عكس خطاب بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حالة الاحباط واليأس الداخلي والخارجي الذى يعيشه رئيس الوزراء الأطول بقاءً في السلطة. فقد سبق الخطاب مشهد لافت تمثل في انسحاب عدد من الوفود من القاعة قبل أن يبدأ نتنياهو كلمته، في رسالة احتجاجية على سياسات إسرائيل في غزة، وهو مشهد جسّد بوضوح عزلة تل أبيب المتزايدة، وألقى بظلاله على نبرة نتنياهو الدفاعية ومحاولاته المستميتة لتبرير أفعال حكومته. لاول مرة يواجه نتنياهو ذلك الكم من الانتقادات الحادة من الداخل الإسرائيلي بالتزامن مع ضغوطًا غير مسبوقة من الخارج، و حاول عبر منبر الأممالمتحدة أن يعيد صياغة السردية الإسرائيلية على نحو يخاطب الغرب والعالم، ويبرّر الممارسات العسكرية في غزة، ويستدعي التعاطف الدولي عبر ربط الهجوم على إسرائيل بتاريخ الهولوكوست ..وكانت المحاولة فاشلة . اقرأ أيضا| وسائل إعلام إسرائيلية : خطة ال 21 بندا التي طرحها ترامب تنفذ فعليا الخطاب حمل في طياته خليطًا من الرسائل: بعضها موجه للداخل الإسرائيلي لامتصاص غضب أهالي الرهائن، وبعضها للغرب في محاولة لجرّه إلى معركة أوسع ضد ما سماه "التطرف الإسلامي"، إضافة إلى محاولات فاشلة لتبرئة إسرائيل من جرائم الإبادة والتهجير عبر سردية دعائية فضحت التناقضات الداخلية وأظهرت إسرائيل بمظهر الدولة التي تُدافع عن نفسها عبر اعتراف ضمني بارتكاب انتهاكات جسيمة. ومن خلال هذا الخطاب يمكن القول إن نتنياهو لم يقدّم رؤية جديدة أو مبادرة حقيقية للسلام، بل كرر خطاب القوة والإنكار، وهو ما يعمّق عزلة إسرائيل ويؤكد أن الأفق السياسي في المنطقة يزداد انسدادًا مع استمرار تجاهل الحقوق الفلسطينية المشروعة. انطوى البيان على مجموعة من النقاط التي يتعين الوقوف عندها، والتركيز في معناها ومغزاها، وذلك على النحو التالي: العداء مع ايران بالنسبة لايران، فقد اشار نتنياهو الى انه يجب عدم السماح لإيران بإعادة بناء قدراتها النووية العسكرية، وانه يتعين القضاء بالكامل على مخزون ايران من اليورانيوم المخصب. استدعاء مظلومية الهولوكوست تضمن البيان إشارة إلى انه في السابع من أكتوبر، نفّذت حركة حماس أسوأ هجوم على اليهود منذ الهولوكوست، حيث يحاول نتنياهو من خلال تلك العبارة، وغيرها من العبارات المماثلة بالبيان، تصوير الأمر وكأن "اليهود"، وليس الاسرائيلين، مستهدفين من جانب أعداء اسرائيل بالمنطقة الذين وصفهم في اجزاء من البيان بالتطرف الإسلامي، وهو توجه خطير من جانب نتنياهو في محاولة منه لخلق حالة عداء بين العالم الغربي وبين من وصفهم بالبرابرة أو التطرف الإسلامي. اقرأ أيضا| مظاهرات حاشدة بنيويورك خلال خطاب نتنياهو تطالب بإنهاء الحرب في غزة حاول نتنياهو في اكثر من موضع بالبيان ترسيخ انطباع بأن اسرائيل والغرب لديهما نفس العدو، وأن ذلك العدو، والذي وصفه بالإسلام الراديكالي، يستهدف الغرب كإستهدافه لاسرائيل، وأن اسرائيل تقوم بمواجهته نيابة عن الغرب المتحضر، وبالتالي فانه من المستغرب والخطأ قيام زعماء بعض الدول الغربية بانتقاد اسرائيل فيما تقوم به تحقيقا لهذا الغرض. الهجوم على حلفاءه الغربيين هاجم نتنياهو قادة الدول الغربية المنتقدة لاسرائيل، واصفاً اياهم بالقادة الضعفاء الذين يرضخون للشر بدلًا من دعم اسرائيل التي يحرس جنودها الشجعان أبوابهم من البرابرة