«أنا بخير، رضوض فى المشاعر، وكسر فى الخاطر، وبعض خدوش على الذاكرة.. الأرض قتلت جدى من القهر والانتظار، وشيبت أبى من الكدح والبؤس، وأخذتنى إلى الوعى المبكر بالظلم.. آه يا جرحى المكابر، وطنى ليس حقيبة وأنا لست مسافرًا، إننى العاشق والأرض حبيبة».. كلمات ملئت بالمرارة لشاعر الأرض المحتلة الكبير «محمود درويش» عن الأرض والوطن تذكرك بها لوحات الفنان التشكيلى الفلسطينى «ميسرة بارود» الذى رفض الخروج من مدينته غزة وبطريقته الخاصة قاوم القهر بريشته، ورغم القصف الذى هدم بيته ومرسمه حمل أوراقه وقلمه وأحباره وخرج من بين الركام ليجوب طرقات المدينة بشهادة موثقة ورسالة للعالم: «أنقذوا غزة». وثَّق الفنان الحرب وجسَّدها فى 900 لوحة، واختار القاهرة ليعرض منها 100 عمل ليقدمها فى معرض خاص تزامن مع بوادر انتهاء الحرب، تجئ من أرض مصر ورعايتها.. يأتى المعرض بمشاهد تؤكد أن الصمود هو الطريق الأوحد للحياة والبقاء رغم الخراب ورائحة الدم وسقوط الأبرياء. يقول «ميسرة»: إن الأدوات والألوان لم تكن متوافرة، فكيف تحكى عن حدث وليس معك إلا ورقة وقلم وأرسم بهما «الخريطة».. خريطة مخططات ومسارات الجنود الإسرائيليين، أرسمها هندسيًا بعمل متميز لتوضيح هذه الفكرة.
كان تحديًا، كم من الوقت أستطيع الصمود والاستمرار؟.. رسمت 900 لوحة بمعالجات مختلفة، وكل لوحة لها ظروف خاصة. مرسمى وبيتى راحا ثانى يوم من الحرب، تم قصف المبنى، 12 طابقًا، تم هدمه بالكامل لأخرج إلى الشارع بالشورت والشحاط - الشبشب - وضاعت كل أعمالى وأدواتى.. وخلال 19 شهرًا، أكملت لوحاتى، «وإن شاء الله بعد الإجلاء تكون نهاية الحرب». قهرت نفسى وأنا أرسم، فقهر النفس علاج للظلم، وهناك من انتقدنى وكيف أرسم فى أجواء الحرب.. رسمت وأنا أبحث عن الماء والكهرباء ومكان آمن، وأعمالى رسالة وإحساس قوى بأنى أقوم بعمل إيجابى، ولوحاتى سردية بصرية لإنسان رأى ورسم بطريقة واقعية.. فأنا لم أقرأ أو أسمع عن الحرب، بل عايشتها معايشة حقيقية.
بمرارة يحكى «ميسرة» بعد نشره لبعض لوحاته وعرضها فى دول أوروبية مختلفة، تفاعلوا معها.. خاصة رسمه لأحد الحيوانات «حمارة» قصف العدو المكان الذى تبيت به وماتت أمها.. نشرت رسمها. تفاعل معها الأوروبيون من بلجيكاالسويد ودول أخرى، وهو ما شجعنى لنشر لوحة الطفل «محمد البهار» المريض بمتلازمة داون، عضَّه كلاب الجيش الإسرائيلى فى يده وتركوه ينزف حتى مات، وللأسف لم يتفاعل معها أحد! يقول ميسرة: ذلك دفعنى للتساؤل عن المعيار والمقياس الذى يتعاطف معه العالم مع هذه الأحداث، وكيف يتعاطفون مع بعض الرسوم ولا يهتمون بالبعض الآخر، ولماذا تتعاطف مع الرسوم ولا تتعاطف مع مرارة الواقع وحذف كلمة «الإبادة» -رغم حدوثها أمام العالم- كأنها كلمة صنعت ليهود أوروبا فقط، فهناك رفض لقبول مشاهد الاعتقال وصور من يبحثون عن الطعام، نشرت رسما لطفل مصاب محمول إلى عربة الإسعاف تفاعل معها الآلاف، ونشرت صورة لأطفال فى المستشفى لم يتفاعل معها أحد! شخصيات لوحاتى دون ملابس لأن الفلسطينى الغزاوى خرج من الحرب عاريًا من كل شىء. معالجاتى لمجموعات اللوحات مختلفة فى الحجم والأسلوب لاختلاف الإحساس مع كل مشهد أراه خاصة أن الأحجام الصغيرة كنت ملتزمًا بنشرها يوميًا. لوحات الفنان «ميسرة بارود» منفذة جميعها باللون الأسود وعرضها بقاعة easel camara بهيلتون دريم جولف.. الأعمال تستحق المشاهدة، معرض «مازلت حيًا» مستمر حتى 22 نوفمبر المقبل.