مع احتفالنا اليوم بالذكرى الأغلى والأعظم فى تاريخ مصر الحديث، انتصار السادس من أكتوبر، يتضح لنا أكثر فأكثر ومع الأحداث التى تقع اليوم على الساحة الدولية أن قرارات الرئيس الراحل أنور السادات لم تكن مجرد ضربة حظ، بل كانت تتويجًا لفكر ورؤية استراتيجية طبقت ببراعة فنون وعلوم إعداد الدولة والشعب للمعركة وأن الحرب هى السياسة لكن بوسائل أخرى. العبور إلى النصر فى معركة أكتوبر يتطلب منا أيضًا رحلة عبور فى عقل هذا الرجل الذى تجاوزت فلسفة قيادته حدود الزمان والمكان. إن عبقرية عقل السادات لم تكن فقط فى المعركة نفسها، بل فى قدرته الكبرى على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية الكبرى دون انكسار. قليلون هم من اعتقدوا أن مصر، حتى مع الدعم السوفيتى والعربى، تمتلك خيارًا عسكريًا فعالًا لفرض تغيير فى الوضع الراهن، الكثيرون كانوا يشككون فى قدرة السادات على قيادة الدولة والجيش للانتصار؛ حرب نفسية شعواء أطلقتها أقوى أجهزة المخابرات فى العالم للتأثير على نفوس وعزيمة المصريين وتدمير ثقتهم بالسادات، زاد على ذلك شكوك العالم العربى بأن مصر لن تحارب فى ظل التفوق العسكرى لإسرائيل. لكن السادات مشى واثق الخطى ملكًا على خط رفيع وسط كل تلك النيران الداخلية والخارجية، وفى نفس الوقت كان عليه أن يعمل على مفاوضات جلب السلاح والإشراف على خطة الإعداد والتجهيز لمعركة التحرير، وزير خارجية أمريكا هنرى كيسنجر قال وقتها: «نصيحتى للسادات أن يكون واقعيًا، فنحن نعيش فى عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبنى شيئًا على الأمانى والتخيلات... والواقع أنكم مهزومون، فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر، لابد أن تكون هناك بعض التنازلات من جانبكم حتى تستطيع أمريكا أن تساعدكم». الحقيقة أن إرادة الله وعبقرية عقل السادات غيَّرت الواقع وأنهت حالة اللا حرب واللا سلم، قال السادات فى كتاب موسى صبرى «وثائق حرب أكتوبر»: «أشهد بأن إرادة الله هى التى اتخذت قرار المعركة... هذا قدر... لم يصبح أمامنا من حل إلا أن نحمل السلاح لنحرر الأرض ونرفض الاستسلام... ليس هناك حل وسط... الشعب رفض الهزيمة... وهذه هى فلسفة الشعب... علينا أن نتحمل كل العقبات والتضحيات... أو نختصر الطريق ونسلم ونحل القوات المسلحة، ونقبل شروط العدو، ونعيش إلى الأبد أذلاء... وربما لاجئين». بعد 52 عامًا، نرى أراضى عربية لم تتحرر، ولاجئين مطرودين من أوطانهم، وزعماء رحلوا دون أن يحققوا سوى خيبة الأمل لشعوبهم، فى الوقت الذى وصفوا به السادات بما ليس فيه، إن رؤيته التى كانت تبدو متطرفة فى زمنها، لكنها أثبتت اليوم أنها كانت نظرة ثاقبة وواقعية لما يمكن أن تؤول إليه الأمور دون اتخاذ قراره الجرىء. لقد حيّر السادات بعبقريته أعتى أجهزة المخابرات فى العالم، وعلى رأسهم المخابرات الأمريكية والموساد والكى جى بى، فلم تتوقع أى من هذه الأجهزة قرار السادات بالحرب أبدًا فى ذلك التاريخ، بل إنها اعتبرت أن خوضه