انظر حولك فى أى شارع، أو فى منطقة سكنك، لتعرف - عزيزى القارئ - أن هناك شعبا شقيقا، لدولة عظيمة، تملك من القدرات والإمكانيات والثروات الطبيعية، ما يؤهلها لتكون إحدى أهم الدول على الصعيد الاقتصادى فى إفريقيا، ولكنه وعلى نفس المستوى، يعيش مأساة إنسانية كبيرة، نستشعر جزءاً بسيطاً منها، وهو الخاص بأشقائنا الذين اختاروا مصر سكناً لهم، هرباً من حرب مستمرة منذ عامين ونصف، وهم بالملايين، أتحدث عن الشعب السودانى، الذى يعانى مرتين، من (الغربة) و(نسيان مأساته)، فى ظل حالة عدم اكتراث دولي، فقد طغت حروب أخرى، لا تقل فداحة، على المأساة التى يعشها، سواء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، والحرب فى أوكرانيا، اللذان تصدرا المشهد الدولى، رغم أن حجم المأساة فى السودان يفوق الأضرار التى لحقت بالمنطقتين، بينما تراجع الاهتمام بالملف السوداني، وشواهد المأساة، لا تحتاج لدليل، (والأرقام لا تكذب ولا تتجمل)، فقد وصفت الأممالمتحدة الوضع بأنه (أكبر مأساة إنسانية فى العالم المعاصر)، مع مقتل أكثر من 150 ألف شخص، أى أكثر من ضعف ضحايا العدوان الإسرائيلى على غزة، وأكبر عملية نزوح فى التاريخ، ما يقارب 12 إلى13 مليون شخص، وتهجير أكثر من 3 ملايين شخص، وما يقرب من 25 مليوناً يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة ولك أن تتصور أن تكلفة إعادة الإعمار ما بين723 ملياراً إلى تريليون دولار. والمأساة مازالت مستمرة، فحصار الفاشر عاصمة إقليم دارفور، منذ أشهر قليلة من قبل قوات الدعم السريع، نتج عنه معاناة مليون ونصف المليون سودانى، لدرجة أن البعض أطلق عليها (غزة إفريقيا)، فجرائم قوات الدعم السريع، تمثلت فى الحصار على المدن والقرى، والتجويع ومنع الغذاء والدواء، لتركيع السكان وتجويعهم، والقيام بعمليات نهب منظم، والاستيلاء على ممتلكات المواطنين، والتدمير الممنهج للبنية التحتية، وكأنهم يحاربون شعباً آخر، أو عدواً خارجياً وليسوا شركاء وطن، فالنجاح الوحيد الذى أحرزه محمد حمدان دقلو قائد الدعم، تحويل قواته إلى آلة إبادة، والغريب أنه يرفع شعار (تحرير السودان من العسكر)، وينسى أن الطرف الآخر فى المواجهات، هو الجيش الوطنى السودانى، والذى لا يختلف فى مهماته عن جيوش العالم، باعتباره (عمود الخيمة)، والذى يحافظ على وحدة البلاد، وسلامة أراضيه، وراح يتجمل، عندما قام بإعلان ما يسمى (الحكومة الموازية)، وكأنها ستعطى له شرعية مفقودة، أو تغير طبيعة قواته، وقد اعتبرتها جهات عديدة، وفى القلب منها مصر ومجلس السلم والأمن الإفريقي، تعقيداً للأزمة، وعرقلة أى جهود لحلها، ولهذا لم يعترف بها أحد. وحقيقة الأمر، أنه رغم تعدد المبادرات السياسية من جهات عديدة، فإن المواجهات العسكرية على حلها، وقد بدأت بمنصة مدينة جدة السعودية فى مايو 2023، برعاية سعودية أمريكية، والتى أفضت إلى توقيع (إعلان جدة) الذى نص على التزامات واضحة من الطرفين بحماية المدنيين، ولكنها انهارت بعد قرار إقالة حميدتى من منصبه، ومع ذلك تم التوصل إلى وقف مؤقت قصير لإطلاق النار، إلا أن قوات الدعم السريع قامت بخرق الهدنة، مما دفع الجيش إلى تعليق مشاركته فيها، وعلى نفس المستوي، طرح الاتحاد الإفريقى (خارطة طريق) فى نفس التوقيت، شملت وقفاً دائماً لإطلاق النار، وتحويل الخرطوم منطقة منزوعة السلاح، وتجميع القوات المتحاربة على بعد50 كيلو متراً، مع نشر قوات إفريقية لحماية المؤسسات الحيوية، وتأمين المرافق العامة، وبعدها بشهرين دخلت منظمة (إيجاد) على الخط، فى يوليو2023 فى أديس أبابا، وبحضور كينيا وجنوب السودان وجيبوتي، ولكنها فشلت فى ظل اتهام الجيش الوطنى السودانى لكينيا، بالانحياز إلى قوات الدعم. ويظل الأمل الأخير، فى نجاح الآلية الرباعية الدولية، التى تضم مصر وأمريكا والسعودية والإمارات، والمقرر لها اجتماع خلال الأيام المقبلة فى واشنطن، والتى سبق لها أن طرحت خريطة للحل منذ فبراير الماضي، وتتضمن هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، تتطور إلى وقف دائم لإطلاق النار، تمهيداً لعملية انتقال شاملة وشفافة تستغرق تسعة أشهر، وتنتهى بتشكيل حكومة مدنية، لا تخضع لسيطرة أى طرف عسكري، وآخر بيان لها كان في11 من سبتمبر الماضي، أكد على التمسك المبدئى والثابت بوحدة الدولة السودانية، ورفض أى حل عسكرى للأزمة، وقد يفسر ذلك طبيعة الزيارة التى قام بها قائد الجيش السودانى الفريق عبدالفتاح البرهان إلى القاهرة، الأربعاء الماضي، ولقائه مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، والذى شهد تطابقاً واضحاً فى وجهات النظر بين البلدين، حول ضرورة إنهاء الحرب فى السودان، خاصة مع وضوح وثبات الموقف المصري، والذى جاء على لسان الدكتور بدر عبدالعاطي، والذى يتلخص فى استبعاد أى حل عسكرى للأزمة، والحفاظ على الدولة الوطنية السودانية، باعتباره أمراً جوهرياً، وضرورة عدم التدخل فى الشئون الداخلية له، واحترام سيادته الكاملة، والتمسك بمبدأ (دولة واحدة، وسلطة واحدة، وسلاح واحد)، ويأتى فى نفس الإطار، التنسيق مع الجانب الأمريكي، من خلال تواجد مبعوث ترامب الخاص إلى إفريقيا مسعد بولس فى القاهرة، خلال زيارة البرهان. وأخيراً من المهم التأكيد على أن الحل سيبقى فى نهاية الأمر سودانياً - سودانياً، مما يستلزم توافر إرادة سياسية لإنجاز ذلك من كل أطرفها، سواء كانوا طرفى الصراع العسكرى - مع التأكيد أننا أبداً لا نساوى بين جيش وطني، وجماعة مسلحة - ناهيك عن القوى المدنية المنقسمة على نفسها.