في ذكرى انتصارات أكتوبر، البحوث الإسلامية يطلق حملة "أمَّة لا تُقهَر" لغرس الانتماء الوطني    انطلاق أولى اجتماعات مناقشة اعتراض الرئيس على الإجراءات الجنائية    قبل إعلان الجدول الزمني، الخريطة المتوقعة لمرشحي الأحزاب بانتخابات النواب    ارتفاع الصادرات الزراعية المصرية إلى 7.5 مليون طن منذ بداية 2025    بداية العمل بالتوقيت الشتوي في مصر 2025.. الموعد والفرق بين مواعيد المحال التجارية    عيار 21 يقفز.. تعرف على أسعار الذهب اليوم في محلات الصاغة    استقرار نسبي في أسعار الفراخ بمحافظة المنيا يوم السبت 4 أكتوبر 2025 في المنيا    تعرف على أسعار الأسمنت اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 في المنيا    الإسكندرية تتوج بجائزة "Seoul" للمدن الذكية عن مشروع "إحياء منطقة طلمبات المكس"    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على تعزيز التعاون المشترك مع فرنسا    وزير الخارجية يتلقى اتصالا هاتفيا من نظيره الهولندي    رئيس الوزراء الكندي يلتقي مع ترامب في البيت الأبيض الثلاثاء المقبل    منتخب مصر يفوز على تشيلي ويحيي آماله في مونديال الشباب    مباريات اليوم السبت 4 أكتوبر 2025.. الأهلي والزمالك في صدارة الاهتمام وظهور محمد صلاح أمام تشيلسي    الزمالك في اختبار صعب أمام غزل المحلة لاستعادة صدارة الدوري    انخفاض الحرارة وسقوط أمطار.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس أكتوبر وتحذر من الشبورة    هيئة السكة الحديد تعلن مواعيد قطارات المنيا – القاهرة اليوم    بسم فئران.. التحقيق مع متهمين بتسميم كلاب في حدائق الأهرام    التضامن: فريق التدخل السريع تعامل مع 662 بلاغا واستغاثة خلال سبتمبر    دار الإفتاء توضح: حكم الصلاة بالحركات فقط دون قراءة سور أو أدعية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة قنا    «الصحة» تطلق برنامجًا تدريبيًا لرفع كفاءة فرق الجودة بالمنشآت الصحية    رئيس هيئة الرعاية الصحية يعلن نجاح أولى عمليات زراعة القوقعة بمستشفيات الهيئة في أسوان والسويس    وزير الخارجية يلتقي سفراء الدول الأفريقية المعتمدين لدى اليونسكو    مراسلات بدم الشهداء في حرب 1973.. حكاية المقاتل أحمد محمد جعفر.. الدم الطاهر على "الخطابات" يوثق البطولة ويؤكد التضحية .. الرسالة الأخيرة لم تصل إلى الشهيد لكنها وصلت إلى ضمير الوطن    رئيس الاتحاد يتكفل بإيواء وتعويض المتضررين من سقوط عقار غيط العنب بالإسكندرية    مواعيد مباريات اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 والقنوات الناقلة    إصابة 7 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بالطريق الدائري بالفيوم    8 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي على مدينة غزة وخان يونس    «الصحة» تطلق البرنامج التدريبي «درب فريقك» لتعزيز مهارات فرق الجودة بمنشآتها    اليوم.. محاكمة متهم بالانضمام لجماعة إرهابية في بولاق الدكرور    الخبراء يحذرون| الذكاء الاصطناعي يهدد سمعة الرموز ويفتح الباب لجرائم الابتزاز والتشهير    رغم تحذيراتنا المتكررة.. عودة «الحوت الأزرق» ليبتلع ضحية جديدة    سوما تكشف كواليس التعاون مع زوجها المايسترو مصطفى حلمي في ختام مهرجان الموسيقى العربية    هل إجازة 6 أكتوبر 2025 الإثنين أم الخميس؟ قرار الحكومة يحسم الجدل    اللواء مجدى مرسي عزيز: دمرنا 20 دبابة.. وحصلنا على خرائط ووثائق هامة    ثبتها حالا.. تردد قناة وناسة بيبي 2025 علي النايل سات وعرب سات لمتابعة برامج الأطفال    عبد الرحيم علي ينعى خالة الدكتور محمد سامي رئيس جامعة القاهرة    الجيش المصري.. درع الأمة في معركة الأمن والتنمية    فلسطين.. طائرات الاحتلال المسيّرة تطلق النار على شرق مدينة غزة    «نور عيون أمه».. كيف احتفلت أنغام بعيد ميلاد نجلها عمر؟ (صور)    بيطري بني سويف تنفذ ندوات بالمدارس للتوعية بمخاطر التعامل مع الكلاب الضالة    مباشر كأس العالم للشباب - مصر (0)-(1) تشيلي.. الحكم يرفض طلب نبيه    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الأقصر    عاجل - حماس: توافق وطني على إدارة غزة عبر مستقلين بمرجعية السلطة الفلسطينية    نسرح في زمان".. أغنية حميد الشاعري تزيّن أحداث فيلم "فيها إيه يعني"    الخولي ل "الفجر": معادلة النجاح تبدأ بالموهبة والثقافة    «عايزين تطلعوه عميل لإسرائيل!».. عمرو أديب يهدد هؤلاء: محدش يقرب من محمد صلاح    لبحث الجزر النيلية المعرضة للفيضانات.. تشكيل لجنة طوارئ لقياس منسوب النيل في سوهاج    تفاعل مع فيديوهات توثق شوارع مصر أثناء فيضان النيل قبل بناء السد العالي: «ذكريات.. كنا بنلعب في الماية»    هدافو دوري المحترفين بعد انتهاء مباريات الجولة السابعة.. حازم أبوسنة يتصدر    "مستقبل وطن" يتكفل بتسكين متضرري غرق أراضي طرح النهر بالمنوفية: من بكرة الصبح هنكون عندهم    سعر الجنيه الذهب في السوق المصري اليوم يسجل 41720 جنيها    تفاصيل موافقة حماس على خطة ترامب لإنهاء الحرب    محيط الرقبة «جرس إنذار» لأخطر الأمراض: يتضمن دهونا قد تؤثرا سلبا على «أعضاء حيوية»    الشطة الزيت.. سر الطعم الأصلي للكشري المصري    هل يجب الترتيب بين الصلوات الفائتة؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم الجمعه 3 أكتوبر 2025 اعرفها بدقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تصاعد التوتر بين ماكرون ونتنياهو
نشر في البوابة يوم 01 - 09 - 2025

ليست المرة الأولى التى تشهد العلاقات الفرنسية الإسرائيلية هذا النوع من التوتر وملف معاداة السامية كان دائما متواجدا فى الخطاب الإسرائيلى فى سياق حساس بشكل خاص لأن فرنسا موطن لأكبر جالية يهودية فى أوروبا الغربية، ويبلغ عدد أفرادها نحو 700 ألف شخص كلهم مؤيد لإسرائيل، فضلًا عن تواجد أكبر جالية عربية إسلامية فى أوروبا أكثر من 15 مليون نسمة، كلهم مؤيدون لمصير الفلسطينيين ومتضامنون مع أهل غزة.
دفعت حرب إبادة غزة وحجم الخسائر البشرية والدمار الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون الى وصف استمرار العمليات الحربية الاسرائيلية بالفضيحة الانسانية وأنها لم تعد دفاعا عن النفس الذى أيدته فرنسا بعد عملية طوفان الأقصى وقدمت على أساسه الدعم لإسرائيل. وأطلق حملة دبلوماسية عالمية للاعتراف بالدولة الفلسطينية ما أثار غضب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو المتخوف من انهيار الدعم الدولى لبلاده فأطلق حملة شعواء على فرنسا متهما إياها بمعاداة السامية وبتأجيج الكراهية ضد اليهود بنية الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبأنه يكافئ الإرهابيين وقد أثار هذا الاتهام العنيف ردًا لا يقل حزمًا من قصر الإليزيه.
