د. محمد أبو الفتوح غنيم :أستاذ الترميم والفنون الجميلة بجامعة المنيا القاهرةُ مدينةٌ تحمل التاريخ على كاهلها، وفى حنايا صدرها وطيّات ثيابها، وتمضى به فى دروب الزمان، بينما يتناثر عبقه فى شوارعها، وحاراتها، وأزقتها، وعلى جدران مبانيها العتيقة، وعلى مقاعد مقاهيها المجهدة، تطارد الزائر لها صورُ الزمان وبقايا الأيام، فوق مئذنة من ألف عام، ونقشٍ على حجر قديم يقول الذى لم يقله اللسان وفى كل زاوية منها تطل حكايات، وتُروى قصص، ومن كل صوب فيها يطاردك التاريخ ويستأثر بعقلك والبصر. والقاهرة فسيفساءٌ تاريخية، ولوحةٌ متنوعة الألوان الثقافية والحضارية، ترهَّل جسدها، ونالت التجاعيد من بشرتها، وهى تجاهد أن تظل صبيّة شابة عجوز ترتدى ثياب الشباب، لكنها تحتفظ بماضيها فى قلبها، وفى صدور أهلها، وعلى رفوف مكتباتها، وفى خزائن متاحفها تاريخها يقول إنها من ألف عام، بينما تمتد جذورها لآلاف الأعوام، وفى عباءتها تختفى مدن، وترتفع فى سمائها آلاف المآذن، وأينما حُفر فى موضعٍ من أرضها خرج التاريخ يصافح البشر ويتحدث إليهم. هى متحف مفتوح، تحتفى بالتاريخ، وتسجّله، وتوثقه، وتحفظ ما تخلف عنه من شواهد مادية، ودلائل ثابتة أو منقولة. والقاهرة منذ نشأتها فى العصور الإسلامية الأولى على يد القائد جوهر الصقلى فى القرن العاشر الميلادي، وُلدت لتكون مركزًا للعلم والفكر والفن، لكن جذور التاريخ فيها أعمق بكثير، إذ تقوم المدينة على أرضٍ عرفت حضاراتٍ متعاقبة منذ آلاف السنين ورغم كونها متحفًا مفتوحًا ممتدًا وفسيحًا، إلَّا أن من أبرز ملامح تفرّدها كونها مدينة يتزين جيدها بعشرات المتاحف التى تحتفظ بتراث مصر وآثارها، وتقدّم سجلًا زمنيًا شاملًا لمسيرة الإنسان منذ فجر التاريخ وحتى العصر الحديث. والمتاحف فيها ليست مجرد مبانٍ تحتوى على معروضات جامدة، وآثار صامتة، بل مؤسسات ثقافية حية تنطق بالحضارة وتروى القصص التى شكّلت وجدان الأمة المصرية والعربية والإنسانية جمعاء. وأقدم متاحف القاهرة وأشهرها المتحف المصرى بالتحرير، قلب القاهرة الأثري، وجوهر متاحفها وأقدمها، بل من أهم المتاحف الأثرية فى العالم أجمع. افتُتح فى عام 1902م ليضم آلاف القطع الأثرية، التى تحكى قصة مصر القديمة منذ ما قبل الأسرات وحتى العصور البطلمية والرومانية. يتميّز المتحف ببنائه الكلاسيكى المهيب الذى صمّمه المهندس الفرنسى «مارسيل دورغنون»، وكان يضم أكثر من 150 ألف قطعة أثرية، يجمع بين جنباته تاريخ يتحدث وحضارة تنبض بالحياة، وهو ليس مجرد متحف للآثار، بل هو مدرسةٌ متكاملة لتاريخ الفن والعمارة والدين المصرى القديم، ووجهة لا غنى عنها لكل باحث فى علم المصريات. وفى حى باب الخلق العريق يقف متحف الفن الإسلامى شاهدًا على عبقرية الفنان المسلم، وتنوّع مدارس الفن الإسلامى عبر العصور. يحتوى المتحف على أكثر من 100 ألف قطعة فنية تمثل فنون مختلف مناطق العالم الإسلامى عبر أكثر من ألف عام، منها ما يعود إلى بدايات الدولة الأموية وحتى أواخر العهد العثماني. وتتنوّع المعروضات فيه بين المخطوطات النادرة، والخزف الملوّن، والمنسوجات المطرزة، والأسلحة المزخرفة، والمشكاوات الزجاجية الرائعة، التى تزيّنها آيات القرآن الكريم. وتعود فكرة إنشاء متحف للفن الإسلامى فى مصر إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين أدرك العلماء والمهتمون بالتراث الإسلامى أهمية حفظ التحف، فكانت تُجمع من المساجد والمدارس القديمة فى القاهرة ليتم حفظها فى رواق مدرسة السلطان حسن، وكان هذا الرواق النواة الأولى للمتحف. وبعد تزايد