فى قلب الشارقة حيث تتقاطع الأزمنة وتتنفس الحكايات، ينبض هذا العام صوت الراوى بوقع خاص، محتفلاً بمرور 25 عاماً منذ أن وُلد ملتقى الشارقة الدولى للراوي.. فى الشارقة لم تكن الحكاية مجرد تسلية بل كانت شرياناً يمد الهوية بالحياة وجسراً يصل الذاكرة بالمستقبل. ومن هنا جاءت فكرة الملتقى طبقاً لدكتور عبد العزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث، أن تجمع المرويات وأن توثق الخبرات وتكرم الذين حملوا ذاكرة الناس فى صدورهم وألسنتهم حتى لا يضيع صوت التراث وتختفى صور الرحالة. وهو ما ترجمته إدارة الملتقى طبقاً للمسلم فرحلة الملتقى هذا العام كانت فى حكايات أولئك الرحالة الذين جابوا البلاد ودونوا مشاهداتهم وانطباعاتهم، فقرأ الحضور ما كتبه الرحالة عن المجتمعات التى زاروها والبلدان التى مروا بها وما سمعوه من حكايات وما عاينوه من غرائب وعجائب. الملتقى فى نسخته ال25 حمل شعاراً يليق برحلة عمره.. «حكايات الرحالة» شعار يفتح الأبواب على سفر طويل فى الزمن والمكان على أصوات من أكثر من 37 دولة وعلى أكثر من 120 راوياً جاءوا ليودعوا فى حضن الشارقة قصصهم وتجاربهم وذاكرة بلدانهم، وكأن العالم كله قد اجتمع فى مجلس واحد يضيء فيه السرد عتمة الغياب ويعيد للحكاية مكانتها الأولى.. المعلم والرفيق والمؤنس. هنا فى قاعات الملتقى تقام أربعون ورشة يتعلم فيها الصغار كيف يُمسكون بخيط القصة ويكتشف الكبار أن السرد ليس ماضياً فقط بل هو أداة لبناء الحاضر والمستقبل. وفى واحدة من تلك الورش يقف الفنان التشكيلى إبراهيم البريدى محاطاً بعيون الأطفال المتطلعة وأيادى المتدربين التى تمسك بقصاصات القماش وهى مشاركته الأولى فى هذا الملتقى، ولكنه جاء محملاً بحكاية من نوع آخر حكاية يرسمها لا بالكلمات بل بالألوان والخطوط عبر ورشة عمل حملت عنوان «حاكى الحكاية». يبتسم البريدى وهو يراقب المتدربين يحولون القماش الملون إلى لوحاتٍ تنبض بالحياة، ويقول: إن الفن هنا ليس مجرد ممارسة تشكيلية، بل وسيلة لحفظ التراث ونقله بطريقة مختلفة ليصبح جزءا من كتب الأطفال، يجاور النصوص ويضفى عليها روح الصورة، فالرسم كما يصفه سهل ممتنع أدواته متاحة للجميع، لكن الصعوبة تكمن فى اختيار الألوان التى تمنح الحكاية بعدها الإنسانى وحرارتها الوجدانية. وفى ملتقى الراوى يُعرض 40 إصداراً جديداً تروى معظمها أدب الرحلة وتعيد إلى الأذهان أصوات الرحالة الذين سجلوا بأقلامهم ما رأت أعينهم من المدن المجهولة إلى البحار البعيدة، ومن أبرزها: سلسلة «عيون الرحلات» التى تستعرض مختاراتٍ من مدونة الرحلات العربية، والراوى فى أدب الرحلة للدكتور عبدالحكيم خليل رئيس قسم العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بالمعهد العالى للفنون، والذى يُعد فيه أدب الرحلة من أهم الأجناس الأدبية التى أسهمت فى توثيق العادات والتقاليد عبر العصور ، ويعد الراوى وسيطاً بين القارئ والعالم الموصوف. ويأتى