خلقت الحملة التى يقودها نتنياهو على فرنسا جهودا دبلوماسية دولية وإعلامية لكنها لم ولن تؤثر على السياسة الداخلية ولا الخارجية الفرنسية فالرئيس ماكرون تحرر من جاذبية وتأثير اللوبى الصهيونى بعد أن أشرفت ولايته الرئاسية الثانية على الانتهاء ( يتبقى سنتان) فلم يعد مرشحا للرئاسة لكن اللوبى الصهيونى يحاول شق الصف الداخلى والتأثير على الانتخابات التشريعية القادمة خصوصا على الأحزاب اليمينية الموالية لهم بعد أن خسر معسكر اليسار بكل أطيافه وأحزابه منذ سنوات طويلة.
خلاف الإليزيه ورئيس الوزراء
تلقى الرئيس ماكرون يوم الثلاثاء، 19 أغسطس، رسالة من بنيامين نتنياهو، اتهمه فيها قائلًا: إن تصريحات الرئيس الفرنسى ليست دبلوماسية ودفعت حماس للإصرار على موقفها، مضيفا «دعوتك للاعتراف بالدولة الفلسطينية استرضاء لحماس، وتشجع الذين يهددون اليهود فى فرنسا، كما تغذّى الكراهية فى شوارعكم ضد اليهود وتُؤجج نار معاداة إسرائيل. إنها تُكافئ إرهاب حماس، وتُعزز رفضها إطلاق سراح الرهائن». وكمثال مُناقض، أشاد نتنياهو بالرئيس الأمريكى دونالد ترامب على "مكافحته" للجرائم المعادية للسامية و"لحماية اليهود الأمريكيين"». كما دعا الرئيس الفرنسى إلى "استبدال الضعف بالعمل، والتهدئة بالإرادة، وذلك قبل تاريخ واضح: رأس السنة العبرية، 23 سبتمبر 2025". وكتب بنيامين نتنياهو: "أشعر بالقلق إزاء التصاعد المقلق لمعاداة السامية فى فرنسا، وإزاء عدم اتخاذ حكومتكم إجراءات حاسمة لمواجهتها. فى السنوات الأخيرة، اجتاحت معاداة السامية المدن الفرنسية". وتابع: "منذ تصريحاتكم العلنية التى تهاجم إسرائيل وتشير إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، ازدادت هذه الظاهرة". فى رسالته، سرد نتنياهو عدة حوادث وقعت مؤخرًا، منها نهب مدخل مكاتب شركة الطيران الإسرائيلية "العال" فى باريس، والاعتداء على رجل يهودى فى ليفرى - جارجان، و"الاعتداء على حاخامات فى شوارع باريس". وأكد أن "هذه الحوادث ليست معزولة، بل هى وباء متفش فى بلادكم".
تصاعد التوتر بين إسرائيل وفرنسا
توترت العلاقات بين فرنسا والدولة اليهودية منذ إعلان إيمانويل ماكرون اعترافه بالدولة الفلسطينية فى سبتمبر...وظهر خلاف استراتيجى بين توجهين، الأول لإيمانويل ماكرون الذى يود دخول التاريخ وتتويج جهود كل رؤساء فرنسا المساندين للقضية الفلسطينية وتحقيق العدالة والشرعية الدولية ببناء دولة فلسطين، والثانى لبنيامين نتنياهو الذى يرى أن ماكرون بدا خطرا على استراتيجيته وعلى أمن إسرائيل القومى.. وبرزت على السطح مطالبات بتجميد التأشيرات، تهديدات بإغلاق القنصلية الفرنسية فى القدس، رسائل تحريضية إعلام مسعور ضد فرنسا خصوصا ضد شخص الرئيس الفرنسي.. حتى طالبه أصدقاء إسرائيل فى الطبقة السياسية الفرنسية من أحزاب المعارضة بالاستقالة لكن الرئيس رفض إلا أن يتم ولايته الثانية بجنى ثمرة مساعى أسلافه فيما يخص الحقوق الفلسطينية.
