أصبح الزواج حلمًا مؤجلًا لدى كثير من الشباب فى ظل الارتفاع المستمر للأسعار وتزايد أعباء المعيشة، ما دفع بعض الفتيات والأسر إلى إطلاق حملات مجتمعية تدعو للتخلى عن مظاهر الترف غير الضرورية مثل «النيش» و»الشبكة الذهب»، فى محاولة لتخفيف تكاليف الزواج وكسر العادات التى حولت الارتباط إلى عبء اقتصادى بدلًا من كونه بداية حياة جديدة. تلك العادات جعلت رانيا يحيى تؤسس حملة أطلقت عليها «بلاها نيش وحاجات متلزمنيش»، هدفها الاستغناء عن الأشياء التى تزيد عن الحاجة الأساسية مثل الطقم الصينى والبايركس التى لا تُستخدم سوى مرات قليلة طوال العمر، وجميع الأشياء التى تعبر عن مظاهر فارغة وليس لها تأثير فى الحياة، هناك من اعترضن على الفكرة، بل ورفضن التنازل تمامًا عن النيش وإتمام الزفاف فى أغلى وأشيك الفنادق والقاعات، وهناك أيضًا من أيدوا الفكرة ووافقوا على تقليل التكاليف الكثيرة والتى لا داعى لها. وعلى نفس النهج قرر شباب إحدى قرى الصعيد إطلاق مبادرة للتخلى عن «شبكة الذهب» فى جهاز العروس لتيسير الزواج، ولاقت الحملة قبولًا لدى بعض العائلات والمناطق، بل اقترحت عدم تحميل الشباب مبالغ مالية ضخمة فى بداية حياتهم الزوجية. تقول هند محمد: عمرى تخطى 37 عامًا، غاليت فى طلبات الزواج عندما كنت صغيرة بالعمر وأفرض الكثير من الشروط على كل العرسان الذين تقدموا لخطبتى ولم أقبل أيًّا منهم، حاليًا سنوات عمرى تمر أمامى ولم أتزوج وأتمنى أن أصبح عروسًا بدون أى طلبات ولا حتى شبكة حتى لا أحصل على لقب عانس. محمد عبد الرحمن، 29 سنة، موظف فى شركة خاصة، يحكى أنه كان ينوى الزواج من زميلته فى العمل، وكل شيء كان يسير بشكل جيد حتى حانت اللحظة التى تحدثوا فيها عن تفاصيل الزواج، حيث طلب أهلها شبكة ب200 ألف جنيه، ومهرا 150 ألفاً، غير أن الفرح لازم يكون فى قاعة بفندق كبير، وحاول أن يشرح لهم ظروفه فكان ردهم: «اللى مش قادر من الأول مش هيقدر بعد الجواز»، فقرر الانسحاب فى صمت وإلغاء التفكير فى الزواج نهائيا. وتحكى ريم سامى - 25 سنة - خريجة كلية التجارة، أنها كانت مخطوبة لشاب محترم يعمل فى بنك، لكن بداية الخلاف كانت بين الأهل، فوالدتها كانت ترى أن ابنتها تستحق شبكة ذهب لا تقل عن 150 جرامًا، ووالدها أصر على أن تكون الشقة تمليكاً باسم ابنته، وهو ما اعتبره أهل العريس إهانة، وكان ردهم: «إحنا بنتجوز بنت مش بنشتريها»، وتقول ريم: «وقتها تأكدت أن اللى بيغلى نفسه أوى ممكن يخسر كل حاجة». أصلها فرعونى تقول د. سهير الدمنهورى رئيس قسم الاجتماع الأسبق بجامعة حلوان، إن المصريين لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الأوضاع الاقتصادية المحيطة بهم منذ أيام المصرى القديم وحتى وقتنا هذا، ويقومون على اختراع أشياء تساعدهم على المعيشة، ولتفسير أى ظاهرة علينا أولًا أن نعلم الأسباب التى أدت إلى انتشارها، وعندما نرى أن هناك بعض الناس بدأوا يتراجعون للخلف ويقللون من طلباتهم فى الزواج، فذلك يرجع إلى أنهم وجدوا أن هناك إحجاما وعزوفا رهيبًا من الشباب عن الزواج، لأنه لا يملك التكاليف الضخمة التى تطلبها عائلات الفتيات، وليس لديه وظيفة حكومية مضمونة دخلها ثابت، ولا حتى الوظيفة نفسها