في صباح شتوي هادئ من شهر نوفمبر، كانت مدينة فوه الصغيرة تستيقظ ببطء.. البيوت تفتح نوافذها على نسمات خفيفة.. الأمهات يعلقن الغسيل وينشغلن بالأعمال المنزلية، الأطفال يركضون إلى الدروس.. كل شيء كان عاديا إلى أن انقلب الحال إلى عويل يخترق الجدران.. صراخ أم يتردّد في أرجاء القرية الصغيرة، وهي تحتضن جسد نجلها محمد المعلّق من سقف الغرفة.. مشهد قاسٍ لا تحتمله عين ولا قلب، فالصغير لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وجهه البريء متدل في صمت موجع، ودموع الأم تنهمر وهي تصرخ بين الجيران: «ابني انتحر»! تجمع الأهالي في فزع، بعضهم يبكي، وآخرون لا يصدقون؛ فالصبي معروف بخجله وهدوئه، لا شيء يوحي بفكرة الانتحار.. ومع وصول رجال المباحث والنيابة، بدأت الأسئلة تتطاير في الهواء، وتحوّل الصراخ إلى همهمات وشكوك... مرت الساعات وكانت المفاجأة التي فجرها رجال المباحث وأكدها تقرير الطب الشرعي؛ أن محمد لم يمت شنقًا، بل توفى نتيجة تناوله حبة غلال سامة، لحظتها تغير كل شيء، وتحول مسار القضية من مأساة انتحار إلى جريمة غامضة. وبينما كان الجميع يواسي الأم المنهارة، وجهت أصابع الاتهام نحوها فجأة، لتتحول من أم مكلومة إلى متهمة بقتل فلذة كبدها... وهكذا بدأت فصول الحكاية التي هزت قلوب الناس قبل أن تهز أروقة القضاء. البداية الحكاية بدأت في فوه التابعة لمحافظة كفر الشيخ؛ حيث نشأ محمد بطل قصتنا، صبي يبلغ من العمر 16 عاما، طالب في الصف الثاني الثانوي، يعيش مع والدته نوال وشقيقته الصغيرة بعد سفر الأب إلى الخارج، حياتهم كانت طبيعية وهادئة وفي لحظة البيت الذي يضج بالحياة صار ممتلئا برجال الشرطة والأقارب والجيران. الأم تصرخ: "الحقوني.. ابني محمد شنق نفسه".. خرج الأهالي على الصوت في حالة من الذهول والصدمة يتهامسون: "ازاي.. ده كان كويس.. احنا لسه شايفينه رايح يوصل أخته الدرس". جلست الأم تبكي بحرقة وتشق ملابسها وتحكي والدموع تتساقط من عينيها بغزارة تحكي للجيران الحكاية، اليوم بدا عاديا، خرج محمد لتوصيل شقيقته لدرسها ثم عاد للبيت، كنت على السطح لنشر الغسيل وعندما نزلت لأطمئن عليه وجدته معلقا في سقف حجرته". لم يكن في البيت ما يوحي بجريمة؛ كل شيء مرتب، لا بعثرة أثاث، ولا رسالة وداع، لكن رجال المباحث لم ينطلى عليهم هذه المسرحية، فدموع الأم لم تكن إلا دموع تماسيح، لاحظوا أن في العيون شيء لم يقل بعد. ظنت نوال أن الصدمة انتهت حين دفنت ابنها، لكنها لم تعلم أن رحلتها الحقيقية نحو الجحيم بدأت هناك. المفاجأة بعد أيام، وصل تقرير الطب الشرعي، الذي أكد تحريات رجال المباحث وكان بمثابة الصاعقة. التقرير ةقبله التحريات تكشف بوضوح؛ إن الوفاة ليست نتيجة انتحار فقط، بل نتيجة تسمم حاد بمادة فوسفيد الألومنيوم— المعروفة بحبة الغلة، ثم تلاها خنق متعمد. أي أن الطفل قُتل مرتين: مرة بالسم، ومرة بالحبل. هنا انقلبت القضية تمامًا.. لم تعد أم تبكي ابنها، بل أم متهمة بقتله، واقتيدت بعدها إلى مركز الشرطة فاعترفت بجريمتها لكن قبلها حاولت إنكار جريمتها في أروقة التحقيق، حين استدعتها النيابة، دخلت نوال المكتب