لقد دخلت العلاقات بين فرنسا وإسرائيل مرحلة توتر جديدة، هذه المرة بسبب قضية معاداة السامية شديدة الحساسية. فى رسالة رسمية لاذعة موجهة إلى الرئيس الفرنسي، اتهم بنيامين نتنياهو إيمانويل ماكرون ب"تأجيج نار معاداة السامية" فى فرنسا بدعوته إلى الاعتراف الدولى بدولة فلسطين. وفعل رئيس الحكومة العبرية شبكة علاقاته الأمريكية عبر المسار الدبلوماسى من خلال السفير الأمريكى فى فرنسا، تشارلز كوشنر، والد صهر دونالد ترامب، جاريد كوشنر الذى بدوره نشر رسالة مفتوحة للرئيس الفرنسى ردد فيها، حجة بنيامين نتنياهو. قال: "إن التصريحات الفرنسية الأخيرة تُشوّه سمعة إسرائيل، والإشارات التى تُقرّ بدولة فلسطينية، تُشجّع المتطرفين، وتُؤجّج العنف، وتُعرّض الهوية اليهودية فى فرنسا للخطر". وأضاف: "اليوم، لم يعد هناك مجال للمراوغة: معاداة الصهيونية هى معاداة للسامية، نقطة على السطر". ووفقًا للسفير، "لا يمر يوم فى فرنسا دون أن يُهاجم اليهود فى الشوارع، وتُدمّر المعابد اليهودية والمدارس، وتُخرّب الشركات المملوكة لليهود. وتُشير وزارة الداخلية فى حكومتكم إلى أن رياض الأطفال استُهدفت بأعمال تخريب معادية للسامية".أعرب ممثل الولايات المتحدة فى فرنسا عن غضبه الشديد لأن "ما يقرب من نصف الشباب الفرنسيين يقولون إنهم لم يسمعوا قط عن الهولوكوست". وأضاف: "إن استمرار هذا الجهل يدفعنا إلى التشكيك فى المناهج الدراسية فى المدارس الفرنسية". وأشاد السفير الأمريكى فى فرنسا بإجراءات الرئيس دونالد ترامب فى هذا المجال وقدرته على "مكافحة معاداة السامية، طالما أن قادتنا لديهم الإرادة للتحرك"، وحثّ الرئيس الفرنسى على "التصرف بعزم".
غضب فى الإليزيه والكى دورسيه
ربط الاعتراف بفلسطين بمعاداة السامية مغالطة خطيرة ردّت وزارة الخارجية الفرنسية ( الكى دورسيه)، بعد سويعات من نشر هذه الرسالة، معلنةً استدعاء السفير الأمريكى: "فرنسا تنفى بشدة هذه الادعاءات الأخيرة". وأضافت: "ادعاءات السفير غير مقبولة، فهى تتعارض مع القانون الدولي، ولا سيما واجب عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، كما هو منصوص عليه فى اتفاقية فيينا لعام 1961 التى تنظم العلاقات الدبلوماسية".
فيما رفضت باريس هذا الاتهام رفضًا قاطعًا. عمل قصر الرئاسة الفرنسية (الإليزيه) على وصف تصريحات نتنياهو، بأنها «دنيئة قائمة على مغالطات»، مؤكدا أن الرسالة الهجومية لرئيس الوزراء الإسرائيلى «لن تمر دون رد»، وردّت بأن هذا التحليل "خاطئ وحقير ولن يبقى دون رد"، موضحةً أن رئيس الدولة سيقدم ردًا رسميًا مكتوبًا إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي. وأضاف قصر الإليزيه: "هذه الفترة تتطلب جدية ومسئولية، لا بلبلة وتلاعبًا"، مضيفًا أن "الجمهورية تحمى وستحمى دائمًا مواطنيها من أتباع الديانة اليهودية"، مذكرًا ب"حزم رئيس الدولة الشديد" تجاه مرتكبى الأعمال المعادية للسامية. وأكدت الرئاسة الفرنسية فى بيانها أن "العنف ضد الجالية اليهودية أمر غير مقبول. ولهذا السبب، بالإضافة إلى الإدانات، طالب رئيس الدولة بشكل منهجى جميع حكوماته منذ عام 2017 - وخاصة بعد هجمات حماس فى 7 أكتوبر 2023 - باتخاذ أقصى درجات الحزم تجاه مرتكبى الأعمال المعادية للسامية". وفى "معركتها ضد معاداة السامية"، تذكر فرنسا بإدراج تاريخ 12 يوليو فى تقويم الاحتفالات الوطنية، اعتبارًا من عام 2026، "بمناسبة الذكرى السنوية ال120 للاعتراف ببراءة الكابتن دريفوس".