عدد المقتنيات، تقرّر إنشاء مبنى مستقل للمتحف، فتم تشييده فى حى باب الخلق فى قلب القاهرة، وافتُتح رسميًا باسم دار الآثار العربية فى يوم 28 ديسمبر عام 1903م، بحضور الخديو عباس حلمى الثاني. وفى عام 1952م تغيّر اسمه إلى متحف الفن الإسلامى ليعكس اتساع نطاق معروضاته، التى تشمل جميع أقاليم العالم الإسلامى من الأندلس غربًا إلى الصين شرقًا. ويُعد المتحف من أهم المراكز البحثية المتخصصة فى دراسة الفنون الإسلامية، كما أنه صرح معمارى بديع يجمع بين الطراز المملوكى والزخرفة الحديثة يُعدّ متحف الفن الإسلامى أكبر متحف إسلامى فى العالم من حيث تنوّع المقتنيات وتغطية العصور المختلفة. وهناك المتحف القبطي، الذى يُعَدّ من أبرز المتاحف فى القاهرة، بل ومن أهمها فى العالم من حيث توثيق تاريخ المسيحية فى مصر وفنونها وآثارها. ويقع فى منطقة مصر القديمة، داخل أسوار حصن بابليون التاريخي، بجوار مجموعة من أهم الكنائس والأديرة، مثل الكنيسة المعلقة، وكنيسة أبى سرجة، وكنيسة مار جرجس، مما يجعله جزءًا من نسيجٍ أثرى ودينى متكامل. وقد تأسس عام 1908م على يد العالم والمهتم بالتراث القبطى مرقس سميكة باشا، الذى بذل جهدًا كبيرًا فى جمع القطع القبطية من الكنائس والأديرة القديمة لحفظها من الضياع، فكان أول من أسس متحفًا متخصصًا فى هذا التراث الفريد. ويضم المتحف اليوم أكثر من 16 ألف قطعة أثرية تُجسّد تطور الفن القبطى منذ القرن الثالث الميلادى وحتى القرن التاسع عشر. كما يتميز المتحف ببنائه المعمارى الذى يعكس روح الفن القبطى فى تصميمه، وزخارفه ونوافذه المزخرفة، ويُعدّ مثالًا رائعًا للعمارة المتأثرة بالتراث المحلى والبيئة الروحية للمسيحية المصرية. كما تضم القاهرة عددًا من المتاحف، التى كانت فى الأصل قصورًا ملكية، أو منازل لأمراء وشخصيات بارزة، تحوّلت إلى متاحف تحكى قصص الحكم والسياسة والفن فى مصر الحديثة. من أبرز هذه القصور: قصر عابدين، الذى شُيّد فى القرن التاسع عشر، وكان مقر الحكم الملكى فى عهد الخديوى إسماعيل، ويضم اليوم متحفًا للأسلحة والهدايا الملكية والوثائق التاريخية. قصر المنيل الذى يعكس ذوق الأمير محمد على فى الفن الإسلامي، ويجمع بين الطرازين المملوكى والعثماني. قصر البارون إمبان فى مصر الجديدة، وهو تحفة معمارية مستوحاة من الطراز الهندي، يعبّر عن التبادل الثقافى بين الشرق والغرب. هذه القصور لا تروى فقط حكاية الطبقة الحاكمة، بل تكشف أيضًا ملامح الحياة الاجتماعية والثقافية فى مصر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ولم تقتصر المتاحف فى القاهرة على الآثار القديمة، والقصور التاريخية، بل امتدت لتشمل مجالات الفن والثقافة المعاصرة، ومن أهمها: متحف المركبات الملكية فى بولاق، الذى يعرض مجموعة نادرة من العربات الملكية التى كانت تستخدم فى المراسم والاحتفالات الرسمية. متحف الفن الحديث بدار الأوبرا المصرية، الذى يضم أعمال كبار الفنانين المصريين والعرب فى القرن العشرين، ويُعدّ منبرًا لتطور الحركة التشكيلية. متحف أم كلثوم بالمنيل، الذى يحفظ مقتنيات "كوكب الشرق" ويخلّد مسيرتها الفنية كرمزٍ للهوية المصرية والعربية. متحف الطفل فى مصر الجديدة، الذى يقدّم العلوم والمعرفة بأسلوب تفاعلى يناسب الأجيال الجديدة، ويُعد نموذجًا للمتاحف التعليمية الحديثة. وهناك أيضًا متاحف أقل شهرة لكنها تحمل أهمية علمية وثقافية خاصة، مثل: متحف قصر المانسترلى المطل على نيل الروضة، حيث تُقام فيه حفلات موسيقية تراثية. متحف الزراعة فى الدقي، الذى يعرض تاريخ الزراعة فى