الذين يخترقون الأبواب بالفعل (مشيراً ضمناً إلى المهاجرين العرب) ، مضيفاً ان هؤلاء القادة لن ينجوا من العاصفة الإسلامية عن طريق التضحية بإسرائيل. رسائل لاسر الرهائن وجه نتنياهو من خلال بيانه رساله إلى الرهائن الاسرائيلين لدى حماس عبر مكبرات للصوت تم وضعها في غزة، حيث ذكر "أبطالنا الشجعان، هذا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يخاطبكم مباشرة من الأممالمتحدة. لم ننسكم، ولا حتى لثانية واحدة، شعب إسرائيل يقف إلى جانبكم، لن نتراجع، ولن نرتاح، حتى نعيدكم جميعًا إلى الوطن". وتعتبر تلك الرسالة موجهة في الاساس للداخل الاسرائيلي، في محاولة لامتصاص غضب أهالي الرهائن، وللمجتمع الدولي باعتزام اسرائيل مواصلة عملياتها إلى حين الإفراج عن الرهائن. اقرأ أيضا| نتنياهو في الأممالمتحدة: قيام دولة فلسطينية «انتحارا» لإسرائيل بالنسبة لحماس، فقد اشار نتنياهو إلى أن ما تبقّى من فلول حماس يتحصّنون في مدينة غزة، ولهذا السبب فإنه يجب على اسرائيل أن تنهي المهمة (القضاء على حماس) بأسرع ما يمكن. مبادرة ترامب ..طوق النجاه الاخير تضمن البيان كذلك إشارة الى انه إذا وافقت حماس على مطالب اسرائيل، فانه يمكن أن تنتهي الحرب فورًا، واضاف نتنياهو ان غزة ستُجرّد من السلاح، وستحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية العليا، وسيتم إنشاء سلطة مدنية سلمية من قبل سكان غزة وآخرين ملتزمين بالسلام مع إسرائيل، وهي الطلبات التي تتفق في مضمونها الى حد ما مع طرح الرئيس ترامب، مع التأكيد على احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية العليا. ووجه نتنياهو في البيان رسالة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية (سواء للرئيس ترامب/ وبشكل أكبر للرأي العام الأمريكي) محاولا تبرير الممارسات الاسرائيلية، حينما افترض وقوع هجوم على أمريكا يماثل الهجوم الذي تعرضت له إسرائيل في السابع من أكتوبر، طارحا التساؤل عما ستفعله الولاياتالمتحدة انذاك ؟ وهل من المتصور أن تترك الولاياتالمتحدة النظام المسئول عن الهجوم قائمًا؟ مؤكداً في هذا الصدد أن الولاياتالمتحدة كانت ستقضي على ذلك النظام الإرهابي وتضمن ألا تهدد مثل هذه الوحشية أمريكا مرة أخرى، موضحاً أن هذا بالضبط ما تفعله إسرائيل في غزة، حيث تقضي على نظام حماس الإرهابي وتضمن أن وحشيته لن تهدد إسرائيل مرة أخرى، مشيراً إلى أن هذا ما تقوم به اسرائيل، وهذا ما ستفعله أي حكومة تحترم نفسها. وفي محاولة من نتنياهو لنفي تهمة ارتكاب اسرائيل لجريمة الابادة، استخدم نتنياهو في البيان عدة حجج، وفي واقع الأمر تدين اسرائيل اكثر من تبرئتها، حيث أشار إلى انه على مدار ثلاثة أسابيع، ألقت إسرائيل ملايين المنشورات، وأرسلت ملايين الرسائل النصية، وأجرت عددًا لا يُحصى من المكالمات الهاتفية لحثّ المدنيين على مغادرة مدينة غزة قبل أن تتحرك القوات العسكرية الاسرائيلية، وأن اسرائيل تحاول إخراج الفلسطينيين، الا أن حماس تحاول إبقاءهم في الداخل، وانه على الرغم من تهديدات حماس، استجاب ما يقرب من 700,000 من سكان غزة، أي ما يقارب ثلاثة أرباع المليون، لنداءات اسرائيل وانتقلوا إلى مناطق آمنة، وللتدليل على حسن نوايا اسرائيل، استفسر نتنياهو عما اذا كان النازيون قد طلبوا من اليهود ان يخرجوا؟ الاعتراف بجرائم الحرب وبتحليل ما ذكره نتنياهو في هذا الموضع، يتضح ان ما اشار اليه في البيان يعتبر اعترافا صريحا بارتكاب اسرائيل جريمة ضد الانسانية وجريمة حرب. اضافة الى ذلك، شبه نتنياهو ما تقوم به اسرائيل من محاولة تحريك الفلسطينيين بما قام به النازي ضد اليهود (وشهد شاهد من أهلها) الا ان الفارق بين اسرائيل الرحيمة والنازي الطاغي - على حد قول نتنياهو - هو ان إسرائيل أخطرت الفلسطينيين بشكل مسبق بضرورة الرحيل. يعني اعتراف بأن افعال اسرائيل تماثل افعال النازي. وفي ذات الاطار، ودفاعاً عن اسرائيل من تهمة الضلوع في تجويع الشعب الفلسطيني، ساق نتنياهو ادعاءات غير مؤسسة ولا تتفق مع المنطق، متجاهلاً ما اعلنته الأممالمتحدة عن وجود مجاعة في غزة، فضلاً عن تعمد اسرائيل عرقلة دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وأغلاقها جميع المعابر البرية واستهدافها سفنًا مدنية في البحر المتوسط كانت تحاول إيصال مساعدات إنسانية، وأخذاً في الاعتبار أن كل هذه الأفعال تعتبر انتهاكاً من جانب إسرائيل لالتزاماتها كقوة احتلال بموجب اتفاقية جنيف الرابعة. الاعتراف الدولى بفلسطين ..وقلب الحقائق وتعقيبا على مسألة اعتراف بعض الدول الغربية بدولة فلسطين، أشار نتنياهو في بيانه إلى أن الاعتراف بفلسطين يبعث برسالة مفادها أن "قتل اليهود يؤتي ثماره" ، وأن قرار هؤلاء القادة المُخزي سيُشجّع الإرهاب ضد اليهود وضد الأبرياء في كل مكان، مضيفاً أن الفلسطينين لا يؤمنون بحل الدولتين، ولم يؤمنوا به قط، وإنهم لا يريدون دولة بجانب إسرائيل، بل يريدون دولة فلسطينية بدلًا من إسرائيل، مشيرا إلى أن الفلسطينيين كانت لديهم فعليا دولة في غزة، فماذا فعلوا بها؟ ويتجاهل نتنياهو في هذا الصدد عدداً من الحقائق، منها 1- اعلان أبو مازن، عدة مرات وآخرها في مؤتمر حل الدولتين الذي عقد بنيويورك يوم 22 سبتمبر 2025، من الاستعداد للاعتراف بدولة إسرائيل، واقامة علاقات معها بمجرد اعترافها بالدولة الفلسطينية وإقامتها على حدود عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، وما ذكره من عدم السعي لمحو إسرائيل، بل للعيش بجانبها بسلام وكرامة وسيادة. 2- حقيقة أن الدولة الفلسطينية حق قانوني بموجب القانون الدولي، وليست مكافأة أو تنازلًا. 3- أن اعتراف دول مثل المملكة المتحدة وكندا وأستراليا وفرنسا بدولة فلسطين يعكس التزامًا بحل الدولتين كونه السبيل الوحيد لتحقيق السلام الدائم، وليس تأييدًا للعنف. وفيما يتعلق بما ذكره نتنياهو من أن غزة كانت فعليًا دولة فلسطينية، واختارت قيادتها العنف، فانه تلاعب مفضوح بالكلمات من جانب نتنياهو، أخذاً في الاعتبار أن حركة حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، وأن غزة لم تكن أبدا الدولة الفلسطينية، وأن اسرائيل كانت داعمة لحماس لترسيخ الانقسام الفلسطيني. وفي اطار دحضه لفكرة الموافقة على اقامة دولة فلسطينية، اشار نتنياهو إلى ان اقامة دولة فلسطينية هي فكرة جنونية ولن تقوم بها اسرائيل، وان هذه هي إرادة الغالبية العظمى من الاسرائيليين، مشيرا في ذات السياق إلى أن السلطة الفلسطينية فاسدة (للتدليل على عدم وجود طرف فلسطيني قادر على تولي مسؤولية الدولة)، وان السلطة تستخدم نفس الكتب المدرسية التي تستخدمها حماس، وتعلم الأطفال كراهية اليهود والسعي لتدمير الدولة اليهودية، مضيفاً