فيما رد وزير الشئون الأوروبية الفرنسى بنيامين حداد، على رسالة رئيس حكومة إسرائيل وقال حداد، إن فرنسا لا تحتاج لتعلم دروس ضد معاداة السامية. وأكد حداد على أن «موضوع معاداة السامية الذى يسمم مجتمعاتنا الأوروبية، والذى شهدنا تسارعا فى الأعمال العنيفة المعادية للسامية منذ هجمات حماس فى السابع من أكتوبر 2023، لا يمكن استغلاله»، مشيرا إلى أن السلطات الفرنسية «كانت دائما فى حالة تعبئة شديدة ضد هذه الآفة ».
هذا التوتر الدبلوماسى يكشف عن فجوة متزايدة بين الموقفين الفرنسى والإسرائيلي، فى وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية على القوى الغربية لاتخاذ خطوات عملية تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية كمدخل إلى حل سياسى للصراع المستمر. ويؤكد الموقف الفرنسى أن باريس عازمة على الدفاع عن استقلالية قرارها الخارجي، وعدم السماح بتشويه توجهاتها السياسية أو ربطها باتهامات معاداة السامية.ويرى مراقبون أن الأزمة الراهنة قد تمثل بداية مرحلة غير مسبوقة من البرود فى العلاقات بين تل أبيب وباريس، بما ينعكس على مجمل المواقف الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية.
خلافات عميقة
بعد أن أبدى إيمانويل ماكرون تضامنه مع إسرائيل بعد 7 أكتوبر، نأى بنفسه عنها وزاد من انتقاداته لاستراتيجية الحكومة الإسرائيلية فى غزة. واستمرت أسباب الخلاف والنزاعات بين الطرفين، بدءًا من الخلاف حول توريد الأسلحة، وانتقاد المأساة الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية، التى وصفها ب"العار" و"الفضيحة"، وصولًا إلى انتقاد سياسة الاستيطان فى الضفة الغربية.
فى نهاية يوليو، أعلن إيمانويل ماكرون أن فرنسا ستعترف بدولة فلسطين فى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر. وفى وقت لاحق، فيما يدعوه نتنياهو إلى التخلى عن فلسطين قبل هذا التاريخ الرمزي. لكن ماكرون دعا أكثر من اثنتى عشرة دولة غربية، منها كندا وأستراليا، دولًا أخرى حول العالم إلى أن تحذو حذوها.
إسرائيل تهدد فرنسا
لإجبار فرنسا على التراجع، أفادت التقارير أن الحكومة الإسرائيلية تُعدّ ردًا دبلوماسيًا واسع النطاق. وذكرت أن إغلاق القنصلية الفرنسية العامة فى القدس، فى حال اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية، مطروح على الطاولة. ومن الإجراءات الانتقامية الأخرى تأميم الممتلكات الفرنسية فى القدس. أفادت تقارير أن وزير الخارجية الإسرائيلى جدعون ساعر أوصى بنيامين نتنياهو بإغلاق التمثيل الفرنسى ردًا على إعلان الاعتراف بدولة فلسطين.