مصر منذ عصور الفراعنة. متحف الشرطة بقلعة صلاح الدين، الذى يوثّق تاريخ الأمن المصري. متحف السكة الحديد، وهو من أقدم المتاحف الصناعية فى الشرق الأوسط. هذه المتاحف الصغيرة تكمّل الصورة الكبرى للقاهرة كعاصمة شاملة للمعرفة فى جميع فروعها وكمدينة للمتاحف وذاكرة للحضارات. والقاهرة عبر تاريخها الممتد تدرك ما للمتاحف من أهمية كذاكرة للتاريخ، وسجل للفنون والحضارة، ومنارة للثقافة والعلم والمعرفة، فلا تتوان عن أن تضيف من وقت لآخر متحفاً جديداً إلى صندوق جواهرها من المتاحف، التى تربو على عن الثلاثين متحفاً، بخلاف متاحفها المفتوحة فى مواقعها الأثرية، وشوارعها القديمة، ومبانيها العتيقة، ومعالمها الطبيعية، هنا أو هناك. يأتى المتحف المصرى الكبير، ليكون تتويجاً لتاريخ من المتاحف فى مصر، وليمثل درة تاج المتاحف فى القاهرة، ويتمتع هذا المتحف بما لم يتمتع به متحف آخر، فتحتضنه الأهرامات، ويطالع أشعة الشمس التى تسطع على هضبة الجيزة كل صباح، ويرنو بنظره نحو أبو الهول صباحًا ومساء. ويمنحه هذا الموقع امتدادًا طبيعيًا للحضارة المصرية القديمة، وهو بذلك يربط بين الماضى الفرعونى والمستقبل الحضارى الحديث فى مشهد رمزى بديع. صُمّم المتحف وفق طراز معمارى عالمى حديث على يد المهندس الإيرلندى هينغان ماك، الذى فاز بالمسابقة الدولية لتصميمه عام 2003. ويتميّز المبنى بواجهة ضخمة من الحجر الجيرى المائل، تمتد على مساحة تقارب 500 ألف متر مربع، ليكون أحد أكبر المتاحف فى العالم. ويجمع التصميم بين الحداثة وروح الحضارة المصرية القديمة، حيث تتخذ بعض أجزائه شكل الهرم المفرّغ، بينما تعكس الزخارف الداخلية رموزًا فرعونية هندسية مأخوذة من المعابد القديمة. أما الردهة الكبرى، فتضم تمثال الملك رمسيس الثانى البالغ وزنه أكثر من 80 طنًا، ليستقبل الزائرين فى مشهد مهيب يعبّر عن عظمة الفراعنة. وهو أكبر متحف أثرى فى العالم مخصص لحضارة واحدة، هى الحضارة المصرية القديمة. تُقدّر مساحة العرض فيه بنحو 92 ألف متر مربع، وتضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تغطى جميع العصور المصرية القديمة، من عصر ما قبل الأسرات وحتى العصر اليونانى الروماني، معروضة بطريقة تُبرز التطور التاريخى والفنى عبر العصور، وتُستخدم فيها أحدث تقنيات العرض والإضاءة والتفاعل الرقمي، مما يجعل الزيارة تجربة تعليمية وثقافية تفاعلية ويُتوقع أن يكون هذا المتحف مركزًا عالميًا للدراسات الأثرية والسياحة الثقافية، يربط بين القاهرة القديمة والعالم المعاصر فى إطارٍ من الإبداع الهندسى الحديث. ويُجسّد المتحف المصرى الكبير رؤية مصر الحديثة فى ربط الماضى بالحاضر، وإبراز هويتها الحضارية للعالم. فهو ليس مجرد متحف، بل مشروع قومى يهدف إلى تقديم مصر كمنارة للثقافة والإنسانية. وبافتتاحه، تصبح القاهرةوالجيزة معًا أكبر مركز متحفى فى العالم، يجمع بين المتحف المصرى بالتحرير والمتحف الكبير، مما يعزّز مكانة مصر كعاصمة للتراث الإنساني. القاهرة ليست فقط مدينة يسكنها ملايين البشر، بل هى مدينة يسكنها التاريخ فى كل شارعٍ وزاويةٍ وحجر. فكل متحف فيها هو كتاب مفتوح، وكل قاعةٍ هى فصلٌ من قصة الإنسانية التى كُتبت على أرض مصر. وبتنوع متاحفها بين القديم والحديث، الدينى والفني، الملكى والعلمي، استطاعت القاهرة أن تكون بحق عاصمة المتاحف فى الشرق الأوسط، وواحدة من أهم المدن الثقافية فى العالم. ومن واجبنا أن نحافظ على هذا الإرث العظيم، لا كمجرد ماضٍ نفتخر به، بل كأساسٍ نبنى عليه مستقبلًا يليق بعظمة مصر وتاريخها المجيد.