الحرب «حماقة كبرى» و«انتحار سياسى» بكل المقاييس. درس السادات العقل السياسى الإسرائيلى جيدًا، وخطط لشن حرب من نوع يختلف عن النوع الذى فكر فيه الصهاينة، قال السادات: «إن مصر لا تحتاج لشن حرب تحرير سيناء من خليج السويس إلى خليج العقبة، ولكنها تحتاج إلى إجبار الإسرائيليين على اكتشاف أنه لا يمكنهم مواصلة الاحتفاظ بسيناء بلا تكلفة، وأن التكلفة التى سيتحملونها فى سبيل ذلك ستكون قاسية»، هذه هى خطة حرب أكتوبر العبقرية التى انتصر فيها الجيش المصرى بلا منازع، والتى استكملها السادات بمبادرة السلام وعادت بها لمصر كامل سيناء. إن السادات كان بلا شك يمتلك عقلاً مميزًا رائعًا نجح فى تدريبه ليتحول إلى آلة جبارة، كما يقول الكاتب الأمريكى رودولف إى تانزى فى كتابه «العقل الجبار» (Super Brain) وكتب: «أنه يمكن تدريب المخ ليتحول إلى آلة جبارة تواجه أصعب وأخطر المواقف»، وكذلك فعل السادات، وما زالت أسرار عبقرية الانتصار العظيم الذى قاده الرئيس البطل بدهائه وحنكته تتوالى حتى اللحظة، وهو ما يؤكد أن رؤيته الاستراتيجية كانت تتجاوز فهم عصره. أخيرًا، تحية للرئيس البطل صاحب العبقرية الخالدة التى حيرت العالم، والذى تستمر قراراته فى إلهامنا اليوم كنموذج للقيادة الرشيدة والشجاعة الاستثنائية. اقرأ أيضًا | «رأس العش» |طريق النصر بدأ من هنا اسألوهم... عن «الكستور» ودموع مائير إلى دعاة اليمين المتطرف، الذين ما زالت أحلام «إسرائيل الكبرى» تداعب خيالاتهم، وإلى الذين لا تزال أعينهم تتطلع بشغف إلى سيناء الطاهرة، نقول لكم اليوم: اسألوا آباءكم وأجدادكم عن تلك اللقطات التى لن تُمحى من ذاكرة الإسرائيليين، أسألوهم عن ذكريات عودتهم أسرى بالبيجامات الكستور. عاد هؤلاء الجنود يومها يرتدون ملابس النوم، لا ملابسهم العسكرية. أسألوهم كيف كان فى مقدمة استقبالهم رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك، جولدا مائير، التى وقفت تحتضنهم وتبكى بمرارة، لا فرحًا بعودتهم، بل حسرةً وألمًا على ما حل بجيشها المزعوم كان مشهد عودة الأسرى ب«البيجامات» مشهدًا حطم الكثير من المستحيلات. إن دموع مائير لم تكن مجرد دموع امرأة عجوز تستقبل أبناءها، بل كانت دموع قناعة عميقة بأن أسطورة التفوق المطلق قد تحطمت على صخرة الصمود المصرى كانت صرخة اعتراف بالهزيمة المعنوية والسياسية التى ألحقتها مصر بجيشها. اسألوهم أيها المتطرفون، عن جحيم حرب معركة سيناء، وعن الثمن الباهظ الذى دفعوه. اسألوهم كيف تحطمت غطرستهم، وكيف تبخرت أحلامهم التوسعية أمام إرادة شعب وجيش لم يقبل الهزيمة. لعل فى إجاباتهم ما يوقظكم من غفلتكم، ويريكم أن هذه الأرض لها رجال يدافعون عنها بأرواحهم، وأن زمن البيجامات الكستور هو تاريخ لا يُمحى، يذكرنا دائمًا بأن المستحيل قد تحطم بأيدى المصريين. هزيمة «بارليف» قالوا إنه يحتاج الى سلاح المهندسين العسكرين فى الجيشين الأمريكى والسوفيتى معًا لإزالته وقالوا إنه يحتاج الى قنابل نووية صغيرة لتحطيمه.. هكذا كان