أعده: سفين ميشائلزن ترجمة: ياسمين يحيى توفى قبل مئة عام ويُعد من أكثر الكتاب قراءةً فى اللغة الألمانية.. هذه مقابلة خيالية مع فرانتس كافكا، منسوجة من اقتباسات أصلية. فى مايو 1924 وبداخل مصحة خاصة لأمراض الرئة تضم اثنتى عشرة غرفة فقط فى قرية كيرلينج قرب فيينا، يتحدث المريض الأربعينى من الغرفة الفردية فى الطابق الثانى بصوت مبحوح، فتتعلق أصوات الحشرجة بأنفاسه، ويصاب مرارًا بنوبات من السعال، فآلام حلقه الملتهب تجعل من البلع أمرًا مستحيلًا. لقد يئس الأطباء من شفائه، فلا يوجد بعد علاج للسل، ونزولًا على رغبة شريكة حياته البالغة من العمر ستة وعشرين عامًا، والتى حجزت غرفة خاصة من أجله، يُخفى عن المريض حقيقة أنه سيموت فى خلال الأسابيع أو ربما الأيام القادمة، فحسب قناعتها الراسخة، سيكون إعلان الحكم بمثابة تنفيذه. بماذا تشعر الآن يا سيد كافكا؟ غير قادر على أى شىء سوى الألم. ماهو أكثر ما يزعجك؟ السعال المتواصل صباحًا ومساءً، والقارورة التى تمتلئ يوميًا بالبصاق، خذ حذرك من فضلك، كى لا أسعل فى وجهك! يا له من شيء مقرف، أن تجلس أمام مريض حنجرة ينظر إليك بعيون حالمة، وفى الوقت نفسه يسعل بين أصابعه المنفرجة جزيئات متقيحة من قرحه السُلِّية لتتطاير فى وجهك. عندما سمعت أنك مصاب بالسُل، يُقال إنك تلقيت التشخيص بهدوء غريب، بل وببشاشة، هل أسعدك هذا البلاء أخيرًا؟ أنا مختل عقليًا، فمرضى الرئوى ليس سوى تجاوز مرضى العقلى لحدوده، لم يعد الدماغ قادرًا على تحمل تلك الهموم والآلام المفروضة عليه، فقال: «أنا أستسلم، ولكن إن كان هناك من يهتم بالحفاظ على الكيان كله، فليخفف عنى بعض حملى، وسيستمر الأمر لبعض الوقت». وهنا تقدمت الرئة، فهذه النقاشات التى جرت بين الدماغ والرئة دون علمى، ربما كانت مروعة، وبلا شك تكمن العدالة فى هذا المرض، إنه ضربة عادلة، بل لا أشعر أبدًا أنه ضربة بالمناسبة، أراه شيئًا عذبًا تمامًا، إنه يكاد يصير ارتياحًا، كأننى لن أبلغ الشعور الحقيقى لذاتى، إلا إذا صرت بائسًا على نحو لا يُحتمل. هذا صحيح حقًا، فأنا فى سريرتى لا أرى أننى مريض بالسل، بل بإفلاسى العام، فهذه الدماء لا تأتى من الرئة، بل من الطعنة الحاسمة لمحارب، أنا لن أشفى بعد الآن، لأن مرضى فى الواقع ليس بسُلٍ أجلس على إثره على كرسى وأتلقى العلاج حتى الشفاء منه، بل هو سلاح تظل ضرورته القصوى قائمة ما دمت حيًا، ولا يمكن لكلينا أن يظل على قيد الحياة. فى شبابك كان شعرك الأسود الداكن وأذناك البارزتان قليلًا هما أكثر ما يميز ملامحك، فهل أحببت مظهرك؟ لا لطالما خفت من المرايا؛ لأنها كانت ترينى ما اعتقدت أنه قبح حتمى، لقد اقتنعت بأن الملابس على جسدى تكتسب مظهرًا متصلبًا كاللوح، ثم تصبح متدلية ومجعدة، ولذلك كان جسدى يستسلم لتلك الملابس الرديئة، فأصير أمشى بظهرٍ منحنٍ، وكتفين مائلتين، وذراعين ويدين مرتبكتين. هل تغير رأيك بشأن مظهرك؟ لقد شعرت طوال حياتى بأننى قبيح، أبدو كنذير شؤم. والدك شخص قاسٍ، وسيئ الظن، ومتفاخر، وطاغية يميل إلى الإهانة والحدة المفاجئة، وقد بدوت فى نظره منذ صغرك «أحمق العائلة»، فأنت خائف، ومتوتر، وأخرق، وضعيف، ومنطوٍ، ومتحفظ، كما أنك بعيد عن الواقع، وعنيد، وانعزالى، بالإضافة إلى ذلك فأنت شديد التحفظ فى التعامل مع النساء. ما أول ما يخطر ببالك عندما تفكر فيه؟ أنه عدوى وأنا عدوه، هذا ما تفرضه علينا طبيعتنا، ربما يكون إعجابى بشخصيته عميقًا بقدر خوفى منه، ويمكننى تجاوزه عند الضرورة، لكننى لا أقدر على تخطيه نهائيًا، فكل حديث بيننا يبدأ بتعليقات مستفزة منه وبإدراك لهذا الاستفزاز من جانبى، وفى نهاية مثل هذه الأحاديث كان يتحول فيصبح من اللطف بحيث لا يستطيع أى شخص التعامل معه، فماذا سأفعل أنا، الذى لا أملك أى كلمة عفوية صادقة أعبر له بها، أغرب ما فى علاقتى به هو أننى أفهم إلى أقصى حد المشاعر والمعاناة بداخله، لكن لا أشاركه إياها. فى سن الحادية والثلاثين كنت لا تزال تعيش مع والديك، لأن العادة قد جرت فى بيئتك أن يحدث الانتقال فى حالة الزواج. فكيف شعرت؟ كنت أغرب من الغريب، منفصلاً عنهم كليًا بصورة غريزية، لم ينمُ بداخلى أى شعور أسرى قط، فمتوسط حديثى مع والدتى يوميًا لا يتجاوز ال20 كلمة، وبالكاد استطعت أن أبادل والدى التحية، أما بالنسبة لأخواتى المتزوجات وأزواجهن، فلم أكن أتحدث على الإطلاق دون أن ينتابنى الغضب منهم. والسبب فى ذلك بسيط؛ فليس لدىّ ما أشاركهم الحديث حوله، أى شيء عدا «الأدب» يصيبنى بالملل، وأكرهه؛ لأنه يزعجنى أو يعوقني؛ لذلك ينقصنى أى شعور بالحياة العائلية عدا شعور المتفرج فى أحسن الأحوال، فأنا لا أملك أى مشاعر قرابة، وفى الزيارات أرى الحقد موجهًا نحوى صراحة، وصورة وجودى فى هذا الصدد هى عمود عديم الفائدة، مغطى بالثلج والصقيع، مغروس بشكل مائل فى حقل مضطرب حتى أعماقه عند حافة سهل فسيح فى ليلة شتاء مظلمة. لقد وقعت تحت وطأة عللٍ صحية جمة، مثل آلام الظهر الروماتيزمية، وتشنجات فى المعدة والأمعاء، وإمساك مزمن، ودمامل وخراريج مؤلمة، وبواسير، وآلام قلبية، واضطرابات عصبية مؤلمة، وصداع مزمن، وأرق، ووساوس قهرية سادية ومازوخية، واكتئاب حاد وأفكار انتحارية. أشعر بهذا الضغط فى معدتى، كأنها إنسان يريد أن يبكى، فعندما تؤلمنى معدتى، فهى فى الواقع لا تصبح معدتى بعد تلك اللحظة، بل تتحول إلى شخص غريب يشتهى أن يضربنى، لا يختلف الأمر عن ذلك جوهريًا، وكذلك الأمر مع كل شيء؛ فأنا مكوَّن من أشواك تنغرس بداخلى، وإذا أردت الدفاع عن نفسى، فهذا يعنى دفع الأشواك بعمق أكبر، وأفضل حل فى هذه الحالة هو طلقة أو قفزة من النافذة، فإذا انتحرت، فهذا ليس ذنب أحد بالتأكيد. أحد الدوافع المركزية فى قصصك هى مشاهد التعذيب. نعم، التعذيب مهم للغاية بالنسبة لى، فأنا لا أنشغل سوى بالتعذيب والتعرض له، لماذا؟ كى أذوق الكلمة اللعينة التى يلفظها الفم اللعين، وقد عبَّرت عن الغباء الكامن فى ذلك ذات مرة بقولى: «ينتزع الحيوان السوط من سيده ويجلد نفسه؛ ليصبح سيدًا، ولا يدرى أن هذا مجرد خيال، يتولد من عقدة جديدة فى حبل سوط سيده».. والتعذيب مخزٍ بالطبع أيضًا، فالإسكندر لم يُعذب العقدة الجوردية حين لم يرغب فى حلها. يظل جهدك وثمرة عملك الأدبى فى وضع غير متناسب بشكل غريب، فالنصوص التى تراها مكتملة تشمل حوالى 350 صفحة مطبوعة فقط، بينما تخزن فى أدراجك حقل أنقاض هائلا من الشذرات الأدبية، من بينها ثلاث روايات غير مكتملة، كما ألقيت بآلاف الصفحات التى كتبتها فى الموقد. يجوز للأشياء السيئة أن تظل على حالها بلا رجعة على فراش الموت فقط، فالرب لا يريدنى أن أكتب، أما أنا.. فلا بد أن أكتب، وهكذا فهو صعود وهبوط أبدى، وفى النهاية الرب هو الأقوى. صحيح أن السعى إلى الكمال هو جزء صغير فقط من عقدتى الكبيرة، لكن كل جزء فى الكتابة هو كل شىء، كل جزء من جسدى يحذرنى من كل كلمة.. كل كلمة، قبل أن أكتبها، تنظر أولًا فى جميع الاتجاهات، وتتفتت الجمل بين يدى، أرى جوهرها، وحينها أضطر إلى التوقف سريعًا. كما أن أشهر الخصائص التى تميز فرادة الكُتَّاب هى أن كل واحد منهم يخفى رداءته بطريقة خاصة جدًا، ولكن إن لم يوقظنا الكتاب الذى نقرأه بلكمة فى الرأس، فلماذا سنقرأه إذن؟ لكى يجعلنا سعداء؟ يا إلهى! فالكتب التى تجعلنا سعداء، يمكننا كتابتها بأنفسنا إذا احتجنا لذلك، لكننا بحاجة إلى الكتب التى تؤثر فينا كفاجعة تؤلمنا بشدة، كوفاة شخص نحبه أكثر من أنفسنا، كنفينا إلى غابات بعيدة عن جميع البشر، كالانتحار. كانت مدة عملك اليومى فى شركة التأمين لا تتجاوز ال6 ساعات، ثم تغادر المكتب فى الثانية ظهرًا، فلماذا لا تشرع فى الكتابة إلا فى ساعات متأخرة من الليل؟ تكمن الغنيمة الحقيقية فقط فى قلب الليل، فى الساعة الثانية أو الثالثة والرابعة، ربما توجد كتابة أخرى، لكننى لا أعرف سوى هذه فقط: فى الليل عندما يحول الخوف بينى والنوم، لقد انكفأت أكتب «المحاكمة» من العاشرة مساءً حتى السادسة صباحًا دفعة واحدة، وبالكاد استطعت جذب ساقيّ المتصلبتين تحت المكتب من أثر الجلوس، فالجهد الرهيب الممتزج بسعادتى الغامرة وأنا أتابع تطور القصة أمامى، بدا كأننى أمضى فى مجرى مائى، وقد حملت ثقلى على ظهرى أكثر من مرة فى تلك الليلة، فكيف يمكن المجازفة بكل شىء، وكيف تنشب للأفكار الأغرب نار عظيمة، تفنى فيها وتدب فيك الروح من جديد؟ فلا يمكن للكتابة إلا أن تكون على هذا النحو، تكون بانفتاح كامل للجسد والروح، فالعقل يتحرر فقط، عندما يكفّ عن أن يكون سندًا. بعد فيليتسه باور، ارتبطت أولًا بيولى فوريتسك، ثم بميلينا يسنسكا، التى خضت معها للمرة الثانية قصة حب، لم تزهر باللمسات الجسدية، بل عبر مئات الرسائل، فكيف تنظر اليوم إلى محاولتك لخلق عالم موازٍ بالرسائل عندما تسترجع ماضيك؟ أنا إنسان تافه، لم تخدعنى الرسائل، بل أنا من خدعتُ نفسى بها، كتابة الرسائل تعنى أن تتعرى أمام الأشباح التى تنتظر بنهم، فالقُبل المكتوبة لا تصل إلى وجهتها، بل تمتصها الأشباح فى الطريق، ومن خلال هذا الغذاء الوافر تتكاثر تلك الأشباح على نحو يفوق الوصف. كما أن البشرية تشعر بذلك وتكافحه، فقد اخترع البشر القطار والسيارة والطائرة، فى محاولة لإقصاء كل ما هو شبحيّ يكمن فى المسافة بينهم، وللوصول إلى تعامل طبيعى، إلى سلام الأرواح.. لكن لم يعد ذلك يجدى نفعًا، فيبدو أننا قد توصلنا إلى هذه الاختراعات ونحن فى طور السقوط أصلًا، إن الجانب المقابل أكثر هدوءًا وأقوى بكثير، فقد اختُرع التلغراف بعد البريد، ثم الهاتف، ثم اللاسلكي.. فالأشباح لن تتضور جوعًا، لكننا نحن من سنهلك. بعد أن تركتك ميلينا يسنسكا، سافرتَ فى يوليو 1923 إلى مصيف موريتس على بحر البلطيق واستأجرتَ غرفة فى بنسيون «جلوكاوف"، فرأيت من خلال نافذة مفتوحة امرأة شابة تحمل سكينًا بيدها، وتزيل به قشور السمك، فقلتَ لها: «أيادٍ رقيقة إلى هذا الحد، وتضطر إلى أداء عمل دموى كهذا!»