د. خالد غريب :رئيس قسم الآثار اليونانية الرومانية بجامعة القاهرة تمثل مصر وحضارتها أحد أهم وأعظم حضارات العالم التى خلفت تراثًا عظيمًا لم يماثلها حضارة أخرى، ويعتقد البعض أن تراث المصرى القديم الذى تحتفظ به المتاحف بدأ مع العصور الحديثة ولكن هذا ليس أمرًا سليمًا حيث ترك الأجداد تراثًا يدل على حفظهم ورعايتهم لتراث من سبقهم بل وعملوا على عرض هذه الآثار لتكون بمثابة متحف مفتوح للآثار المصرية ومن بين من اهتموا بالأمر كان خعمواست ابن رمسيس الثانى الذى نجد اسمه مرممًا ومحافظًا على تراث خفرع وونيس على سبيل المثال، ويبدو أن الولد قد سار على نهج أبيه فى حماية التراث حيث كان رمسيس الثانى يقوم بكتابة جملة جميلة لحماية الآثار وإمكانية فتحها للزائرين حيث يقول (جدد الآثار لأبيه آمون رع سيد عروش الأرضين) . ونجد فى بعض مناطق الآثار قيام بعض الأشخاص منذ عصر الأسرات بزيارة آثار الأجداد والتبرك بها بل والعمل على صيانتها والحفاظ عليها وكان الملك المصرى يستحب أن يقول (ونن بت ونن منو إى تب تا .. ما دامت السماوات ستدوم آثارى على الأرض). خلال العصر البطلمى عمل الحكام على إبراز العلوم والفنون التى خلفها المصريون، ولذا أقاموا مكتبة الإسكندرية التى كانت أول مكتبة حكومية، وبجانبها أقاموا ما يشبه أكاديمية البحث العلمى والتى كان اسمها موسيون ومنها اشتقت كلمة museum ومترادفاتها المتداولة فى كافة اللغات. واستمرت فكرة المتحف عند المصرى عبر العصور حتى جاء عصر الأسرة العلوية وفى عهد محمد على ولخلاف مع القنصل الفرنسى فى مصر ميمو، والذى كان مهتمًا بتجارة الآثار، أصدر محمد على والى مصر قرارًا بأن تؤول كل الآثار إلى ملكية الدولة وعهد إلى رفاعة الطهطاوى ويوسف ضياء أفندى وكانا اثنين من الشباب المصرى الذين درسوا فى الخارج بتولى الأمر حيث قاما بتجميع الآثار ونقلها إلى قصر الأزبكية والذى يعد أول متحف مصرى فى العصر الحديث. لكن لسوء الحظ فبعد وفاة محمد على توقف المشروع وفى عهد سعيد باشا انتقلت الآثار إلى القلعة. ثم كانت البداية الحقيقية مع مجىء أمين متحف اللوفر أوجست مارييت لشراء مجموعة مخطوطات قبطية، وعثوره على سيرابيوم سقارة وإرسال مقتنياته إلى اللوفر؛ ومن ثم كان عليه تجميع الآثار فى متحف وهو ما لم يقبله فى البداية الخديو إسماعيل على الرغم من وساطة فرديناند ديليسبس، ولكنه فى النهاية وافق على إعطاء مكان فى بولاق (متحف المركبات الملكية الآن) ليكون متحفًا للآثار المصرية، وظل المتحف يحوى الآثار حتى وفاة مارييت باشا، والذى تحكى المصادر أن تلميذه ماسبيرو أخبره أن عددا كبيرا من الآثار تلفت وضاعت نتيجة إرتفاع فيضان النيل وبعده انتقل المكان إلى متحف سراى الجيزة بجوار موقع كلية الهندسة جامعة القاهرة الآن. اتسعت رقعة الآثار المصرية فقام ماسبيرو بالتحدث مع الخديو عباس حلمى حيث وافق الأخير على إنشاء متحف للآثار المصرية وتم اختيار موقع فى ميدان الإسماعيلية (التحرير الأن) لبناء المتحف، وتقدمت شركات عالمية بالتصميم حتى قبل تصميم الفرنسى مارسيل دورنون الذى وضع تصميم المتحف على شكل واجهة المعبد المصرى يتوسطه هيئة مصرية قد تماثل حتحور أو إيزيس ربة الأمومة، ووضع على الواجهة أسماء أشهر الحكام والمؤرخين الذين ارتبطوا بمصر. فى 15 نوفمبر 1902 افتتح المتحف المصرى والذى كان أكبر متحف فى العالم يضم آثار حضارة واحدة. وفى تسعينات القرن الماضى ومع اتساع رقعة الاكتشافات الأثرية والثقة التى أولاها العالم فى مصر وتراثها، بدأت فكرة إنشاء المتحف المصرى الكبير وفى عام 2002 تم وضع حجر الأساس للمشروع ليُشيَّد فى موقع متميز يطل على أهرامات الجيزة الخالدة، حيث أعلنت الدولة المصرية، وتحت رعاية (اليونسكو) والاتحاد الدولى للمهندسين المعماريين، عن مسابقة معمارية دولية لأفضل تصميم للمتحف، ويعتمد تصميمه على أن تُمثل أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة عند التقائها كتلة مخروطية هى المتحف المصرى الكبير. وقد تم البدأ فى بناء مشروع المتحف فى مايو 2005، حيث تم تمهيد الموقع وتجهيزه، وفى عام 2006، أُنشئ أكبر مركز لترميم الآثار بالشرق الأوسط، خصص لترميم وحفظ وصيانة وتأهيل القطع الأثرية المُقرر عرضها بقاعات المتحف، والذى تم افتتاحه خلال عام 2010. وقد اكتمل تشييد مبنى المتحف، والذى تبلغ مساحته أكثر من 500 ألف متر مربع، خلال عام 2021، ليتضمن عدداً من قاعات العرض، والتى تعتبر الواحدة منها أكبر من العديد من المتاحف الحالية فى مصر والعالم. ويُعد المتحف أحد أهم وأعظم إنجازات مصر الحديثة؛ فقد أُنشئ ليكون صرحاً حضارياً وثقافياً وترفيهياً عالمياً متكاملاً، وليكون الوِجهة الأولى لكل من يهتم بالتراث المصرى القديم، كأكبر متحف فى العالم يروى قصة تاريخ الحضارة المصرية القديمة، حيث يحتوى على عدد كبير من القطع الأثرية المميزة والفريدة من بينها كنوز الملك الذهبى توت عنخ آمون والتى تُعرض لأول مرة كاملة منذ اكتشاف مقبرته فى نوفمبر 1922، بالإضافة إلى مجموعة الملكة حتب حرس أم الملك خوفو مُشيد الهرم الأكبر بالجيزة، وكذلك متحف مراكب الملك خوفو، والقاعات التى تعبر عن تطور المجتمع والملكية والديانة المصرية عبر العصور، إن المتحف المصرى الكبير يعد لمصر وبحق إنجاز القرن بعد اكتشاف توت عنخ آمون، ومتى تم التعامل معه بالشكل العلمى المتميز المرجو منه سيحقق عائدًا كبيرًا كأكبر صرح ثقافى لتراث وحضارة مصر القديمة.