مضمونة لأن العمل الخاص يكون طوال الوقت مهددا، ما يجعلهم يفضلون العيش بمفردهم والابتعاد عن تحمل مسئولية عائلة معلقة فى رقبتهم قد لا يستطيعون الإنفاق عليها، وهناك جانب آخر للأمر وهو أن الأسعار أصبحت مرتفعة جدا، حتى إن الطلبات الخاصة بها قد لا يقدر عليها. وتوضح: «قرر الكثيرون على سبيل المثال الاستغناء عن غرفة السفرة الكاملة واستبدالها بمنضدة ومعها 6 كراسى فقط، وعدم الإصرار على إحضار النيش والبوفيه وغيره من قطع الأثاث المكلفة بشكل مبالغ فيه ولا يوجد منها نفع كما هو متوقع، وغيرهم يقررون الاستغناء عن بعض القطع الزائدة فى غرفة النوم واستبدالها بأشياء أخرى أبسط وأقل تكلفة والاكتفاء بالدولاب والسرير فقط». أما فيما يخص الحملات الكبيرة التى تنطلق عبر وسائل التواصل الاجتماعى حول الاستغناء عن الذهب فى الشبكة واستبداله بالفضة أو الستانلس أو الذهب الصيني، فترى د. سهير أن الآراء كثيرة حول هذا الأمر تحديدًا، فبعض الفتيات يرفضنه بشكل قاطع لرغبتهن فى التباهى بالشبكة أمام صديقاتهن وأقاربهن وحتى لا يظهرن بمظهر أقل منهن فى شيء، ولأن الشبكة تقدير من الشاب للفتاة ولا يجوز التغاضى عنها، وهناك رأى آخر، فبعض الفتيات لا يكترثن للأمر مبررات ذلك بأنه إذا دققن فى هذه التفاصيل فلن يتزوجن طوال حياتهن نظرًا للظروف الاقتصادية الصعبة التى نمر بها حاليا. وتشرح د. سهير: «كل هذا يدل على أن ثقافة الشعب تغيرت بشكل كبير ونسبة وعيه اختلفت تمامًا، فكل هذه الأشياء يمكننا الاستغناء عنها، لكن قديمًا كانت الثقافات مختلفة، وكان فى اعتقادهم أنه من الأسس الرئيسية للزواج أن يكون بيت الزوجية كاملًا من مجاميعه من الألف إلى الياء ولا ينقصه شيء، وهناك بعض فئات المجتمع حاليا لا يزالون يقومون بهذه الأفعال فى زواج بناتهم وأبنائهم وغالبا ما يكونون من سكان القرى والريف الذين ينفقون ما يملكون على جهاز ابنتهم خوفًا من كلام الناس أو للتباهى والتفاخر أمام أهلهم وأقاربهم، فبقدر امتلاكهم للأشياء على قدر المكانة الاجتماعية التى سيمتلكونها فى القرية». وعن مغالاة الأهل فى طلبات الزواج تحكى د. سهير: «تظهر هذه المغالاة فى حالات معينة، أن الفتاة مرغوبة جدًا، إما لمالها أو جمالها أو لعائلتها ونسبها، هنا يقوم أهلها بفرض شروط ضخمة على العريس المتقدم لخطبتها ولا يتنازلون عن أى شيء، بل ويفضلون أن تظل ابنتهم بدون زواج لكن لا تتغاضى عن أى شيء، وهناك بعض الأسر الأخرى التى تتغاضى عن الكثير من متطلبات الزواج فى سبيل إسعاد ابنتهم والاطمئنان عليها فى بيت الزوجية حتى لو حدث لها طلاق بعد سنة واحدة من الزواج، فالمهم بالنسبة لهم أنها لم تحصل على لقب عانس، حتى إن هناك بعض العائلات يبحثون لابنتهم عن عريس وهم على أتم استعداد أن يتحملوا كافة التكاليف فى مقابل أن تتزوج ابنتهم وألا تشعر بأنها أقل من أقاربها أو أصدقائها فى شيء، وهم فى النهاية يفعلون كل هذا ليجعلوا ابنتهم سعيدة».. وتعتقد د. سهير أن هذا النوع من الحملات الإيجابية نجح لدى الكثيرين وأتى بثماره بالفعل، فهناك الكثير من الحالات بالفعل تنازلت عن العديد من متطلبات الزواج العادية مثل بعض قطع الأثاث والشبكة وغيرها مقابل إتمام الزواج. الرهان