ووفقًا لمقال نُشر فى صحيفة "إسرائيل اليوم" الموالية للحكومة، أوصى وزير الخارجية الإسرائيلى جدعون ساعر بنيامين نتنياهو بإغلاق القنصلية الفرنسية فى القدس. ويُقدّم هذا التهديد، الذى لم تنفه السلطات الإسرائيلية، على أنه رد على القرار الفرنسى بالاعتراف قريبًا بدولة فلسطين. ولن يكون إغلاق هذه القنصلية أمرًا هينًا، نظرًا لتاريخها الخاص ورسالتها منذ إنشائها فى القرن السادس عشر. وأشار مصدر دبلوماسى إلى أن وجود هذه القنصلية الفرنسية العامة لطالما كان مصدر توتر. يشعر القادة الإسرائيليون بالاستياء من أن هذا التمثيل، الذى كان مسئولًا عن العلاقات مع السلطة الفلسطينية منذ إنشائها بعد اتفاقيات أوسلو (1993)، يعمل من القدس، بينما تُقلص علاقاته مع الدولة اليهودية إلى الحد الأدنى.

حرب السفراء
دخل كل من السفيرين الفرنسى والإسرائيلى فى مشادات وجدل بسبب موقف بلديهما من القضية الفلسطينية، فقد انتقد السفير الفرنسى لدى إسرائيل فريديريك جورنيس، الحكومة الإسرائيلية فى هجومها على فرنسا ودافع عن قرار بلده بالاعتراف بدولة فلسطين حيث نشر مقالا فى صفحة الرأى بصحيفة هآرتس قال فيه:
"قرار بلدى أبعد ما يكون عن "انتصار على الإرهاب"." وقال "أثار إعلان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عن اعتراف فرنسا الوشيك بدولة فلسطينية جدلًا واسع النطاق، مصحوبًا بانتقادات حادة فى إسرائيل. أودّ أن أشرح لماذا لا يُعتبر هذا القرار الذى اتخذته بلدى "انتصارًا على الإرهاب"، بل على العكس، يُمثل استثمارًا فى أمن إسرائيل والمنطقة بأسرها على المدى الطويل." وقد حققت فرنسا نجاحًا دبلوماسيًا غير مسبوق فى نيويورك: عزل حماس تمامًا على الساحة الدولية. ولأول مرة منذ 7 أكتوبر، قُدّمت وثيقةٌ إلى الأمم المتحدة، بمبادرةٍ من تحالفٍ من الدول الإسلامية والعربية. أدانت هذه الدول - بما فيها المملكة العربية السعودية ومصر والأردن وحتى قطر - الجماعة الإرهابية صراحةً، ودعت إلى نزع سلاحها واستبعادها من أى اتفاقٍ مستقبلى بشأن غزة. والأهم من ذلك، أن هذه الدول أعلنت فى النص النهائى الذى اعتُمد فى ختام المؤتمر عزمها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل والمشاركة، إلى جانب إسرائيل ودولة فلسطينية مستقبلية، فى منظمة إقليمية مشتركة. ومع ذلك، فإن تغيير موقف هذه الدول، التى ظلت على الحياد قبل عام واحد فقط، وهى الآن مستعدة، إلى جانب العديد من الدول الأوروبية، للالتزام باستقرار غزة وإعادة إعمارها دون حماس، ينبع أيضًا من حاجتها الماسة لإنهاء الكارثة الإنسانية فى قطاع غزة. ولن تفعل ذلك تحت وطأة الهجوم، وبالتأكيد ليس تحت الاحتلال".
وقال:" أعلم أن الكثيرين فى إسرائيل يرفضون تصديق هذه الأرقام، متهمين إياها بالتلاعب، لكن رقم 5000 طفل فلسطينى دون سن الخامسة الذين دخلوا مستشفى غزة فى يوليو بسبب سوء التغذية الحاد هو رقم حقيقي. إن تدمير مدن بأكملها، كما يظهر فى صور الأقمار الصناعية، أمر حقيقى للغاية. والهلع الواسع النطاق الذى يدفع الناس إلى مراكز الإغاثة ليس خيالًا.
إن الكارثة الإنسانية الراهنة فى غزة تُغذى المتطرفين، وتُهيئ بيئة خصبة للإرهاب المُستقبلي، وتُعزز حملة التشهير ضد إسرائيل والموجة الجديدة من معاداة السامية، سواءً فى بلدى أو حول العالم - وهو واقع يُرعبني. إنه يُعيق أى إمكانية للمصالحة.