الحال مع الساتر الترابى العملاق «بارليف» الذى بنته إسرائيل كأقوى خط تحصين دفاعى فى التاريخ العسكرى، وشيدته كى يفصل سيناء عن مصر، ولم يكن هذا هو الهدف الوحيد، إنما كان هناك هدف أهم، وهو بث روح اليأس فى نفوس الجنود المصريين كلما نظروا إليه، كان «الخط» عبارة عن ساتر ترابى ضخم يرتفع إلى سبعة أدوار، أما عرضه فيمتد إلى أربعة أدوار، وعمقه يمتد إلى 12 كم فى سيناء، ويضم 22 موقعا دفاعيًا، و36 نقطة حصينة تم تحصين مبانيها بالأسمنت المسلح والكتل الخرسانية، وقضبان السكك الحديدة للوقاية من كل أنواع القصف، وبلغت تكلفته 5 مليارات دولار وقت إنشائه بعد نكسة يونيو 1967 بنت إسرائيل «الخط» ولم يخطر على بال قادتها أبدًا أنه قابل للإزالة. وفى انتصارنا على إسرائيل فى حرب أكتوبر 1973 كان الضابط مهندس «باقى زكى يوسف» واحدًا من الأسرار الكبرى والعظيمة لهذه الحرب.. هو نموذج لعبقرية المصرى والتصميم على مواجهة المستحيل، ويعود له الفضل فى التوصل إلى هدم خط بارليف، حيث كانت العبقرية كما يقول الخبراء العسكريون تكمن فى إزالته وسط معركة حربية وليس فى بنائه لهذا سيبقى مشهد تدميره وفتح الثغرات به شاهدًا على عبقرية المصرى. 140 كيلو على ظهر الجندى الصائم ذلك الجندى الصائم يصعد أعلى الساتر الترابى خلال العبور محملًا بمدفع روسى مضاد للدبابات «بى 10» وزنه 120 كجم ليصعد به خط بارليف بارتفاع 20متر. وهو أيضًا يحمل سلاحه الشخصى وبندقية آلية وذخيرة، وحقيبة بها طعامه وخوذة تزن جميعها قرابة 20 كجم وهو ما يعنى أنه يحمل فوق ظهره 140 كجم وعلى الرغم من صعوبة الفعل فإن الصورة تظهر هذا المستحيل فى مشهد العبور وقوة وصلابة الجندى المصرى ورغبته فى صعود ساتر ترابى أنفقت إسرائيل عليه 5 مليارات دولار ليصبح مستحيل عبوره أو اختراقه، فما كان من هذا الجندى إلا أن لقنهم درسًا قاسيًا. انتهاء أسطورة الحصن المنيع يصف «جرانفيل واتس» أحد المراسلين الحربيين، لحظة استسلام نقطة لسان بورتوفيق، قائلا:«رأينا آخر موقع إسرائيلى محصن يعلن استسلامه، تحت إشراف الصليب الأحمر، لقد شاهدت العديد من الجنود الإسرائيليين يخرجون من خنادقهم ودشمهم، بينما ارتفع العلم المصرى، وبجانبه علم الصليب الأحمر على الموقع الإسرائيلى، وكان أول إسرائيلى نقلوه بالقوارب إلى الضفة الغربية هو قائد الموقع، وقد استسلم 37 أسيرًا، بخلاف القتلى والجرحى، ومنهم 5 ضباط قتلى وبسقوط نقطة لسان بورتوفيق الحصينة، انتهت أسطورة خط بارليف المنيع». وفى الصورة يظهر اللواء زغلول فتحى، وكان فى حرب أكتوبر برتبة «رائد»، وهو قائد الكتيبة 43 صاعقة، التى أسقطت أكثر الحصون قوة ومناعة على الجبهة، وهو حصن «لسان بورتوفيق» وقد حظرت إسرائيل تداول تلك الصورة خلال الحرب، حيث تظهر كم الذل والانكسار الذى عاشته قواتها، التى استسلم قائدها وأدي التحية العسكرية للضابط المصري. الظهور الأول للحرب الإلكترونية ظهرت الحرب الإلكترونية لأول مرة خلال حرب أكتوبر فى ذلك الوقت عمل الراحل جمال الغيطانى