يبدو أن واقعة سرقة الأسورة الذهبية من داخل متحف التحرير وصهرها بمنطقة الصاغة، مازالت حتى اللحظة تحمل العديد من الأسئلة والاستفسارات والتى يبدو أن الإجابة عنها لن تكون سهلة، خاصة بعد اكتفاء وزارة الآثار الصمت طيلة الفترة الأخيرة، واقتصار الأمر على بيان واحد صدر عنها بعد أسبوع كامل من الواقعة، حيث اعترفت الوزارة فى بيانها المُقتضب بصحة الواقعة، وبررت فيه أن تأجيل الإعلان عن الواقعة جاء حرصًا على توفير المناخ الملائم لضمان سير التحقيقات! إذ تبين سرقة القطعة الذهبية خلال الإعداد وتغليف القطع الأثرية المقرر سفرها خلال أيام إلى إيطاليا، لتُعرض فى معرض «كنوز الفراعنة» المقرر إقامته فى روما خلال الفترة من 24 أكتوبر المقبل إلى 3 مايو من العام المقبل، والذى من المُفترض أن يضم 130 قطعة أثرية تحكى قصة الحضارة المصرية عبر حقب زمنية متعددة. فى المقابل تحدث وزير الآثار شريف فتحى عن الواقعة إذ اعترف فى تصريحات تليفزيونية بغياب كاميرات المراقبة داخل معمل الترميم فى متحف التحرير، مبررًا ذلك بأن الكاميرات تقتصر فقط على مداخل ومخارج مبنى المتحف. ووصف الوزير واقعة السرقة كونها «تصرفاً دنيئاً» سببه الرئيسى التراخى فى تطبيق الإجراءات الأمنية الورقية، مثل الأختام وتسجيل القطع، وأكد أيضًا أن مفتاح غرفة الترميم له إجراءات صارمة، والتى يبدو أنها لم تُطبق بشكل كامل. بدأت تفاصيل الواقعة تتكشف فى 18 سبتمبر الجارى وذلك عندما أعلنت وزارة الداخلية المزيد من التفاصيل حول الواقعة، حيث أوضحت أنه جرى إبلاغها بالواقعة فى 13 سبتمبر؛ أى بعد أربعة أيام من وقوع الحادثة، وذلك حين لاحظ وكيل المتحف المصري، واخصائى ترميم بالمتحف، اختفاء الأسوارة الذهبية من داخل خزينة حديدية بمعمل الترميم داخل المتحف. وبعد التحريات تبين أن مرتكبة الواقعة إخصائية ترميم بالمتحف المصري، وأنها قامت بسرقتها بأسلوب «المغافلة» وقيامها بالتواصل مع أحد التجار من معارفها والذى يمتلك محل فضيات بمنطقة السيدة زينب، حيث باعها لمالك ورشة ذهب مقابل 180 ألف جنيه، وقام الأخير ببيعها لعامل بمسبك الذهب بمبلغ 194 ألف جنيه، والذى قام بصهرها ضمن مصوغات أخرى لإعادة تشكيلها. حيث جرى تقنين الإجراءات وضبط المذكورين الذين اعترفوا بارتكاب الواقعة. من جانبها كشفت النيابة العامة فى 21 سبتمبر تفاصيل أكثر عن الواقعة، إذ أشارت لوجود مخالفات فى إجراءات تسليم وتسلم القطع الأثرية داخل المتحف المصري، حيث تبين للجنة المختصة التى قامت النيابة العامة بندبها لإعداد تقرير حول الواقعة برصد مخالفة ضوابط تنظيم العمل بمخازن الآثار المُعتمدة من اللجنة الدائمة للآثار المصرية خلال عام 2023، وذلك بشأن إجراءات تسليم وتسلم القطع الأثرية؛ إذ اقتصر الأمر على إثبات الأثر بمحضر تحركه دون أى توقيعات بالتسليم أو التسلم، فضلًا عن عدم جرد خزانة المعمل بصفة يومية؛ لذلك أوصى التقرير بإعداد سجل خاص بحركة الأثر فى المعمل، وآخر للخزانة مع استيفاء التوقيعات بهما، وكذلك منع دخول الحقائب الشخصية برفقة المرممين وتفتيشهم عند الخروج، وأيضًا تركيب آلات تصوير داخل المعمل. وحتى لا تتكرر الواقعة قدم مجموعة من الأثريين والمهتمين بالتراث مجموعة من المطالب خلال الفترة المقبلة، منها: مثلًا ما اقترحه الدكتور طارق فرج الباحث فى علم المصريات والذى يرى ضرورى مراجعة الإجراءات التى يجرى اتخاذها فى التعامل مع المناطق الأثرية ككل. يقول عنها: يجب أولًا تركيب ألواح زجاجية غير قابلة للكسر بهدف تغطية جميع نقوش ورسوم المقابر والمعابد للحفاظ عليها من عبث الزوار. وعن واقعة الأسورة وصف فرج بيان الداخلية بالمتماسك إذ رفض دعم الروايات المشككة فى الروايات الرسمية. قائلًا: الحقيقة التى لاتقبل الشك فالسوار ذهب إلى غير رجعة وضاع إلى الأبد، وقد تم صهره فعلًا وصار سبيكة مدموغة؛ لذلك وجب على المسئولين استرجاعها إذا لم تكن قد ضاعت هى الأخرى. ويكمل: يمكن إعادة تشكيل القطعة ووضع خرزة بديلة، نظرًا لوجود نموذج آخر يمكن من خلاله الاسترشاد به، ومن ثم عرضها بعد إضافة بيان ورقى يشير إلى أنه جرى إعادة ترميمها. كما طالب أيضًا بتوفير منظومة متكاملة من كاميرات المراقبة من أحدث طراز داخل وخارج كافة المواقع الأثرية، بجانب ضرورة التخلص من نظام الغفراء القديم، وتوفير منظومة أمنية تعتمد على أكفأ رجالات الشرطة. وطالب فرج بمراجعة مرتبات العاملين بمجال الآثار والسياحة وتحسين أحوالهم بما يتناسب مع غلاء المعيشة. وعن المعارض الخارجية طالب بإلغائها قائلاً: «يجب إلغاء المعارض الخارجية أولًا لأن الآثار تتعرض للتلف والسرقة خاصة القطع الفريدة ولدينا سوابق، وثانيًا لأن المردود المادى ليس كبيرًا، وأيضًا درءًا للشبهات والمنافع الشخصية التى اعتاد البعض على الاستحواذ عليها». وعن الوضع داخل وزارة الآثار طالب بإعادة هيكلة الوزارة ووضع الكفاءات فى مواقعها الصحيحة وفصل الآثار عن السياحة وتعيين وزير من الأثريين. الدكتور محمد حمزة عميد كلية الآثار بجامعة القاهرة الأسبق، وعضو مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار الأسبق يتفق أيضًا مع ما طرحه طارق فرج إذ يؤكد فكرة ضرورة فصل وزارة السياحة عن الآثار خلال الفترة المقبلة. «يجب فض الاشتباك بين الآثار والسياحة وبين الوزارات الأخرى، كالثقافة، والأوقاف، هذا بالإضافة لاستحداث قانون الآثار والتراث الموحد، وأن يكون التراث تابعًا لجهة واحدة وهى الآثار؛ وبالتالى سهولة محاسبتها». وطالب أستاذ الآثار الإسلامية بتغيير اللوائح المالية للعاملين فى الآثار، هذا بالإضافة لتغيير أعضاء اللجان فى الوزارة وكذلك أعضاء مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار». خطة لإدارة التراث الدكتور فكرى حسن أستاذ المصريات بجامعة لندن وواشنطن يرى أن واقعة السرقة الأخيرة بمثابة جرس إنذار لذلك يرى ضرورة وضع خطة قومية للاهتمام بالتراث وعدم التعامل مع الآثار كتحفٍ وأنتيكات، وكنوز، أو حتى سلع للتسويق السياحى وأن يكون الهدف من الخطة تعميق الوعى بالحضارة المصرية وقيمها وعرضها كمحصلة مجتمع بشرى دينامكي، واستعراض كيف أنها حافظت على قيم جوهرية واستمرت من خلال نظرة كونية فلسفية كان لها أعظم الأثر على مسار الحضارات التالية. ويكمل: لتحقيق هذه الخطة نحتاج إلى مناقشات جادة تجمع كل المهتمين بالحضارة المصرية وعلماء الفلسفة والاجتماع والتاريخ والاقتصاد والسياحة والتنمية البشرية والإنسانيات من باحثين ومعلمين وإشراك أيضًا المفكرين والفنانين والأدباء لوضع رؤية متكاملة وخطة عمل لتأهيل كوادر جديدة فى كل المجالات المتعلقة بالحضارة المصرية لتفعيلها نحو مستقبل أفضل، إذ ربما يكون افتتاح المتحف المصرى الكبير مناسبة لطرح هذا المشروع القومي. وقف المعارض الخارجية الدكتور منصور بريك مدير عام منطقة آثار الأقصر الأسبق طالب هو الآخر بضرورة تحسين أحوال العاملين فى المجلس الأعلى للآثار، بالإضافة لمطالبته بوقف المعارض الخارجية بسبب ما وصفها بمشاكل الإجراءات الخاصة بعمليات نقل القطع إلى المعارض الخارجية وهو الأمر الذى يسهل -من وجهة نظره- عمليات السرقة إذ يمكن بسهولة استغلال الثغرات الموجودة خلال عملية نقل القطع وسرقتها مثلما حدث فى الواقعة الأخيرة، كما اتفق أيضًا مع ما طرحه محمد حمزة بشأن ضرورة تشكيل اللجنة الدائمة وكذلك لجان المجلس الأعلى للآثار التى يرى أنها لم تنجح فى إدارة المشكلات التى تعانى منها وزارة الآثار.