وراء كل فَتارين مضاءة وكل قطعة ذهبية تُدهش العيون أنفاس أناس عاشوا لسنوات بين الغبار والضوء، يرمّمون ويُنسّقون ويصنعون الجمال في صمت، هؤلاء ليسوا مجرد موظفين في مشروع ضخم، بل عشّاق حقيقيون للتاريخ، صدّقوا أن الحضارة يمكن أن تُروى من جديد بلغةٍ مصرية خالصة. إنهم «الجنود المنسيّون» الذين لا تظهر صورهم في الكواليس، ولا تُذكر أسماؤهم فى نشرات الأخبار، لكن بصماتهم هى ما تصنع الدهشة. لقد حملوا على أكتافهم حلمًا وطنيًا اسمه "المتحف المصري الكبير"، وأثبتوا أن وراء كل قطعة أثرية حكاية إنسانية خالصة من العرق، والولاء، والإصرار. ◄ أنامل صامتة تُعيد للحضارة نبضها القديم فالمتحف ليس مجرد صرح معمارى فخم على طريق الأهرامات، بل شهادة حيّة على قدرة المصريين على الإبداع، والتنظيم، والعمل الجماعى. وبينما يتجوّل الزائر من قاعة إلى أخرى مأخوذًا بجلال المعروضات، ربما لا يدرى أن وراء كل قطعة فريقًا من الأثريين والمرمّمين والمصمّمين، قضوا أعوامًا ليجعلوا من هذا الحلم واقعًا ملموسًا. فلنرفع القبعة لهؤلاء، لأنهم لم يكتفوا بحفظ التراث، بل صنعوا المستقبل أيضًا. ◄ اقرأ أيضًا | مصر تنظم احتفالين بالرياض وجدة بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير ◄ حلم يتحقق في قلب المتحف المصرى الكبير، وعلى مقربة من تمثال رمسيس الثانى، لا تلمع فقط كنوز توت عنخ آمون، بل تبرق معها قصص أولئك الذين وهبوا عمرهم لهذا المشروع الاستثنائى. منذ عامى 2015 و2016، انضم 17 أثريًا من وزارة السياحة والآثار إلى المتحف، حاملين معهم خبراتهم وشغفهم وإيمانهم بأن العرض المتحفى ليس مجرد ترتيب للقطع، بل إعادة إحياء للتاريخ. كانت البداية من «جاليرى الملك الذهبى توت عنخ آمون»، المشروع الأكثر حساسية وتعقيدًا، نظرًا لقيمة القطع الأثرية وتاريخها الفريد. بقيادة الدكتور طارق توفيق وبالتعاون مع شركة التصميم الألمانية «أتلييه بروكنر»، بدأ الفريق فى صياغة سيناريو العرض المتحفى، الذى تجاوز مجرد التنسيق البصرى إلى سرد حى يُحاكى حياة الملك ومعتقداته، رابطًا بين القطع الأثرية والمالتى ميديا وبطاقات الشرح، ليحكى القصة كاملةً من أول حجرٍ إلى آخر تميمة. ◄ ولادة التفاصيل فى 2020 وبعد سنواتٍ من التخطيط، بدأت المرحلة الأدق والأكثر رهبة: تثبيت القطع الأثرية داخل الفَتارين. كانت العملية أقرب إلى عملية جراحية دقيقة، تتداخل فيها الأيادى والعقول والقلوب، إدارة الترميم.. فحصت كل قطعة كأنها مريض ثمين، قبل وبعد التثبيت، باستخدام أحدث التقنيات لحمايتها من الزمن، وإدارة النقل التى أشرفت على تحريك القطع من المخازن إلى القاعات، فى رحلاتٍ قصيرة لكنها مليئة بالتوتر والرهبة، وهناك إدارة قواعد البيانات، التى وثّقت كل قطعة فى سجل رقمى، لتبقى حاضرة فى ذاكرة المكان والتاريخ معًا. ◄ تنسيق يومى كان