، ثم تقرر بعد أسبوعين أن تذهب إليها فى برلين، ومن هنا تطورت علاقة بدت أنها ستجعلك سعيدًا كما لم يحدث من قبل. لدى امرأة تحبنى، وهى دورا، إنها الشخص الوحيد الذى التقيت به فى حياتى ووجدت أنه يفهمنى حقًا، كائن رائع! إنها امرأة قوية ومستقلة، وهى كل شيء بالنسبة لى، ملاك دخل حياتى، ولا أستطيع أن أتخيل العيش بدونها، أحبها أكثر من أى شىء فى العالم، إنها شمس حياتى، وأنا ممتن لكل لحظة أقضيها معها. فى نوفمبر من العام الماضى قام أدولف هتلر وحزبه النازى فى ميونيخ بمحاولة انقلاب، هل اختبرتَ معاداة السامية فى ألمانيا بنفسك؟ جلست مؤخرًا تحت أشعة الشمس فى الحديقة النباتية فى برلين، عندها مرت طالبات من مدرسة فتيات، من بينهن فتاة جميلة، وطويلة، وشقراء، ذات مظهر فتى، ثم ابتسمت لى بتكلف ونادتنى بشيء ما، فابتسمتُ لها بالطبع ابتسامة ودودة للغاية، لكن عندما ظلت تلتفت نحوى لاحقًا مع صديقاتها، أدركتُ تدريجيًا ما قالته لى فى الواقع، لقد قالت لى «يهودى!». بناءً على رغبتك حرقت دورا ديامانت فى الأسابيع الأخيرة بعض أعمالك أمام عينيك، فما الذى ينبغى فعله بما تبقى من إرثك الأدبى؟ آخر رجاء لى هو أن يُحرَق كل ما فى تركتى من يوميات ومخطوطات ورسائل حرقًا تامًا من دون أن يُقرأ، أما الرسائل التى يرفض صاحبها تسليمها، فعليه أن يلتزم بحرقها بنفسه على الأقل. كم من الوقت تمنح نفسك؟ بغض النظر عن المعجزات فكل شيء ميئوس منه، سأصمد لثمانية أيام أخرى، ربما..آمل ذلك، فأنا ألهث طلبًا للهواء وأعانى رويدًا من الحمى حتى النهاية، ولا يلبث خوفى أن يتجدد، ومعه رغبتى فى الانتحار، لقد أُرسِلت كحمامة توراتية، لم تجد شيئًا أخضر، والآن تعود لتدخل الفلك المظلم من جديد. فى الساعات الباكرة من صباح الثالث من يونيو 1924 يصاب فرانتس كافكا بحالة اختناق وشيكة، يطلب من صديقه روبرت كلوبشتوك -الخبير فى مجال الطب- جرعة قاتلة من المورفين، فيحقنه كلوبشتوك حينها بأفيون، يكاد يحمل القدر نفسه من تأثير المورفين، ثم يقررا إرسال دورا ديامانت إلى القرية تحت ذريعة ما، حتى لا تشهد ذلك، لكن كافكا يفتقدها فى الدقائق الأخيرة، ويأمر إحدى الخادمات بإحضارها، فتصل منقطعة الأنفاس إلى سريره، تتحدث إليه وتقرب الزهور من وجهه ليشم رائحتها، فيرفع كافكا، الذى بدا فاقدًا للوعى، رأسه مرة أخرى، وبحلول منتصف النهار تقريبًا يموت عن عمر يناهز أربعين عامًا وأحد عشر شهرًا، وفى جنازته على مشارف براغ، يحضر أقل من مئة معزٍ، ولا يحضر أى ممثل عن المؤسسات الثقافية. يتجاهل ماكس برود، الذى كان من المفترض أن يحرق كل ما كتبه صديقه، وصيته الأخيرة وينشر إرثه، بما فيه نحو 1500 رسالة للكاتب.