لتذكير القارئ الكريم تحدثنا في المقال الأول.. الله ليس إلهًا عنصريًا، ولا يقبل سبحانه بإبادة شعب تحت أي مبرر. ولذلك من يستخدم النصوص لتبرير الجرائم يرتكب خطيئة مضاعفة الاولي بحق الإنسان والثانية بحق الله. ومن ثم فالمسيح القائم من بين الأموات اعلن بقيامته أن الشر لن يغلب الخير، وأن صوت غزة الجريحة هو صدى لصوت المسيح المصلوب: فالألم لن يكون النهاية بل القيامة هي من لها الكلمة الأخيرة. فإن محاولة إسقاط نصوص العهد القديم على واقعنا اليوم لتبرير الحروب والقتل، خطأ خطير على المستويين الديني والإنساني. فالكتاب المقدس نفسه يوضح أن مقاصد الله تعبر بالأزمنة وتتنقل عبر العهود، وأن ما كان مقبولًا لشعب ناشئ في محيط دموي قديم، لم يعد له أي سند في زمن نعمة العهد الجديد في المسيح تعالوا معا لنتعرف سويا علي اول وعود توراتية بملكية الارض وهو وارد في سفر التكوين: 1. تكوين 15:18: «في ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقا قائلا: لِنَسلكَ أُعطِي هذه الأرضَ من نَهْرِ مِصْرَ إلى النَّهْرِ الكبير نَهْرِ الفِرات». والنبوة الثانية في سفر الخروج 2. خروج 23:31: «وأجعل تخمك من بحر سُوف إلى بحر فلسطين ومن البَرِّية إلى النَّهْر. وأدفع إلى يدك سكانَ الأرض فتطردُهم من أمامك» حين نقرأ في (تكوين 15:18) أن الرب وعد ابونا إبراهيم قائلاً: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات»، قد يتبادر إلى الذهن أن هذا حق سياسي مطلق لشعب معين. لكن بالحقيقة، هذا الوعد لم يكن غايته الأرض ذاتها، بل كان علامةً على العهد، وسيلةً لإقامة شعبٍ يخرج منه في ملء الزمان المسيح مخلّص العالم. ولذلك الأرض لم تكن الهدف، بل كانت مجرد جسر زمني لكي يُولد من نسل إبراهيم البركة لجميع الأمم كما قال الكتاب: «ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (تكوين 22:18). واليوم في المسيح صار الميراث أوسع بكثير من الحدود الجغرافية، فهو ملكوت روحي الله الذي يملك علي القلوب وليس الأرض. وفي (خروج 23:31) نقرأ: «وأجعل تخمك من بحر سوف إلى بحر فلسطين ومن البرية إلى النهر. وأدفع إلى يدك سكان الأرض فتطردهم من أمامك». هذه الكلمات قيلت لشعب ناشئ في زمن كانت القوة العسكرية هي لغة البقاء. لكن المسيح جاء ليغيّر هذا المنطق تمامًا. لم يدعُ أتباعه إلى طرد أو قتل، بل قال: «أحبوا أعداءكم... باركوا لاعنيكم» (متى 5:44). الوعد القديم كان مؤقتًا وتربويًا، أما اليوم فقد أُعلن في المسيح ملكوت جديد لا يُقاس بالحدود او الخرائط الجغرافية، بل بالعدل والسلام والرحمة. إذن، لا يجوز أن نأخذ نصوص العهد القديم ونحوّلها إلى مبررٍ للقتل أو الاستيطان في زماننا. الوعد الحقيقي لم يكن أبدًا "بالأرض الحجرية"، بل بالإنسان، بأن يعيش حرًا كريمًا على صورة الله. لهذا تقول المسيحية بوضوح: من يستخدم الكتاب المقدس لتبرير العنف يرتكب خطيئة مزدوجة، لأنه يظلم الإنسان ويشوّه صورة الله نفسه. فالله ليس إلهًا عنصريًا ولا إله حروب، بل هو «إله السلام» (رومية 15:33) ليس له أطيان او عقارات فهو يسكن القلوب والضمائر. لقد جاء المسيح ليكشف عن الوجه الحقيقي لله، وجه المحبة والرحمة، فقال: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم» (متى 5: 44). وهذا هو جوهر الإيمان المسيحي: الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه (1 يوحنا 4: 16). وبالتالي فإن أي دعوة لإبادة شعب، أو طرد أمة من أرضها، أو قتل الأبرياء باسم الله، ليست فقط خروجًا عن الكتاب المقدس ، بل هي تجديف على اسم الله ذاته. إذ أن الإيمان الذي يُستخدم كسلاح للقتل، ليس إيمانًا بل أيديولوجيا مشوّهة. ثم إن فكرة "أرض الميعاد" لا يمكن اختزالها في جغرافيا أو حدود سياسية؛ فالمسيح نفسه قال: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يوحنا 18: 36). الأرض التي وعد بها الله لم تكن في جوهرها مجرد تربة وحدود، بل كانت رمزًا لعلاقة عهد، ولشركة مع الله في طاعته ومحبته. وعندما خان شعبه هذا العهد، فقد الأرض نفسها، وسقط في السبي والشتات. أما اليوم، فإن استخدام هذه المفاهيم القديمة لتبرير الاستيطان أو تهجير الشعوب أو إبادة الأبرياء، هو تحريف للغرض الإلهي، وإسقاط قسري للنصوص خارج سياقها. فالله الذي أرسل ابنه الوحيد ليخلّص العالم، لا ليهلكه (يوحنا 3: 17)، لا يمكن أن يُراد اسمه في مشروع دموي. ومن هنا فإن ما يحدث في غزة اليوم من قصف وتجويع وقتل جماعي، ليس نبوءة توراتية ولا إرادة إلهية، بل هو مأساة إنسانية تصرخ في وجه الضمير العالمي. والسكوت عنها هو اشتراك في الجريمة. المطلوب اليوم ليس استدعاء نصوص من الماضي لتبرير الحاضر، بل استدعاء القيم الإنسانية والروحية التي أعلنها الله في كل العصور: العدل، الرحمة، والسلام. فالمسيح لم يأتِ ليُجدّد حروب يشوع، بل ليصنع صلحًا جديدًا على الصليب، جامعًا الشعوب في محبة واحدة. ولهذا نقول: إن مستقبل فلسطين، بل مستقبل العالم كله، لن يُبنى على القتل والدمار، بل على العدالة والمصالحة. أما كل قراءة توراتية أو دينية تُستغل لتبرير سفك الدماء، فهي خيانة لله وللإنسان معًا.... وللحديث بقية