كمراسل عسكرى لصحيفة أخبار اليوم على الجبهة خلال حرب الاستنزاف، ثم حرب ونصر أكتوبر العظيم خلال الفترة بين عامى 1969، 1974، والتى رصد فيها الأحداث والتطورات العسكرية على الجبهة. ورصد الغيطانى قائلاً إن الحرب الإلكترونية التى خاضتها قواتنا المسلحة ضد العدو الإسرائيلي والتى تعد أول حرب فى التاريخ تستخدم فيها الوسائل العلمية الحديثة بشكل عبقرى على نطاق واسع تمثل تطورًا مهما من التطورات التى قام بها المقاتل المصرى وهذه الحرب سوف يصبح لها آثارها البعيدة على المجتمع المصرى فى المستقبل، لأن بعض الوسائل التكتيكية الحديثة جدًا استخدمتها قواتنا المسلحة قبل أن تعرفها الحياة المدنية ومن صفوف القوات المسلحة سوف يخرج آلاف الفنيين المدربين على أجهزة حديثة بالغة التعقيد لا غنى للحضارة العصرية عنها. «النابالم» بردًا وسلامًا! قام البطل المصرى العبقرى بالقوات البحرية الرائد أحمد مأمون باختراع مادة تتجمد فى الماء، وأعطى مكوناتها لقائد القوات البحرية، والذى قام بعرضها على الرئيس الراحل محمد أنور السادات فأقرها، وأمر بتصنيعها سرًا. وكان أحد إنجازات المخابرات العامة المصرية الحصول على خريطة بمواقع وتمركز مواسير فتحات النابالم قبل حرب أكتوبر بفترة كبيرة وقامت الوحدات الخاصة من القوات البحرية المصرية بالغطس تحت سطح مياه قناة السويس لمسافة 15 مترًا، للبحث عن فتحات «النابالم»، وتعطيلها وتم سد فتحات المواسير وقطع خراطيم الطلبات قبل العبور بساعات، ولم تفلح إسرائيل فى إشعال حريق واحد طوال فترة العبور، وعبرت قواتنا ومعداتنا وسط ذهول إسرائيلى فى مشهد يدلل على عبقرية المصريين. فك شفرة وقود الصواريخ أزمة كبرى كادت أن تكون سببًا فى تأخير حرب اكتوبر عن موعدها.. وقد رد الاتحاد السوفيتى على قرار السادات بطرد خبرائهم بالمماطلة فى إرسال السلاح وقطع غيار الأسلحة التى كانت تطلبها مصر منهم، و كان الوقود المستخدم فى تموين صواريخ الدفاع الجوى من بين الأشياء التى امتنع السوفييت عن تصديرها لمصر. وكان معنى ذلك عدم قدرتنا على استعمال صواريخ الدفاع الجوى فى المعركة وبالتالى عدم وجود الدفاع الجوى مما يؤدى لعدم قيام مصر بشن الحرب لاسترداد أرضها المحتلة. لجأ المشير محمد على فهمى قائد سلاح الدفاع الجوى آنذاك، للدكتور مهندس محمود يوسف سعادة، فقام بفحص وقود الصواريخ المنتهى الصلاحية ونجح بعد الدراسة والبحث فى استخلاص 240 لترًا صالحة للاستعمال وتم استيراد عينة من الوقود من إحدى الدول قام الدكتور سعادة بفك شفرتها ومعرفة نسب مكوناتها واستيراد هذه المكونات من الخارج ونجح الخبراء المدنيون والعسكريون تحت إشرافه فى إنتاج 45 طنًا من وقود الصواريخ، وبهذا أصبح الدفاع الجوى المصرى فى كامل الاستعداد لتنفيذ دوره المخطط له فى عملية الهجوم وبلا أدنى شك يعتبر نجاح د. محمود سعادة فى تخليق الوقود المصرى للصواريخ عبقرية مصرية خالصة وأحد أهم أسباب نجاح حائط صواريخ الدفاع الجوى المصرى فى تدمير 326 طائرة إسرائيلية.