على مر العصور، كانت مصر مهد الحضارات وموطنًا لأعظم كنوز البشرية التي ألهمت الخيال الإنساني. واليوم، تستعد مصر لتدشين مشروعها الثقافي الأضخم في القرن الحادي والعشرين، وهو المتحف المصري الكبير، الذي يقف شامخًا عند أقدام أهرامات الجيزة، ليُعيد صياغة العلاقة بين التاريخ والحاضر، ويُقدّم تجربة غير مسبوقة تمزج بين أصالة الماضي وروعة التقنيات الحديثة. يُعد هذا الصرح الهائل أكثر من مجرد متحف؛ إنه رسالة حضارية من أرض الكنانة إلى العالم، تؤكد التزامها بالحفاظ على تراثها الخالد وتعزيز مكانتها كوجهة ثقافية عالمية. ◄ موقع استثنائي وتجربة لا تُنسى يقع المتحف المصري الكبير في موقع استراتيجي فريد عند قاعدة أهرامات الجيزة، على بُعد دقائق من الهضبة التي شهدت ميلاد أعظم رموز الحضارة الإنسانية. هذا القرب الجغرافي من الأهرامات يمنح المتحف بعدًا رمزيًا وتاريخيًا عميقًا، إذ يجمع بين مجد الماضي وطموح الحاضر في مكان واحد. تبلغ مساحة المتحف أكثر من نصف مليون متر مربع، مما يجعله أكبر متحف للآثار في العالم مخصص لحضارة واحدة. صُمّم المتحف ليكون تجربة غامرة للزوار، حيث تدمج قاعاته بين التكنولوجيا الحديثة والعرض المتحفي الكلاسيكي، ليتمكن الزائر من التفاعل مع التاريخ بدلًا من مجرد مشاهدته. وسيشعر كل من يعبر أبوابه بأنه ينتقل عبر الزمن إلى مصر القديمة، حيث تُعرض أكثر من 50,000 قطعة أثرية تروي قصة الإنسان المصري منذ فجر الحضارة وحتى نهاية العصر الفرعوني. ◄ كنوز توت عنخ آمون.. قلب المتحف النابض من بين أبرز ما يميز المتحف المصري الكبير هو تخصيص قاعة ضخمة لعرض مجموعة الملك توت عنخ آمون الكاملة، والتي تُعرض للمرة الأولى في مكان واحد منذ اكتشافها. تضم هذه المجموعة أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية، تتنوع بين الحلي الملكية والعجلات الحربية والأسِرّة الجنائزية والتماثيل المذهبة، وصولًا إلى القناع الذهبي الشهير الذي يُعد من أروع ما أبدعته يد الإنسان. وقد جرى تصميم قاعة العرض الخاصة بالملك الذهبي لتتيح للزائر رحلة بصرية وسردية داخل حياة الملك الشاب، تبدأ من ميلاده ومرورًا بتتويجه وطقوسه الدينية، وصولًا إلى وفاته الغامضة ومراسم دفنه المهيبة. وتم استخدام تقنيات الإضاءة والواقع المعزز لتقديم تجربة تعليمية مبهرة تُعيد الحياة إلى هذه الكنوز التي ظلت حبيسة المخازن لعقود طويلة. ◄ هندسة معمارية تمزج الفن بالتاريخ يُعد تصميم المتحف نفسه تحفة فنية معمارية. فقد فاز به المهندس الإيرلندي هيننغان بنغ من بين مئات التصاميم العالمية، لقدرته على المزج بين الرمزية المصرية القديمة والطابع المعاصر. اقرأ أيضا| من أوزيريس إلى المتحف المصري الكبير.. مصر تعيد تعريف الاستدامة كما عرفها الأجداد تأخذ واجهة المتحف شكل مثلثات ضخمة تُحاكي هندسة الأهرامات، في حين يغمر الضوء الطبيعي أروقته الداخلية بفضل الجدران الزجاجية الواسعة التي تُطل مباشرة على هضبة الجيزة. ويستقبل الزوار في الردهة الرئيسية تمثال الملك رمسيس الثاني بارتفاع يزيد على 11 مترًا، محاطًا بتماثيل ضخمة أخرى تم ترميمها بعناية في معامل المتحف التي تُعد من الأكثر تقدمًا في العالم في مجال الترميم والحفاظ على الآثار. ◄ تجربة تعليمية وثقافية شاملة لا يقتصر دور المتحف المصري الكبير على كونه مقصدًا سياحيًا فحسب، بل يُعد مركزًا بحثيًا وتعليميًا عالميًا. يضم المتحف مركزًا للبحوث الأثرية والترميم مجهزًا بأحدث الأجهزة والتقنيات، حيث يعمل خبراء مصريون ودوليون على دراسة وصيانة الآثار باستخدام أدوات علمية متطورة. كما يُقدّم