يأتى كتاب «ابن خلدون: مسارات مفكر مغاربي» للباحث «مهدى أغويركات المهدى»، بترجمة الزميل الصحفى محمد عبد الفتاح السباعى.. ليعيد رسم ملامح أحد أعظم العقول فى التراث العربى الإسلامى، ولا يكتفى الباحث باستعراض أفكار «ابن خلدون»، بل يغوص فى مساراته السياسية والفكرية، كاشفًا عن مفكرٍ واقعى، عاش فى قلب الأزمات، ونجح فى تأسيس علمٍ سابق لعصره: علم العمران البشرى، إنها دعوة لإعادة اكتشاف «ابن خلدون»، ليس كمؤرخٍ أو فيلسوفٍ فحسب، بل كمفكر عالمى لا يزال يُلهم حتى اليوم. تنطلق السردية من فكرة مركزية: أن «ابن خلدون» لم يكن مفكرًا منعزلًا أو غارقًا فى التأملات النظرية، بل كان فاعلًا سياسيًا، ومثقفًا متنقلًا بين «بلاطات» الحكم فى المغرب وتونس والجزائر ومصر، فى زمن شهد أوبئة، وحروبًا، وانهيارًا لمشروع الوحدة المغاربية. هذا السياق المضطرب شكّل رؤيته للتاريخ والدولة والمجتمع. ويركز «الباحث» على نظرية العصبية التى طرحها «ابن خلدون»، والتى يرى فيها أن الجماعة المتماسكة بقوة العصبية تستطيع تأسيس دولة، لكنها سرعان ما تدخل فى مرحلة الترف والانحلال حين تضعف هذه العصبية، هذه الدورة التاريخية تُعد من أبرز إسهاماته فى فهم نشوء الحضارات وانهيارها. كما يتناول أفكار «ابن خلدون» الاقتصادية، خاصة رؤيته للعلاقة بين الضرائب والإنتاج، حيث يرى أن الجباية المفرطة تؤدى إلى تراجع النشاط الاقتصادى. هذه الرؤية أثرت لاحقًا فى مفكرين وسياسيين غربيين، مثل «رونالد ريجان» و»بوريس جونسون»، الذين استشهدوا بمقدمته فى خطاباتهم. ويرى أن «ابن خلدون» مفكر واقعى لا غيبى، فهو يرفض التفسيرات الغيبية للتاريخ، ويعتمد على تحليل اجتماعى واقتصادى وسياسى للأحداث، ويرى أن الظواهر التاريخية لها أسباب مادية يمكن فهمها، مثل تأثير الأوبئة أو انهيار الأنظمة الاقتصادية، وعن نظرية العصبية وبناء الدولة، فيرى العصبية هى القوة التى توحد الجماعة وتدفعها نحو السلطة، والدولة تمر بمراحل: النشوء، القوة، ثم الترف والانهيار، بسبب ضعف العصبية وتحولها إلى ولاء شخصى. ويُبرز كيف أسس «ابن خلدون» ما يُعرف ب«علم العمران البشري»، ومؤسس ما يُعرف اليوم ب«علم الاجتماع»، وهو علم يدرس المجتمعات وتطورها، ويُعد نواة لعلم الاجتماع الحديث. وقد وصف المؤرخ البريطانى «أرنولد توينبى» «مقدمة ابن خلدون» بأنها «أعظم عمل أُبدع فى أى زمان ومكان». ويشير «مهدى أغويركات» إلى أن «ابن خلدون» ينتقد المؤرخين الذين يروون القصص دون تمحيص، ويؤسس منهجًا نقديًا يقوم على التحقق من الروايات، وربطها بمنطق العمران، والواقع الاجتماعى، وهو ما يجعل منه أول من دعا إلى التحليل العلمى للتاريخ، ولا يكتفى بعرض أفكار «ابن خلدون»، بل يُظهر تأثيره العالمى، من المفكرين الغربيين إلى رجال السياسة، وحتى شركات التكنولوجيا مثل فيسبوك التى استعانت بمفاهيمه لفهم «ديناميكيات» المجتمعات. فى زمنٍ تتقاطع فيه الأسئلة حول الهوية، الدولة، والمجتمع، يعود «ابن خلدون» ليُذكّرنا بأن الفكر الحقيقى لا يُولد فى العزلة، بل فى قلب التحولات. كتاب «ابن خلدون: مسارات مفكر مغاربي» لا يكتفى بإحياء تراث مفكرٍ عظيم، بل يُعيد طرحه كأداة لفهم حاضرنا، واستشراف مستقبلنا، إنه دعوة لإعادة قراءة الذات، والتاريخ، بمنهج نقدى يربط بين العقل والواقع، بين الفكرة والتجربة، «ابن خلدون: مسارات مفكر مغاربي» ليس مجرد كتاب أنه سيرة فكرية، هو دعوة لإعادة قراءة تراثنا بعين نقدية، تربط بين الماضى والحاضر، وتُبرز كيف يمكن لفكر عربى إسلامى أن يكون عالميًا فى عمقه وراهنيته. صدر هذا الكتاب عن دار روافد، بترجمة للزميل محمد عبد الفتاح السباعى.