التنسيق بين الإدارات يتم يوميًا فى اجتماعات عمل مطوّلة، لا صوت فيها يعلو على صوت الشغف والمسؤولية. كانت كل خطوة محسوبة، وكل حركة تتم وفق المعايير العالمية، لأن الخطأ هنا ليس مسموحًا. منذ 2017، اتّسع الحلم. لم يعد الأمر مقتصرًا على «جاليرى الملك الذهبى»، بل امتد إلى قاعات العرض الرئيسية، التى قُسّمت إلى أربعة فِرَق زمنية، كأنها نغمات فى سيمفونية واحدة.. فريق ما قبل التاريخ والدولة القديمة، الذى روى البدايات الأولى للحضارة، من الأدوات الحجرية إلى نشأة العمارة، وفريق الدولة الوسطى الذى عرض لحظات التحوّل الفنى والديني، وتجسيد الإنسان المصرى بين الرهبة والجمال، وفريق الدولة الحديثة، الذى قدّم ملوك العظمة رمسيس الثانى، وأمنحتب الثالث، وحتشبسوت فى مشهدٍ يُعيد هيبة التاريخ، وفريق العصر اليونانى الرومانى، الذى مزج بين مصر والعالم، حيث التقت الثقافات وولدت هوية فريدة. ورغم استقلال كل فريق فى بحثه وتحضيره، إلا أن الجميع عمل كجسدٍ واحد، يربط الماضى بالمستقبل بخيطٍ من الشغف والعلم. ◄ خلف الكواليس ما لا يراه الزائر هو هذا الكون المتحرّك خلف الجدران. أثريون يعملون كفنانين، يتجادلون حول زاوية الإضاءة المناسبة أو ارتفاع قاعدة التمثال، مرمّمون يتعاملون مع القطع الأثرية كأنهم يلمسون طفلًا من زجاج، ومصمّمون يرسمون الحكاية فى الفضاء قبل أن تُضاء الأنوار. تم استخدام برامج رقمية متطوّرة لتصميم سيناريوهات العرض، وتحديد مواقع القطع، ومراعاة الضوء والظل وسير الزائرين، ليصبح المشهد النهائى قطعة فنية متكاملة. ◄ الحلم والوقت كان أصعب ما واجهوه هو الوقت، فالمواعيد الرسمية لا تنتظر الحالمين. ليالٍ طويلة لم تُغلق فيها الأنوار، وعيون تسهر لتعيد تثبيت قطعة أو تُصحّح زاوية أو تُراجع بطاقات العرض. التحدى الآخر كان فى التنسيق بين التخصصات المختلفة؛ بين عالم الآثار والمصمم والمرمّم والمهندس، لكن المعادلة نجحت، لأن ما يجمعهم كان أكبر من كل اختلاف: حب مصر. لقد تجاوز هؤلاء الأثريون حدود المهنة إلى رسالة، أثبتوا أن التاريخ لا يُحفَظ فى المتاحف فحسب، بل فى قلوب من يخدمونه، وأن المتحف المصرى الكبير ليس مجرد مكانٍ للعرض، بل كائنٌ حى، نبضه أولئك الجنود المنسيّون الذين صنعوا من الصمت إنجازًا يليق بوطنٍ صنع التاريخ منذ آلاف السنين. وحين تنطفئ الأنوار فى آخر اليوم، ويغادر الزوّار القاعات المهيبة، يبقى المتحف المصرى الكبير نابضًا بهم، بأنفاس أولئك الذين مرّوا بين القطع كأنهم يُحاورونها، يمسحون عنها غبار الزمن ليمنحوها حياة جديدة. هم الوجوه التي لا نراها، والأيدى التى لا تُصفَّق لها، لكنها تكتب فى صمت فصولًا جديدة من المجد المصرى. ولعل أجمل ما فى هذا الصرح أنه لا يروى فقط تاريخ الفراعنة، بل يحكى أيضًا عن أحفادهم الذين ما زالوا يصنعون الحضارة بنفس الإتقان والإيمان.