اتخذت فرنسا مؤخرًا خطوات ملموسة بنقل أكثر من 40 طنًا من المساعدات الإنسانية جوًا من الأردن. كنا مُضطرين لفعل الشيء نفسه قبل عام ونصف، ولكن آنذاك - كما هو الحال الآن - من المستحيل إطعام مليونى شخص جوًا فقط، ناهيك عن توفير الرعاية الطبية والمأوى لهم. إن إعادة فتح جميع المعابر البرية وتهيئة ظروف آمنة فى غزة، بما يسمح بتوزيع المساعدات بشكل مُنظم، هو وحده الكفيل بتلبية الاحتياجات الهائلة ومنع سفك الدماء والمآسى التى نشهدها يوميًا فى طوابير توزيع الغذاء.
إن وقف إطلاق النار الفورى ضروريٌّ لتحقيق هذا الهدف. وهو أيضًا شرطٌ أساسيٌّ لإطلاق سراح جميع الرهائن. لقد روعتنا صور روم براسلافسكى وإفياتار ديفيد، الرهينتين الشابين فى مهرجان نوفا الموسيقى فى 7 أكتوبر، واللذين يُذكّر ظهورهما بمشاهد من تحرير معسكرات الموت. إنهما لا يزالان على قيد الحياة ويمكن إنقاذهما. الطريق إلى الأمام هو التفاوض.
لا يمكن مناقشة وقف إطلاق نار دائم دون بلورة رؤية مشتركة لقطاع غزة ما بعد الحرب، رؤيةٌ تستثنى حماس، وفقًا لفرنسا والدول العربية والإسلامية الموقعة على إعلان نيويورك. وهذا ينطبق على جميع الأراضى التى يعيش فيها الفلسطينيون والتى سيبنون فيها دولتهم. ستكون الإصلاحات ضرورية: استئصال ثقافة الكراهية من الداخل، ووضع القيادة فى أيدى أولئك الذين يرفضون الإرهاب ويعترفون بالسلام مع إسرائيل.
هل يبدو هذا خيالًا؟ لا أعتقد ذلك. يكمن الوهم الحقيقى فى الاعتقاد الخاطئ بأن الوضع يمكن حله بالقوة وحدها، دون حل سياسى ذى مصداقية. إن قوات الاحتلال ليست هى التى ستقضى على الإرهاب من قلوب الناس، بل القادة الموثوق بهم، المستمدون من أبناء الشعب نفسه، والمصممون على احتواء المتطرفين، واستعادة الخدمات التى يستحقها مواطنوهم، وإقامة علاقات آمنة مع جيرانهم، وهى العلاقات التى سيكونون مسئولين عن الحفاظ عليها.
لذا، فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس "مكافأةً للإرهاب"، بل رسالةٌ للفلسطينيين: لقد حان الوقت لتولى زمام مستقبلهم، برؤية واقعية ووسائل سلمية، وسندعمهم فى هذا المسعى. إنه رافعةٌ دبلوماسيةٌ استخدمناها لحشد الدول الغربية والإسلامية والعربية فى جهود ما بعد الحرب، بهدف التوصل إلى حلٍّ سريع ودائم - لا عقودًا أخرى من الجمود - ولتهميش المتطرفين بشكل دائم.إن إعادة فتح جميع المعابر البرية وتهيئة ظروفٍ آمنة فى غزة، بما يسمح بتوزيعٍ منظمٍ للمساعدات، هو وحده الكفيل بتلبية الاحتياجات الهائلة ومنع إراقة الدماء والمآسى التى نشهدها يوميًا فى طوابير توزيع الغذاء.بتوفير أفقٍ سياسيٍّ موثوقٍ للفلسطينيين المسؤولين، فإننا نعزز حجة حماس الرئيسية: أن مثل هذا الوضع غير موجود. وفى الوقت نفسه، فإننا نعزز شرعية إسرائيل كدولةٍ ديمقراطيةٍ يحق لها العيش بسلامٍ مع جيرانها، ونسعى جاهدين لتحقيقها.
