بدا واضحاً أننا نعيش عالمٍ تتمزّقه الحروب وتُذبح فيه القيم باسم العقائد والدين ، وهنا يطلّ علينا سؤال مرعب : هل ما يحدث اليوم قدرٌ إلهي ؟، أم خديعة مُحكمة ؟ ، ونحاول اليوم من خلال هذا المقال أن نفتح نافذة وعي، ونكشف كيف يُختطف النصّ ليُشرعن الاحتلال ؟، وكيف يغتال الإنسان بغطاء من السماء؟. ولعل ما سبق وكتبه المفكر العربي الكبير الأستاذ علي محمد الشرفاء في مقال هام جدًا، وقدّم رؤية عميقة وواعية حول الأخطار الجسيمة التي تواجه القضية الفلسطينية، سواء على الصعيد الداخلي، ممثَّلة في الانقسامات وغياب الوحدة، أو على الصعيد الخارجي، المتمثل في العدوان الإسرائيلي وسياساته الاستيطانية والتهويدية. وقد أشار سيادته – بدقة – إلى أحد أخطر أوجه الفكر الصهيوني، وهو الاستغلال الممنهج للنصوص الدينية في الثقافة الإسرائيلية لتبرير وجود غير شرعي، وفرض واقع استعماري مرفوض، يتعارض تمامًا مع القيم الدينية والإنسانية . بل وسلّط الضوء على خديعة كبرى حيكت بعناية استنادًا إلى نصوص من "العهد القديم"، جرى تأويلها وتطويعها لتكون أداة في يد المشروع الاستعماري، في تجاوز صارخ لجوهر الرسالات السماوية، التي جاءت لنشر العدل والسلام، لا لتكريس الاحتلال والظلم . وبناءً عليه أقدّم في هذا المقال تأييدًا لما كتبه، مؤكدًا أن الرسالات السماوية جاءت لنشر العدل والسلام. - الإيمان لا يبرّر الإبادة: رؤية مسيحية لما يحدث في غزة لا يمكن لأي مسيحي حقيقي أن ينكر أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله؛ من حيث القيمة والمكانة والكرامة، لا من حيث الجوهر والذات الإلهية. وإن العبث بحياة الإنسان – أيًا كان جنسه أو شكله أو نوعه أو مكانته – هو عبث بأجمل صورة رسمها الله بنفسه. وبحسب نصوص سفر التكوين، فإن الله خلق كل الخليقة بكلمة «كُن» فكانَت، أمّا الإنسان فخلقه بيديه ونفخ فيه من روحه. لذلك فالإنسان هو أجمل وأروع صورة خلقها الله سبحانه وتعالى. ومن ثمّ، لا مبرر على الإطلاق لقتل الإنسان وسفك دمه بأي حال من الأحوال. إن من يقوم بهذا العبث اللامسؤول – غير الأخلاقي، وغير الإنساني، وغير الديني – يرتكب شركًا بالله؛ فالله في كل الديانات هو المحيي والمميت، وبالتالي فإن من ينهي حياة إنسان فقد أخذ مكانة الله. لقد سمحت القوانين والدساتير الوضعية بأن يُحكم بالإعدام على من يرتكب بعض الجرائم المغلظة، أمّا ما عدا ذلك فقتل النفس هو اعتداء على سلطان الله نفسه. وكل من يدّعي أنه يقتل في سبيل الله والدين، إنما يضع الله والدين في موضع ضعف وهوان، فالإله الذي يحتاج للإنسان كي يدافع عنه ليس إلهًا، بل هو أضعف من الإنسان لكونه محتاجًا إليه. ومن هذا المنطلق، أقول إن ما يحدث حولنا من قتل وإزهاق للأرواح، وتشريد للأطفال، وتثكّل للنساء، سواء في فلسطين أو سوريا أو السودان أو في أي بقعة من الأرض، هو فعل ضد الأخلاق والإنسانية وضد الأديان. وعلى المجتمع الدولي والضمير العالمي ألا يقفا صامتين أمام ما يحدث اليوم في تلك الدول. إن ما يحدث على الأراضي الفلسطينية – في غزة تحديدًا – من قصف، وصرخات أطفال تحت الأنقاض، وتحويل المدن إلى ركام، ليس مجرد أخبار تتناقلها الشاشات، بل هو جرح نازف في ضمير العالم. - النصوص الدينية وتبرير العنف الأخطر من كل ذلك هو محاولة تبرير العنف عبر نصوص دينية، خاصة بعض التفاسير الحرفية للعهد القديم، التي تُستخدم اليوم لتسويق التطهير العرقي وقتل الأبرياء، بحجة أنها "أرض الميعاد". صحيح أن العهد القديم يحتوي على روايات عن حروب خاضها بنو إسرائيل – كما في سفر يشوع – حيث نقرأ: «وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف» (يشوع 6: 21). لكن هذه النصوص وغيرها كُتبت في سياقها التاريخي لوقت محدد، لشعب ناشئ وسط حضارات عنيفة لا تعرف سوى السيف والقتل والإبادة. تخيّل معي: لو أن الرب في ذلك الوقت قال لهم «من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا» أو «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم»؛ لما كان لهذا الشعب وجود في تلك البيئة القاسية. لقد ميّز الله شعب إسرائيل عن باقي شعوب الأرض لغرض معيّن، وهو وعوده للآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومن نسل هذا الشعب جاء كل الأنبياء، وعلى أرضه وُلد الفادي السيد المسيح، كلمة الله المتجسد. وأزيدك من البيت قصيدًا: إن الآلهة الوثنية التي كانت تُعبد في تلك الأزمنة، كانت آلهة دموية. وكان المقرّبون منها يقدمون لها أفضل ما عندهم: أبناءهم، فلذات أكبادهم، إذ كانوا يذبحونهم ويقدّمونهم محرقة وقربانًا لإرضاء تلك الآلهة. وفي ثقافة تلك الشعوب، كان الإله الأعظم هو من يُظهر قوته بانتصار شعبه على الشعوب الأخرى. ومن هنا جاءت وصية الله ليشوع بن نون بأن يحرّم بعض المدن لا كلها، ويصنع إبادة للبعض لا للجميع، مؤكِّدًا لشعب إسرائيل: «لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدْلِ قَلْبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ، بَلْ لأَجْلِ إِثْمِ أُولئِكَ الشُّعُوبِ يُطْرَدُونَ مِنْ أَمَامِكَ» (تثنية 9: 5). لكن حينما ضلّ بنو إسرائيل عن الرب واتخذوا آلهة وثنية، سلّمهم الرب إلى ملك أشور وملك بابل فأذلّهم، كما ورد في (2 ملوك 17: 5–9): «وصعد ملك أشور على كل الأرض وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. وفي السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك أشور السامرة وسبى إسرائيل إلى أشور... وكان أن بني إسرائيل أخطأوا إلى الرب إلههم الذي أصعدهم من أرض مصر... واتّقوا آلهة أخرى... وعمل بنو إسرائيل سرًا ضد الرب إلههم أمورًا ليست بمستقيمة». من هذا السياق نعلم أن شرّ الشرير يعود عليه، وما يزرعه الإنسان إياه يحصد. وللحديث بقية...