بخطوات بطيئة؛ شاحبة الوجه، تنظر إلى الأرض وكأنها تخاف من نفسها. سألها رئيس النيابة بهدوء: "هو ابنك كان عنده مشاكل"؟! فأجابت بصوت واهن: "كان زعلان مني شوية.. كنت شاكة إنه خد مني فلوس، وقلتله هكلم أبوه لو ما رجعش المبلغ اللي سرقه"! صمتت لحظة، ثم أضافت: "بس والله ماكنتش أتخيل يعمل كده بنفسه"! لكن أقوالها بدأت تتناقض مع ما اكتشفته الأجهزة الأمنية. ففي هاتفها المحمول، وُجدت صور ومحادثات غير لائقة، ومحتوى يفتح بابًا واسعًا من التساؤلات: من كان يتحدث معها؟.. هل كانت ضحية ابتزاز؟.. أم أن هناك من يشاركها سرًّا أكبر؟.. وبدأت تزداد دائرة الشك. بعد أيام من التحقيق، تقدم أشقاء والد الطفل ببلاغ رسمي اتهموا فيه الأم بقتل ابنها، قالوا إن محمد لم يعاني من أي اضطرابات نفسية، وإنه شوهد يوم الحادث في عزبة مجاورة لمنزله، أي أنه لم يكن في البيت كما زعمت أمه. اتهموها بأنها تحاول إخفاء شيء أكبر، وأنها تسيء لسمعة العائلة منذ سفر شقيقهم إلى الخارج. تلك الشهادة كانت كفيلة لتؤكد تحريات موسعة من إدارة البحث الجنائي لمعرفة حقيقة ما جرى.. وهكذا وجدت الأم نفسها أمام محكمة الجنايات متهمة بقتل ابنها عمدًا. اقرأ أيضا: جزمجي يقتل زميله بمساعدة شقيقه للخلاف على الزبائن في قاعة المحكمة في الجلسة الأولى أمام محكمة جنايات فوه، والتي عقدت برئاسة المستشار خالد قطب بدر الدين، وعضوية المستشارين محمد مبروك عبد العاطي، ومحمود محمود يوسف، وسكرتارية أحمد الميداني، وبحضور وكيل النيابة إيهاب صادق. جلست نوال في قفص الاتهام، ترتدي طرحة سوداء، ووجهها يكسوه شحوب الموت أكثر من الندم. لم تكن الأم القاتلة تصرخ، فقط تبكي بصمت، وتنظر إلى الأرض كأنها تبحث عن ظل محمد تحت قدميها. حين واجهها المستشار خالد قطب بدر الدين بتحريات المباحث وتقرير الطب الشرعي وقال: "إزاي في خدوش بجسمه وأظافره كانت مقصوصة"؟!، لم تستطع أن تنطق. تمتمت فقط: "مكنش قصدي... ابني كان زعلان مني"! صمت رهيب سيطر على القاعة، لا صوت إلا لأنين مكتوم من بين الصفوف. ثم أصدرت المحكمة قرارها بتأجيل القضية لجلسة 8 نوفمبر؛ لاستكمال الاستماع إلى أقوال الشهود ومرافعة الدفاع ومناقشة الطب الشرعي خلال الجلسات المقبلة، تمهيدًا للفصل في القضية وفق ما ستثبته الأدلة وتقارير الطب الشرعي. التحقيقات لم تنتهِ بعد، وكل يوم يظهر مفاجآت جديدة تزيد من الغموض. هناك من يقول إنها فقدت صوابها لحظة الغضب، وهناك من يراها ضحية لابتزاز جعلها تنهار وتفقد توازنها، وآخرون يؤكدون أن الجريمة لم تكن لتُرتكب إلا بتخطيط من شخص آخر استغل ضعفها. لكن ما لا يختلف عليه أحد أن محمد لم يكن يستحق هذه النهاية، وأن الأمومة في تلك القصة كانت كشمعة احترقت من الطرفين. فالأم التي يُفترض أن تحمي، كانت في لحظة ضعفها مصدر الخطر، والطفل الذي كان يبحث عن الأمان، وجد الموت في أقرب يد إليه.. اليوم، الشقة التي كانت مليئة بضحكات طفل وأخته، أُغلقت أبوابها. الجيران لا يمرّون أمامها إلا وهم يتمتمون بالدعاء، والناس ما زالوا يتحدثون عن تلك "الأم التي قتلت ابنها" وفي انتظار كتابة السطور الأخيرة لتلك القصة.