المتحف برامج تعليمية موجهة للطلاب والباحثين والأطفال، تتيح لهم فهمًا أعمق للحضارة المصرية من خلال ورش عمل تفاعلية وتجارب تعليمية ممتعة. ويهدف المتحف من خلال هذه الأنشطة إلى خلق جيل جديد من المهتمين بالتراث، وتعزيز الوعي الثقافي لدى الزوار المحليين والدوليين على حد سواء. ◄ تكنولوجيا متقدمة لخدمة التاريخ في إطار سعيه ليكون متحفًا من طراز عالمي، اعتمد المتحف المصري الكبير على أحدث تقنيات العرض المتحفي. تتيح شاشات العرض التفاعلية وتقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) للزوار التنقل افتراضيًا بين المقابر والمعابد القديمة، واستكشاف تفاصيل دقيقة لقطع أثرية يصعب عرضها ماديًا. كما تم تطوير تطبيق إلكتروني يتيح للزائر خريطة رقمية للمتحف وجولات صوتية متعددة اللغات، إلى جانب إمكانية حجز التذاكر والجولات الخاصة إلكترونيًا، مما يجعل تجربة الزيارة أكثر سلاسة وتنظيمًا. ◄ دور اقتصادي وسياحي محوري من المتوقع أن يُحدث افتتاح المتحف المصري الكبير نقلة نوعية في قطاع السياحة المصري، حيث يُنتظر أن يجذب ملايين الزوار سنويًا، ما سيُنعش الاقتصاد الوطني ويدعم مشروعات البنية التحتية والخدمات السياحية. ويُعد هذا المشروع أحد أعمدة رؤية مصر 2030، التي تهدف إلى جعل الثقافة والسياحة ركيزتين أساسيتين للتنمية المستدامة. سيسهم المتحف أيضًا في خلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في مجالات الضيافة والنقل والإرشاد السياحي، فضلًا عن تحفيز الصناعات الحرفية المرتبطة بالتراث المصري. وإلى جانب قيمته الاقتصادية، يُتوقع أن يُسهم المتحف في زيادة مدة إقامة السائح في القاهرة، حيث يمكن للزائر الجمع بين زيارة الأهرامات وجولة ثقافية داخل المتحف في يوم واحد، ما يعزز من جاذبية العاصمة كوجهة عالمية متكاملة. ◄ جهود الدولة في الحفاظ على التراث يُجسّد المتحف المصري الكبير التزام الدولة المصرية العميق بحماية تراثها الحضاري. فقد رافق إنشاء المتحف سلسلة من المشاريع الوطنية الكبرى لترميم المعابد والمقابر القديمة في الأقصر وأسوان وسقارة، إلى جانب تطوير المتحف القومي للحضارة المصرية ومتحف العاصمة الإدارية الجديدة. وتُظهر هذه الجهود المتكاملة حرص الحكومة على إعادة تعريف تجربة السياحة الثقافية في مصر، وتحويلها إلى تجربة شاملة تدمج المعرفة والمتعة والتعليم. كما عملت وزارة السياحة والآثار على تحسين البنية التحتية، وتسهيل حركة النقل من وإلى المتحف، بما في ذلك توفير خطوط نقل مباشرة من مطار القاهرة الدولي إلى منطقة الأهرامات والمتحف الجديد. ◄ انطلاقة نحو المستقبل من المقرر أن يشهد الرابع من نوفمبر عام 2025، تزامنًا مع ذكرى اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون، الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، في احتفال عالمي يُتوقع أن يجذب أنظار العالم بأسره، وسيشكل هذا الافتتاح لحظة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة، حيث سيصبح المتحف رمزًا معاصرًا لمصر الجديدة التي تجمع بين الأصالة والتجديد، وتستثمر في ماضيها لبناء مستقبلها. المتحف المصري الكبير ليس مجرد بناء ضخم أو مشروع سياحي واعد، بل هو ملحمة حضارية تجسد شغف المصريين بتاريخهم وإصرارهم على تقديمه للعالم بأبهى صورة. إنه دعوة مفتوحة لكل شعوب الأرض لاكتشاف عظمة مصر من جديد، واستحضار روح أجدادها الذين خطّوا أولى صفحات التاريخ الإنساني، وبين جدرانه، لا يُعرض الماضي فقط، بل يُكتب المستقبل أيضًا مستقبلٌ تلتقي فيه الحضارة بالتكنولوجيا، والتاريخ بالإبداع، ومصر بالعالم.