بورسعيد: أيمن عبد الهادى كانت الليلة عادية في بورسعيد، الشوارع تغفو على ضوء الأعمدة، والعمال ينفضون غبار يومهم الطويل، إلا عامل الدليفري الشاب الذي قرر أن يواصل عمله حتى آخر طلبية، لم يكن خالد يعلم أن المكالمة التي أجراها مع ابن خالته قبل دقائق ستكون الأخيرة في حياته، وأن صوت الصدمة الذي سمعه قريبه عبر الهاتف سيكون آخر ما تبقّى منه في الدنيا. الضحية خالد على لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، شاب بسيط كافح منذ طفولته بعد وفاة والده وهو في الصف الخامس الابتدائي، كانت أمه قد وجدت نفسها أرملةً شابة تحمل طفلين صغيرين، خالد وشقيقته التي كانت وقتها في الصف الأول الابتدائي، فقررت أن تكون لهما الأب والأم معًا، عملت في كل مهنة متاحة توفر لها الرزق، صبرت على قسوة الأيام، حتى كبر ابنها وأصبح هو السند الوحيد، يعينها ويحنو عليها ويعوضها عن قسوة الأيام. كان الابن يردد دائمًا لأمه: "أنا ضهرك يا أمي، ما تخافيش من حاجة طول ما أنا عايش". مرت السنوات سريعًا، وتحوّل الطفل النحيل إلى شاب يعتمد عليه الجميع، يخرج صباحًا كدليفري للعمل في محل ويعود ليلًا منهكًا لكنه راضي كل الرضا، يحمل لأمه الدواء، ولشقيقته الصغيرة مصروفها، يحدثهم عن حلمه بشراء موتوسيكل جديد كي يوسع رزقه، وعن أمله في الزواج من فتاة طيبة "تسند البيت معاه"، لكن الأحلام توقفت فجأة عند صدمة الحديد. الأم تحكي تقول الأم وهي تبكي بحرقة: "ابني كان بيشتغل ليل ونهار علشان يفرحني.. عمره ما قصر مع حد، كل الناس بتحبه، بس ربنا أراد ياخده وهو راجع من شغله.. كان في الطريق، والمجنون اللي صدمه جري وسابه بين الحياة والموت". وتروي الأخت، التي فقدت شقيقها الوحيد قائلة: "أنا حاسه أني اتيتمت مرتين، مرة لما بابا مات، والمرة التانية لما أخويا راح.. هو كان أبوي التاني.. ما فيش حاجة في البيت إلا هو اللي بيعملها، كان مالي البيت ضحك عشان ما نحزنش.. النهارده البيت فاضي وساكت، أمي مش قادرة تاكل ولا تنام"، أما الخالة فكانت تبكي بحرقة وهي تردد: "أنا شُفت خالد وهو صغير بيشيل الشنطة ويقول عايز يبقى راجل بدري علشان أمه.. والنهارده راح وهو راجل فعلاً.. بس راح غدر". الحادث تفاصيل الحادث بدأت عندما تلقى ابن خالته مكالمة من خالد أثناء توصيله أحد الطلبات، وفجأة سمع عبر الهاتف صوت ارتطام قوي وسقوط الهاتف على الأرض، يقول قريبه: "كنت بكلمه، وفجأة سكت.. سمعت صوت خبطة جامدة، والموبايل وقع، قلت يمكن وقع منه، لكن لما فضلت أنادي عليه وما ردش، قلبي اتقبض، جريت بسرعة على المكان اللي أعرف إنه فيه.. لقيت الناس ملمومة وسمعت إن في سائق دليفري عربية خبطته واكتشفت أنه هو اللي واقع على الأرض والناس حواليه". أضاف ابن خالة المجني عليه: "أنه وكل المتواجدين في مكان الحادث أجبروا قائد السيارة على نقل المصاب إلى أقرب مستشفى، بعدما حاول في البداية المماطلة، حتى أوصلوه إلى أحد المراكز الطبية القريبة، وهناك استغل السائق الفوضى وهرب، تاركًا الشاب بين أيدي المسعفين في حالة حرجة، تم نقله بعدها إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة متأثرًا بإصاباته بعد 12 يومًا على أجهزة التنفس الصناعي، لتتحول فرحة البيت المتواضع إلى