت أعلم أننى من المقربين إليه. وعندما كان يعلم أننى الذى سوف أقوم بكتابة السيناريو لأحد أعماله كان يبدى سروره واطمئنانه للمنتج. وعندما سألته كم يريد أن يأخذ منى ثمنًا لقصة «سمارة الأمير» فإذا به يبتسم ويخبرنى بأن الأحوال كما أعلم تغيرت بعد جائزة نوبل وهو حائر لا يعلم ماذا يفعل ثم وجدته يسألني:
• قولى انت يا محرم.. أنا دايمًا اعتبرك أخويا الصغير.. تفتكر أخد كام دلوقت؟
فإذا بى أشعر بالحيرة وقد فاجأنى السؤال وفكرت برهة ثم ابتسمت له قائلاً:
• تأخذ خمستار من أى منتج بس تأخذ منى أنا عشرة.
فإذا به يبتسم ويهز رأسه راضيًا ويقول:
• خلاص.. أنا موافق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.