على الوعي أما د. هبة على محمد، استشارى العلاقات الزوجية والأسرية فترى أن انتشار مثل هذه الحملات فى مصر شيء فى غاية الجمال، ففكرة الزواج بشكل عام أصبحت صعبة على الشباب خاصة فى ظل الظروف الاقتصادية التى نمر بها حاليًا، والتخفيف فى طلبات الزواج والتيسير على الشباب مطلوب ولا يعتبر تنازلا عن الحقوق بل مراعاة لظروف المعيشة، فالتكاليف أصبحت ضخمة وعلى سبيل المثال أسعار الأجهزة الكهربائية أصبحت أضعافًا مضاعفة وهى بند واحد فقط من بنود تكاليف الزواج. وتقول: «سمعنا عن هذه الحملات كثيرًا فى العديد من القرى سواء فى الصعيد أو غيره، ولاقت انتشارًا واسعا ونجاحا كبيرا، حيث قرر الكثير من الأسر الاستغناء عن الشبكة واستبدالها بالذهب الصينى أو الفضة، طالما أن الشاب المتقدم لخطبة ابنتهم «ابن حلال» وعلى خلق ودين، وعائلات أخرى اقتصدوا فى تجهيزات بيت الزوجية ولم يطالبوا العريس بأشياء مبالغ فيها. كل هذه الحملات لا تساهم فقط فى تسهيل الزواج ولكنها تعمل على تقليل نسبة العنوسة بين الفتيات والشباب أيضًا، لأن كل ما يحدث عكس ذلك ليس إلا عادات اجتماعية ومظاهر لا تمت للدين بصلة، والهدف منها ليس إلا تفاخر الناس بعضهم على بعض، وفى النهاية المغالاة فى الشبكة والمهر وغيرهما وتباهى الفتيات أمام بعضهن ليس له أى معنى». وتوضح: «الوضع حاليا بدأ يتغير قليلًا وأصبح لدى الناس وعى كاف لمواجهة الضغوط الاقتصادية التى تمر بها كل الأسر على كافة المستويات، وأصبحوا على يقين بأن الزواج يحتاج لتفاهم ومودة ورحمة، وأن يكون كلا الطرفين لديهما وعى بكيفية إقامة حياة زوجية سليمة، والأمر لا يعتمد على التكاليف فقط ولا المهور أو من سيشترى شبكة أكبر وأغلى أو من سيدفع أكثر، فالمرأة عندما تقرر الانفصال عن زوجها لن تبحث عن أى شيء لها، ستترك له الجمل بما حمل وترحل، فكل هذه الأشياء تنتهى مع الوقت، والأخلاق والدين ولغة الاحترام والتواصل والمودة بين الطرفين أكثر أهمية من الشبكة والمهر والأثاث». وتؤكد د. هبة أن الشعب المصرى قادر على أن يتكيف مع الظروف المادية المتغيرة، بل وقادر على إيجاد بدائل أوفر وتؤدى نفس الغرض سواء للنيش أو الشبكة وغيرها، وتأسف على أن هناك بعض البلاد والقرى ما زالت متمسكة بالعادات القديمة بل وتطالب الشاب بأعداد محددة من جرامات الذهب وفقا للعرف الشائع فى عائلتهم، وعليهم أن يفهموا ويدركوا أن الحياة الزوجية لن تقف على هذه الأشياء. وتنصح بضرورة عمل برامج تثقيفية فى المدارس والجامعات والمساجد حتى نستطيع تغيير مفهوم الفتيات أنفسهن، وإقناعهن بضرورة تيسير الزواج وأن يكون هناك تقارب فى السن بين الطرفين وأن يكون هناك توافق علمى وتقارب اجتماعي، فكل هذا له الأولوية قبل التفكير فى الذهب والنيش وما إلى ذلك. وفى النهاية توضح د. هبة أن المصريين لديهم وعى كبير بأن التفاهم والتواصل أهم من العرف والعادات والتقاليد، وهناك الكثير من العائلات ينفذون هذا ويبحثون لبناتهم عن التوافق والاستقرار والعيش فى بيئة هادئة وآمنة، فهناك الكثير من الفتيات تزوجن بجهاز عروسة كامل لا ينقصه أى شيء ولكنهن افتقدن السعادة، بل وبعضهن تعرض للانفصال بعد مرور فترة من الزمن وتركن الجمل بما حمل.