مأتم كبير". تقول الأم بصوت مبحوح: "أنا اترملت مرتين.. المرة الأولى لما مات جوزي، والمرة التانية لما راح ابني اللي كان مكانه.. ابني كان طيب وحنين.. كان بيروح شغله وهو صايم وبيقول ربنا يرزقني بالحلال.. أنا متأكده أن اللي عمل كده هيتحاسب". كشفت التحريات الأولية؛ أن المتهم حاول بعد الحادث مساومة الأسرة ماليًا للصلح والتنازل، لكن الأجهزة الأمنية كثفت جهودها حتى تم ضبطه، وعرضه على جهات التحقيق التي باشرت استجوابه في الواقعة، حيث استمعت النيابة لأقوال لشهود العيان، وقررت حبس المتهم 4 أيام احتياطيًا لحين استكمال الإجراءات القانونية. محاولة هروب ابن الخالة الذي كان أول من وصل إلى موقع الحادث، قال بصوت يختنق بالبكاء: "ما كنتش مصدق إن خالد خلاص.. كنت لسه بكلمه.. الحلم كله راح.. ده كان نفسه يجيب لأمه شقة صغيرة ويجوز أخته.. كان بيقول لي دايمًا نفسي أعمل فرح في بورسعيد كلها تيجي تشهد عليه.. بس النهارده الناس فعلاً كلها جات تشهد، بس على جنازته". في الحي الشعبي الذي عاش فيه خالد، لا يزال الجميع يتحدث عن أخلق الشاب الذي كان يساعد الجميع، تقول إحدى الجارات: "كان بيركب الموتوسيكل بتاعه ويمشي مبتسم لكل الناس.. محدش في الشارع ما يعرفوش.. كان لما يشوف طفل بيعيط يشتري له حاجة من جيبه.. دلوقتي حتى الأطفال بيسألوا: فين عمو خالد"؟! بين أركان البيت البسيط الذي عاش فيه، ما زالت صدى خطواته تملأ المكان، والدراجة التي كان يستقلها مركونة في مدخل البيت مغطاة بملابسه، كأنها ترفض التصديق أن صاحبها لن يعود، الأم تجلس بجوارها يوميًا، تنظر إليها وتهمس: "ارجع يا خالد.. لسه عندي كلام كتير ما قلتوش لك.. كنت لسه هفرح بيك". وفي جنازته التي شيعها كل أبناء الشارع، علت الهتافات بالدعاء والقصاص، وانهمرت الدموع في صمت، بينما كانت الأم تسير خلف النعش تدعو له بالرحمة وأن القضاء يقتص لها من المتسبب في موته. تلك المشاهد لم تترك أحدًا في المدينة إلا وأثرت فيه، فالضحية لم يكن مجرد شاب بسيط، بل كان نموذجًا لعشرات الشباب المكافحين الذين خرجوا من رحم المعاناة ليصنعوا لأنفسهم مكانًا ويمسبوا رزقهم بالحلال، لكنهم يرحلون في لحظة بسبب تهور واستهتار من سائق أرعن. التحريات كشفت هوية المتهم فورًا، وأنه حاول الهرب خارج بورسعيد، إلا أن الأجهزة الأمنية تمكنت من ضبطه في إحدى مناطق المحافظة، وبعرضه على النيابة العامة وجهت إليه تهمة القتل الخطأ والفرار من موقع الحادث، مع استمرار التحقيق في الملابسات الكاملة. وأوضح مصدر بمديرية أمن بورسعيد؛ أن النيابة بصدد استدعاء عدد من الشهود الجدد ممن تواجدوا بمحيط الواقعة، فيما أمرت بتفريغ كاميرات المراقبة لتحديد تفاصيل اللحظات الأخيرة، وفي الوقت الذي تستمر فيه التحقيقات، تبقى أسرة خالد أسيرة للحزن والانتظار، لا تطلب شيئًا سوى العدالة. تقول الأم في نهاية حديثها: "مش عايزة فلوس، أنا عايزة حق ابني.. اللي خده مني يرجعلي حقي، علشان أقدر أنام وأنا مطمنة إن ربنا جاب له حقه في الدنيا". رحل خالد وترك ورائه قصة وجعٍ تختصر حكاية آلاف الأمهات في مصر، اللاتي فقدن أبناءهن على الطرقات بسبب رعونة من لا يعرفون قيمة الحياة. اقرأ أيضا: ضبط عامل «الدليفري المتحرش» بحدائق الأهرام