من قلب الأهرامات، حيث ينهض الحجر ليحكي أسطورة جديدة عن مصر يولد المتحف المصري الكبير كأكبر مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين. صرحٌ يقف على تخوم المجد القديم والحداثة المبهرة، يجمع بين عبقرية الفراعنة وأحدث ما وصلت إليه تقنيات العرض العالمية. في قلب هذا المشروع يقف اسم امرأة قادت فريقًا من المبدعين لنسج حكاية الملك الطفل توت عنخ آمون في تجربة عرض غير مسبوقة، إنها الدكتورة شيرين فرنجول بروكنر الرئيس التنفيذى لشركة Atelier Brückner الألمانية، التي صممت قلب المتحف وروحه قاعة توت عنخ آمون الأسطورية. في هذا الحوار تكشف فرنجول أسرار الفلسفة التي صاغت لغة العرض المتحفي، وكيف جرى تحويل كنوز مصر القديمة إلى سرد بصري يمزج الجمال بالعلم، والمهابة بالدهشة؛ حديث عن الضوء والظل، عن المعنى قبل الشكل، وعن رحلة طويلة امتدت سنوات لتخرج لنا تحفة عالمية على أرض الجيزة، ستكون عنوانًا لعصر جديد من التواصل بين مصر والعالم. ◄ من الضوء والظل صغنا لغة تحكي روح الحضارة المصرية ◄ عملنا مع المصريين يدًا واحدة لنقدم تحفة إنسانية خالدة ◄ أبدعنا رحلة في هوية الإنسان المصري ◄ كيف قررت الحكومة المصرية ومسئولو المتحف اختيار شركة Atelier Brückner لهذا المشروع المرموق؟ ولماذا تم اختياركم تحديدًا؟ تم الاختيار من خلال عملية انتقاء دولية بين عدد من أشهر شركات تصميم المعارض فى العالم. لم يكن المطلوب تقديم تصميم نهائي، بل التركيز على الرؤية والفهم. تمت دعوتنا لعرض نهجنا المفاهيمي، وكيف نقرأ التكليف، وكيف نترجم السرد الثقافى إلى فضاء معماري. أعتقد أننا تميزنا بأسلوبنا الشامل الذى يربط بين المحتوى والعمارة وتجربة الزائر فى قصة واحدة متكاملة. منذ البداية كنا نتشارك نفس الطموح مع شركائنا المصريين: أن نُنشئ متحفًا ينتمى حقًا إلى مصر ويتحدث إلى العالم. ◄ كيف بدأت مشاركة شركتكم وكيف كانت الرؤية الأولى للمشروع؟ بدأ ارتباطنا بالمتحف المصرى الكبير عام 2016 بعد فوزنا بالمناقصة الدولية لتصميم وتنفيذ المعروضات الداخلية. كانت الرؤية منذ البداية أن نصنع تجربة سردية متكاملة تسير بالزائر من فجر الحضارة المصرية القديمة إلى ذروتها، بحيث يعيش التاريخ من خلال الأشياء، والضوء، والمساحة. أردنا أن نبنى حوارًا بين العمارة والآثار، بين القديم والمعاصر. ◄ اقرأ أيضًا | السفير الإماراتي: المتحف المصري الكبير إنجازا حضاريا عالميا يعكس عبقرية الإنسان المصري ◄ هل تعتبرين المتحف المشروع الأهم في تاريخ شركتكم؟ هو بالتأكيد من أكثر المشاريع أهمية، سواء من حيث الحجم أو المعنى. فالمتحف المصرى الكبير هو أكبر مشروع ثقافى قمنا بتنفيذه على الإطلاق، وفى الوقت ذاته من أكثرها عاطفية وتأثيرًا. إن تصميم المساحات التى ستحتضن كنوز توت عنخ آمون، إلى جانب الأتريوم الضخم والسلالم الكبرى، يربطنا مباشرة بخمسة آلاف عام من التاريخ. ولكل مصمم، أن يسهم فى مكان سيصبح جزءًا من التراث الإنسانى العالمي، هو امتياز كبير. ◄ يتحدث كثيرون عن العلاقة بين التصميم والسرد المتحفى فكيف تعرفين هذه العلاقة؟ السرد هو جوهر فلسفتنا. نحن لا نصمم فترينات عرض فحسب، بل نصمم مشاعر. كل قاعة تمثل فصلًا من القصة: «الملوكية والسلطة»، «الحياة اليومية»، «الإيمان بالبعث والخلود». القطع الأثرية هى الأبطال، والفضاء هو المسرح. المتحف رحلة فى الهوية.. هوية مصر وهوية الإنسان نفسه. ◄ لقد أصبحت الاستدامة والحفاظ على التراث من أهم الأولويات فكيف تم دمج هذه المفاهيم فى مشروع المتحف؟ الاستدامة كانت مبدأً أساسيًا فى كل خطوة. أنظمة الإضاءة موفرة للطاقة وصديقة للقطع الأثرية. كما صُممت أنظمة التحكم فى الحرارة والرطوبة لحماية الكنوز من أى تقلبات مناخية. حتى مواد البناء، من الحجر إلى الزجاج، اختيرت بعناية لتنسجم مع بيئة الصحراء وتعيش لعقود طويلة. ◄ ما التحديات الأكثر تعقيدًا التى واجهتموها؟ لكل قطعة متطلبات خاصة بها، سواء كانت من الذهب أو الخشب أو النسيج أو المواد العضوية. التحدى الأكبر كان تطوير لغة بصرية واحدة تحترم هذا التنوع مع الحفاظ على وحدة المشهد العام. وقد لعب الضوء دورًا محوريًا فى ذلك؛ فهو لا يمثل فقط مسار الشمس فى الأساطير المصرية، بل يحدد أيضًا الإحساس ويخلق بيئة درامية تعزز الهالة الفريدة لكل قطعة. والتحدى الأكبر كان حجم المشروع نفسه، فهو عمل ضخم بكل المقاييس. نحن نتعامل مع أكثر من 50 ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون. كل قطعة تحمل قصتها ونورها الخاص. كان علينا أن نصمم تجربة متكاملة تحترم قيمة القطع الأثرية، وفى الوقت نفسه تشد انتباه الزائر المعاصر. كما أن التعاون مع فرق دولية متعددة تطلّب تنسيقًا استثنائيًا وحسًّا ثقافيًا عاليًا. ◄ ما التنازلات التى كان عليكم تقديمها بين الرؤية الإبداعية والمتطلبات الصارمة لعلم الآثار والترميم؟ الأمر كله يتعلق بفن الموازنة. لقد عملنا عن قرب مع خبراء الترميم والقَيّمين لضمان أن يكون كل قرار تصميمى مستدامًا وقابلًا للعكس. بعض الأفكار الأولى تم تبسيطها لضمان الصيانة والاستقرار على المدى الطويل، لكننا لم نفقد أبدًا القوة العاطفية للفكرة. فالسرد والجو العام بقيا كما هما. ◄ كيف تردين على الانتقادات التى تقول إن اختيار شركة دولية لمثل هذا المشروع الوطنى جاء على حساب المصممين المصريين؟ هذا المشروع لم يكن ليتم دون التعاون الدولى الوثيق. لقد عملنا جنبًا إلى جنب مع المتخصصين المصريين والقَيّمين والحرفيين طوال مراحل التنفيذ، وكثير منهم أصبحوا زملاء وأصدقاء مقربين. المتحف مخصص للشعب المصري، وكان هذا هو بوصلة العمل دائمًا. دورنا كان فى تقديم الخبرة العالمية مع الإنصات العميق للمعرفة المحلية والحس المصري. ◄ ما الذى يميز منهجكم التصميمي عن غيركم من الشركات؟ شعارنا هو «الشكل يتبع المحتوى». نحن نبدأ من المعنى، لا من الشكل. أى أننا نفهم أولًا ما الذى يريد السرد أن يقوله، ثم نقرر اللغة المكانية الأنسب للتعبير عنه. فى المتحف المصرى الكبير، مكننا هذا النهج من ترجمة فكرة المصريين القدماء عن الحياة والموت والبعث إلى رحلة مكانية وعاطفية متكاملة. ◄ هل شعرتِ بضغوط وأنتِ تعلمين أن العالم كله سيقيّم عملكم في مصر؟ بالطبع، كنا ندرك حجم الاهتمام العالمي. شعرنا بمسئولية كبيرة تجاه القطع الأثرية، وتجاه الشعب المصري، وتجاه فريقنا. إنه مشروع يحدث مرة واحدة فى العمر، وكنا نعلم أننا نصمم شيئًا سينظر إليه لأجيال قادمة، وهذا الإحساس يجعلك متواضعًا ومركزًا للغاية. ◄ مجموعة توت عنخ آمون تُعرض كاملة لأول مرة فكيف ضمنتم أن المعرض سيتجاوز التوقعات العالمية؟ قاعة توت عنخ آمون هى القلب العاطفى للمتحف، وهى المرة الأولى فى التاريخ التى ستُعرض فيها جميع القطع البالغ عددها نحو 5000 قطعة معًا. تعاملنا معها كأنها تجربة مقدسة وسينمائية فى الوقت ذاته. أردنا للزائر أن يشعر كما شعر هاورد كارتر عام 1922 عند اكتشاف المقبرة. كل تفصيلة فى الإضاءة والصوت والإيقاع المكانى صُممت لتستحضر ذلك الإحساس بالدهشة والاكتشاف. أردنا أن يشعر الزائر بالرهبة والفهم فى آنٍ واحد. المعرض يحكى قصة من حياة الملك الشاب إلى دفنه ثم اكتشافه من جديد. عملنا مع القَيّمين على إبراز المعانى الرمزية للقطع، وليس فقط جمالها. فالزائر يعيش رحلة الفرعون، لكنه أيضًا يعيش رحلة علم الآثار نفسها. ◄ هل كانت هناك لحظات شعرتِ فيها أن حجم المشروع يفوق الاحتمال؟ وكيف قدتِ فريقك خلالها؟ بالتأكيد. كان الجدول الزمنى طموحًا للغاية، إذ كان لدينا ستة أشهر فقط لإكمال التصميم الكامل ووثائق التنفيذ. احتجنا إلى فريق أساسى من 25 شخصًا ومستوى استثنائى من التنسيق. ما ساعدنا على المضى قدمًا هو إيماننا المشترك بهدف المشروع وروح الزمالة. كنا نقول دائمًا: «فلنجعل العمل جديرًا بالقطع»، وكان هذا هو الدافع كل يوم. ◄ ما مقدار الحرية التى حظيتم بها فى صياغة السرد المتحفى؟ وما الذى فرضه المسئولون عن المتحف عليكم؟ كانت التعليمات الخاصة بمعرض توت عنخ آمون دقيقة وواضحة للغاية. جميع القطع، البالغ عددها 5600، كانت محددة ومصنفة فى فصول موضوعية. وضمن هذا الإطار، تمتعنا بحرية إبداعية فى تصميم تجربة الزائر وتوزيع القطع واختيار النغمة العاطفية المناسبة. ◄ ما الدور الذي لعبته التكنولوجيا والابتكار الرقمي في تحقيق أهداف التصميم؟ استخدمنا التكنولوجيا فقط عندما تضيف قيمة حقيقية. فى قاعة توت عنخ آمون، تجنبنا عمدًا الاعتماد على الوسائط الرقمية الثقيلة التى قد تهرم سريعًا أو يصعب صيانتها. استخدمنا الإسقاط الضوئى والإضاءة وطبقات رقمية خفية لدعم السرد القصصى. التكنولوجيا هنا غير مرئية، لتبدو التجربة خالدة الإحساس. ◄ كيف تأكدتم أن المعرض لا يدهش الزوار الأجانب فحسب، بل يلمس أيضًا وجدان المصريين؟ كنا واعين تمامًا أن المتحف المصرى الكبير هو فى الأساس للمصريين. سيأتى كثيرون لا لمشاهدة القطع فحسب، بل للاتصال بتاريخهم الشخصى. لذلك لم يكن التصميم عن الإبهار، بل عن الكرامة والانتماء. المساحات تدعو للتأمل والفخر والعاطفة، لا للانبهار البارد. أردنا أن يشعر كل مصرى يدخل القاعة قائلًا: «هذا ملكنا، وهذه حضارتنا». ◄ هل استلهم فريقكم من الفنون والعمارة المصرية التقليدية؟ وكيف تم دمج ذلك فى المشهد الحديث؟ نعم، لكن دائمًا بروح معاصرة. درسنا النِّسَب القديمة والإيقاعات والعلاقة الرمزية بين الضوء والظل. هذه المبادئ ألهمت تكوين الفضاءات والمواد دون نسخ مباشر. النتيجة جاءت متجذرة فى التراث المصري، ولكنها حديثة فى الوقت ذاته؛ حوار بين الماضى والحاضر. ◄ هل هناك لحظة محددة أو ذكرى شخصية لا تُنسى من العمل على هذا المشروع؟ أتذكر أول مرة زرنا فيها مركز الترميم وشاهدنا كل قطع توت عنخ آمون موضوعة للدراسة؛ آلاف القطع من الصنادل إلى العربات. كان المشهد مهيبًا. فى تلك اللحظة، تحوّل المشروع من فكرة مجردة إلى حقيقة ملموسة، وأدركنا حجم المسئولية العاطفية التى نحملها، وكان ذلك مؤثرًا للغاية. ◄ كيف تمكنتم من تحقيق الانسجام بين آلاف القطع الأثرية والمساحات الهائلة والسرد الموحّد؟ أنشأنا بنية سينوغرافية داخل الفضاءات الواسعة، مكوّنة من عنصرين موجهين: مسار قيمى على الأرض، وعنصر سقفى عائم يحمل مسار الشمس وموضوع البعث. هذان المستويان – الأرض والسماء – يجريان عبر القاعة بأكملها، موحدين كل الفصول والمقاييس. كل شيء آخر يتناغم معهما: الضوء، الإيقاع، النسبة. هذه البنية هى التى منحت التنوع انسجامه. ◄ لو عاد بك الزمن، هل هناك عنصر كنتِ ستغيرينه في التصميم أو التنفيذ؟ الوقت كان ضيقًا للغاية، لكن القيود أحيانًا تجلب الوضوح؛ فهى تجبرك على التركيز على ما هو جوهرى. فى النهاية، تكمن قوة التصميم فى بساطته ودقته العاطفية. ◄ ما الإرث الذي تأملين أن يتركه هذا المتحف للأجيال القادمة من المصممين والقَيّمين؟ آمل أن يثبت أن السرد والعلم يمكن أن يتعايشا، وأن التصميم يمكن أن يخدم المعرفة دون أن يفقد الشعرية. بالنسبة للأجيال القادمة، يجب أن يكون المتحف المصرى الكبير تذكيرًا بأن التراث الثقافى يستحق الاحترام والإبداع معًا. ◄ وماذا يعنى لكِ شخصيًا إتمام مشروع بهذا الحجم والتاريخ؟ إنه مشروع العمر بكل معنى الكلمة. نادرًا ما يحصل المصمم على فرصة للمشاركة فى عمل يلامس عمق التاريخ الإنسانى بهذا الشكل. العمل مع الفرق المصرية وعلماء الآثار كان ملهمًا ومؤثرًا للغاية. عندما أسير اليوم فى أروقة المتحف، أشعر بالامتنان لأننى ساهمت فى بناء شيء ينتمى إلى الإنسانية كلها. ◄ أخيرًا، فى جملة واحدة.. ماذا يعنى لكِ المتحف المصري الكبير شخصيًا؟ إنه جسر بين القديم والحديث، بين مصر والعالم، وبين المعرفة والعاطفة. والمشاركة فى بناء هذا الجسر كانت من أعظم شرفات مسيرتى المهنية.