انه عندما كانت بيت لحم، مسقط رأس السيد المسيح، تحت السيطرة الإسرائيلية، كان 80٪ من سكانها من المسيحيين، لكن منذ أن تولت السلطة الفلسطينية السيطرة، انخفض هذا العدد إلى أقل من 20٪. ومن الواضح ان تلك الادعاءات المغلوطة من جانب نتنياهو تجاهلت عدة نقاط، اهمها تعهد السلطة الفلسطينية بإجراء إصلاحات، فضلاً عن ان الشعب الفلسطيني به مكون اساسي من المسيحيين، بخلاف الحال بالنسبة لإسرائيل التي تُعرّف نفسها في "قانون القومية" الذي أُقرّ عام 2018 بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، وتمنح اليهود حقًا حصريًا في تقرير المصير الوطني داخلها، وتُعطي الأفضلية لليهود في الهوية القومية والسياسات العامة. اضافة الى ما تقدم، فإن إقامة الدولة الفلسطينية ليس قرارًا إسرائيليًا، بل هو في الأصل القرار 181 الصادر عن الأممالمتحدة، وهو القرار الذي أُنشئت بموجبه دولة إسرائيل، ومعها دولة فلسطينية وهناك قرار من أكثر من 145 دولة حول العالم تعترف بدولة فلسطين. وهذا يعني أن دولة فلسطين موجودة وقائمة بالفعل، لكنها واقعة تحت الاحتلال. وأن المأمول تحقيقه بأسرع وقت ممكن هو اعتراف دولة الاحتلال بها، من أجل تحقيق السلام في المنطقة، بما يعني إن إقامة الدولة الفلسطينية هو واقع تحقق بالفعل، ولا يتوقف على قرار من إسرائيل، وأنه يتبقى اعتراف اسرائيل وباقي الدول التي لم تعترف بها. وبالنسبة لفرص تحقق السلام في الشرق الاوسط، أشار نتنياهو إلى أن انتصارات إسرائيل على محور الإرهاب الإيراني فتحت آفاقًا للسلام كانت غير واردة قبل عامين، متناسيا أن السلام القائم على القوة ليس سلامًا حقيقيًا، وأنه لكي يكون السلام حقيقيًا ودائماً، يجب أن يكون عادلًا، ومُرضيًا للأطراف المعنية، وغير مفروض على أيٍّ منها. ولنتذكر في هذا الصدد على سبيل المثال الاتفاق الذي تم التوصل اليه مع المانيا عند انتهاء الحرب العالمية الثانية والذي كان مجحفا لالمانيا من وجهة نظرها مما تسبب في اندلاع الحرب العالمية الثانية. وارتباطا بشكل منطقة الشرق الاوسط، أشار نتنياهو إلى اعتقاده أن الشرق الأوسط سيبدو مختلفًا جذريًا في السنوات القادمة، موضحاً أن كثيرين ممن يشنون الحرب على اسرائيل الان سيغيبون غدا، وسيحل محلهم صانعو السلام. وفي ذات السياق، اشار الى أن ما ذكره لن يكون أكثر صدقًا في أي مكان كما سيكون في إيران، موضحاً أن الشعب الإيراني الذي عانى طويلًا سيستعيد حريته، وسيجعل إيران عظيمة من جديد، وأن عهد الصداقة بين الشعبين الإسرائيلي والإيراني سيتجدد، بما يعود بالنفع على العالم بأسره. هذا، ويعكس تصريح نتنياهو في هذا الخصوص أن اسرائيل سوف تسعى لتغيير نظام الحكم في ايران في الفترة المقبلة. هل تخلى عن التهجير القسرى ؟ فيما يتعلق بمصر خلى بيان نتنياهو من اى اشارة لمصر صراحة ، كما لم يشر الى مسألة تهجير الفلسطينيين وذلك لا يعنى انه تخلى عن هدفه ولكن ربما اراد اخفاء نواياه تجاه مصر وهو ما يستدعى مزيدا الاستمرار فى حالة الردع والاستعداد لكل الاحتمالات . وفي المحصلة، شكّل انسحاب الوفود من قاعة الأممالمتحدة قبل خطاب نتنياهو رسالة سياسية بالغة الدلالة، أظهرت حجم الهوة بين إسرائيل والمجتمع الدولي، ورسّخت صورتها كدولة محاصرة سياسياً وأخلاقياً، بعدما تحوّلت سياساتها إلى عبء حتى على حلفائها التقليديين.