د. محمود بركة بعد عامين من حرب الإبادة على غزة وعموم فلسطين، أقام الفنان التشكيلى الفلسطينى ميسرة بارود معرضًا، فى جاليرى «إيزل آند كاميرا» بمدينة السادس من أكتوبر تحت عنوان «لا زلتُ حيًّا»، ضم عددًا من أعماله التشكيلية أنجزها داخل قطاع غزة خلال زمن الحرب والنزوح. لم يتوقف ميسرة بارود عن تجسيد واقع اليوميات والأحداث التى يعيشها الفلسطينيون وشهدتها المدينة، فى محاولات دائبة لرسم الزمان والمكان على امتداد زمن المقتلة، لينتج ما يقرب من 900 لوحة باللونين الأسود والأبيض فقط واختفت بقية الألوان عن تلك الأعمال، واختار لها عنوان «لا زلتُ حيًّا» وكأنه بهذه العبارة يعلن النجاة بالكتابة والرسم بعد أن قصفت ودمرت قوات الاحتلال بيته ومرسمه الذى ضم لوحات قديمة وثمينة ونادرة. والفنان ميسرة بارود أستاذ ومحاضر جامعى فى كلية الفنون بجامعة الأقصى والكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا فى غزة حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة النجاح الوطنية فى فلسطين، ودرجة الماجستير من كلية الفنون الجميلة فى مصر. شارك فى العديد من المعارض المحلية والدولية فى أكثر من عشرين دولة، تخللتها إقامة معارض فردية خاصة. فى رحلة الأيام الفلسطينية ومسيرتها الممتدة تحت ظلم الاحتلال، وضع العديد من الفنانين العرب أعمالًا فنية جسدت وقائع تلك الأيام، ليس فقط كوثيقة حاولت الإمساك بالحقيقة والحدث، بل أيضًا لتكون سيرة تعبيرية فنية تسعى لخلق ذاكرة قادرة على مجابهة الحرب والدمار نذكر هنا رسومات «الألفبائية الفلسطينية» للفنان المصرى محيى الدين اللباد، و«النشيد الجسدي» للفنان العراقى ضياء العزاوى عن مجزرة تل الزعتر وفى هذا المسار الفنى والوطنى يُكمل ميسرة بارود نشيده الحُر الخاص: «لا زلتُ حيًّا». خلال افتتاح المعرض تساءل عدد من الحضور عن اللوحات.. أفكارها وما تسعى للتعبير عنه. وهى تساؤلات لا تقصد الاستفهام قدر ما هى محاولة لتأمل ما تحمله الرسومات من تفاصيل الشخصيات والأماكن والهواء والأرض والحدث كنت أستمع لتساؤلات الحضور فيما اتأمل اللوحات لأحدد الأحداث المرصودة من خلالها: هنا قنص جنود الاحتلال الفلسطينيين داخل مراكز المساعدات الإنسانية هنا قصف الاحتلال الخيام وجرت المجزرة هنا قصفوا المبانى والمستشفيات والمدارس والطرقات هنا القذائف تسقط على الناس فى الشارع. هنا طريق النزوح والأجساد المُتعبة. هنا امرأة فلسطينية تربى الأمل كجنين. يكتب ميسرة بارود عن معرضه: «أمضيت عامين فى الرسم يوميًّا، مسجّلًا كل ما مررنا به خلال حرب الإبادة على غزة. قضيت فى غزة أكثر من ثمانية عشر شهرًا قبل (النزوح) إلى فرنسا، ولا زلت مستمرًّا فى الرسم خرجت من غزة قبل أربعة أشهر، ولكن غزة باقية فى القلب، وحين يُذكر اسمها، تخرج من الأعماق طلقة تستقر فى الحلق، كغصّة لا تنتهي. اليوم أنا هنا فى القاهرة، فى أقرب نقطة ممكنة فى معرضى أقدّم سردية بصرية «لا زلتُ حيًّا»، تلك السلسلة التى بدأتها فى غزة ولن تنتهى إلا بنهاية المقتلة، سردية ورواية وشهادة توثق الدمار والألم والانكسار والصبر والجوع والنزوح والموت الطازج المستمر». كلمات ميسرة بارود شريط من الكتابة الفاعلة، هدفها البحث عن الناس والكائنات والذاكرة والوطن ومكونات الحياة التى أقامها الفلسطينى فى رحلته لإثبات وجوده على أرضه، رغم كل جرائم الاحتلال المتواصلة لاقتلاعه من جذوره وفى حديثى مع ميسرة حكى جزءًا من إصراره على مواصلة الكتابة بجانب الرسم، قائلًا أن لها زمنها الخاص، وأنها يعتبرها بجانب الرسم جدارًا معرفيًا وإنسانيًا يرتفع نداءه إلى الشارع ولا توقفه اللقاءات الرسمية والاجتماعات الدولية لتحضير بيانات الخطاب تجاه الحرب والإبادة فوحدة الفن مع الكتابة صوت لا يُؤجَّل لزمن آخر، فهو لغة الموقف والثبات المستمر، ورحلة الجمال فى نكهة الحياة الصحيحة الخالية من غبار الحروب والدمار. يكتب ميسرة بارود: «الرسم على حدود الوطن والذاكرة، فى عالم تتشظى فيه الأرض وتتفكك فيه المعاني، أقف كمن يبحث عن وطنٍ فى حبرٍ أسود، عن بيتٍ فى بقعة ضوء، عن لغة بديلة حين تخوننى الكلمات لا أرسم كى ترضى العين، بل لألتقط ما لا يمكن قوله: أرسم الفراغ الذى تركناه فى الأماكن التى انتُزعنا منها، والوزن الثقيل للموت الطازج والمستمر حين لا يتوقف، والبيت الذى لم يعد هناك أرسم وطنًا كخريطة لم تُرسم بدقة، بل كنبضٍ غامض، شيءٌ يشبه الطيف. رائحة الخبز، ظلّ الأم، صوت الذاكرة المختلط بأزيز الرصاص والطائرات، كل ذلك يتحوّل إلى نسيج بصرى تتداخل فيه الذاكرة مع الجرح، والحقيقة مع الحنين.» هذه الكلمات تصوّر شريط اللوحات والوجدان الذى يتبعه الفنان، الرسم والكتابة لإحياء أصوات الأمل وروح البلاد، رسالة واضحة الجوهر عن الحياة الفلسطينية وما تعيشه من عذابات لا تتوقف ومحاولات المحو حتى النجاة واللقاءات مع الآخرين فى المدن القريبة والبعيدة، وتُبصر العيون بنبض القلوب حين يكون الرسم جسرًا للقاء وقراءة جماعية للوحة يشاهدها الجميع فى وقت مشترك. فى المعرض، تتجاوز الذاكرة حدود الوطن، وترصد لحظات الإبادة من أيامها الأولى التى استمرت لأكثر من عامين، لتقدم تكوينًا يروى سيرة الأرض وأهلها، وما عاشوه خلال زمن الحرب على شريط النزوح الذى شهده البحر وشاركهم المشى الطويل والبعيد، وهم يحملون أجسادهم من مكان لآخر. اللوحات تتجسد باللون الأسود، والفراغ للون الأبيض الذى هو نور نحو النجاة، وتأتى كشهادة، ميسرة بارود يكتب ويرسم الصوت المفقود تحت الركام. صوت غزةوفلسطين وأصوات الفلسطينيين فى زمن الإبادة.