البرنامج الفكرى للملتقى هذا العام ليجمع خمسة وأربعين باحثاً وخبيراً يناقشون الحكاية فى أبعادها من السرد الشفهى حتى الملاحم الكبرى، ومن تراث البحر حتى أساطير الجبال. ومثلما كان الوفاء سمة الحكاية كرم الملتقى هذا العام أسماء حملت التراث على أكتافها، مثل: الكاتب والرحالة الإماراتى محمد المر، والدكتور على الشالوبي، والفنانة المغربية أمينة كوسطو. تكريم يثبت أن الذاكرة لا تُحفظ فقط بالكتب، بل بالقلوب التى آمنت بها وأفنت أعمارها فى صونها. وفى معرض خاص عرضت أعمال الرحالة الإماراتى محمد المر، صور كثيرة من أسفاره بينها: صور للآثار المصرية التى زينت جدران القاعة كأنها خيوط تربط بين ماضٍ بعيد وحاضرٍ حى. وعلى مقربة، تتعمق فى التاريخ وتسمع حكايات الرحالة من كل زاوية، لوحات تحكى رحلة ابن بطوطة ورسومات تخلد أسفاره، لتنتهى الرحلة أمام مجسم ثلاثى الأبعاد يظهر فيه ابن بطوطة نفسه وهو يروى حكايته. بجانبه تقع صوره ضخمة لجسر ثقافى بين العالم العربى وأوروبا البروفيسيرة كلوديا ماريا ترسيو واحدة من أبرز الأكاديميات المتخصصات فى اللغة والأدب العربى فى إيطاليا وأوروبا وأول من ترجم كتاب ابن بطوطة إلى الإيطالية عام 2006، الذى دون فيه أخبار رحلته فى القرن الرابع عشر. فى أحد الأركان البارزة يتوقف الزوار أمام صور نادرة وقصاصاتٍ من الصحف المصرية القديمة، صور للرئيس أنور السادات وهو يستقبل حاكم الشارقة فى القاهرة وصور أخرى لكوكب الشرق أم كلثوم، وهى تشارك فى فرحة أبوظبى بقيام الاتحاد، ليست مجرد صور صحفية بل شواهد حية على زمن كانت فيه الكلمة المطبوعة جسراً يربط الشعوب. محمد صادق، رئيس مؤسسة الأرشيف العربى للتراث يقول: إن وجود هذه الصور داخل الملتقى رسالة واضحة أن الصحافة ليست مهنة عابرة بل أداة للتوثيق وحفظ الذاكرة، فهى التى أرخت للحظة ميلاد الاتحاد، واحتفت بأصواتٍ مصرية وعربية صنعت الجسور بين القاهرة وأبو ظبي. ويضيف صادق: «أن مصر ستبقى الدولة الرائدة وصاحبة الريادة فى دعم الصحافة العربية ونشر رسالتها"، مشيرًا إلى أن الملتقى لا يكتفى بالصور والوثائق بل يزين أروقته بركن خاص لأدب الرحلات المصرية، حيث تتألق كتب مثل رحلاتى حول العالم للدكتورة نوال السعداوي، وسندباد فى رحلة الحياة للدكتور حسين فوزي، لتكمل لوحة من التراث الثقافى والفكرى الممتد عبر العصور». خمسة وعشرون عاماً، والملتقى يمضى من شعار إلى آخر من «فنون الراوي» إلى «جحا العربي»، إلى «الحكايات الخرافية» و«قصص الحيوان»، و «حكايات البحر» واليوم يقف عند «حكايات الرحالة». فى يوبيله الفضى يؤكد ملتقى الشارقة الدولى للراوى أن الحكاية لا تزال قادرة على وصل الماضى بالحاضر، وعلى صياغة مستقبل تزهو فيه المعرفة، وتبقى فيه الذاكرة حية نابضة. فى قلب الشارقة لا يشيخ الراوى بل يتجدد كل عام ليحمل للناس ما يجعلهم أكثر قربا من ذواتهم وأكثر إيماناً بأن الحكاية مهما تغير الزمن تبقى أصل الحياة.