لا ينبغى أن تخدع مزاعم حماس الأخيرة بتحقيق نصر دبلوماسى مزعوم عقب الاعتراف بالدولة الفلسطينية أحدًا. لطالما كانت حماس، ولا تزال، العدو اللدود لحل الدولتين، لأنها تنكر حق إسرائيل فى الوجود. هذه هزيمة حقيقية للجماعة الإرهابية. يجب ألا ننخدع بخطابها الخادع أو ننجر إلى حرب لا نهاية لها، فهى فرصتها الوحيدة للبقاء.
مبادرتنا لا تُكافئ العنف، بل تُستثمر فى السلام والأمن فى وقتٍ تستعد فيه المنطقة له، مُهيئةً فرصةً فريدة. وقد اختارت فرنسا استخدام هذه الرافعة لبناء بديلٍ للحرب التى لا تنتهي. وبفضل أدواتنا الدبلوماسية ونفوذنا، بالإضافة إلى علاقاتنا فى المنطقة وموقعنا فى أوروبا، نحن فى وضعٍ جيدٍ للقيام بهذا الدور.
والآن، على الشعوب والدول المعنية اغتنام هذه الفرصة. أمام الإسرائيليين خيار: إذا أخذوا على محمل الجد اليد الممدودة لمن يقترحون السلام، يُمكنهم كسب الحرب وجعل السابع من أكتوبر يومًا يُمثل هزيمة البربرية. بعد ذلك، يجب علينا أن نُداوى الجراح ونُوجه أنظارنا نحو "تيكّون أولام": إصلاح العالم وتحسينه، تلك الرؤية الرائعة للعالم التى منحتها اليهودية للإنسانية. لماذا ترى باريس أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يُمثل رصيدًا لأمن إسرائيل؟
فى الأمم المتحدة، تشعر فرنسا بالارتياح لأنها نجحت فى عزل حماس دبلوماسيا، وذلك بفضل نص أيدته عدة دول عربية وإسلامية المملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن، وقطر يدين الحركة، ويدعو إلى نزع سلاحها، ويعرب عن رغبتها فى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
هذا الالتزام غير المسبوق مدفوعٌ أيضًا بالحاجة المُلِحّة لإنهاء الأزمة الإنسانية فى غزة. يُسلّط السيد جورنيس الضوء على حجم المأساة: 5000 طفل دون سن الخامسة دخلوا المستشفى بسبب سوء التغذية فى يوليو، ومدنٌ مُدمّرة، وطوابيرٌ طويلةٌ للحصول على مساعداتٍ غذائية... وضعٌ يُغذّى الإرهاب ويُغذّى معاداة السامية حول العالم.
أسقطت فرنسا جوًا أكثر من 40 طنًا من المساعدات من الأردن، لكن إعادة فتح المعابر البرية ووقف إطلاق النار وحدهما كفيلان بتلبية الاحتياجات والسماح بإطلاق سراح الرهائن. بالنسبة لباريس، يجب أن يكون وقف إطلاق النار مصحوبًا برؤية سياسية: دولة فلسطينية مستقبلية مُحرّرة من حماس ويقودها قادةٌ يرفضون العنف. ويؤكد أن تقديم منظور سياسى ذى مصداقية يعنى حرمان حماس من حجتها الرئيسية وتعزيز شرعية إسرائيل كدولة ديمقراطية تطمح إلى السلام. حماس، التى ترفض حل الدولتين، لا يمكنها ادعاء أى نجاح. يرى السفير أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يهدف إلى تهميش المتطرفين واغتنام فرصة فريدة لبناء سلام دائم، بدعم مشترك من الدول الغربية والعربية والإسلامية. ويخلص إلى أن أمام إسرائيل الآن خيار "جعل السابع من أكتوبر ذكرى هزيمة البربرية".
رد إسرائيل
فيما رد عليه سفير إسرائيل لدى فرنسا جوشوا زاركا فى اليوم التالى بمقال فى نفس الصحيفة قال فيه:
"أهنئكم على نشر مقال فى صحيفة هآرتس يشرح أسباب مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون للاعتراف ب"دولة فلسطين". يسعدنا أن صوت فرنسا مسموع هنا، بلغة الكتاب المقدس. ومع ذلك، ما زلتُ مندهشًا: لماذا تُقدّمكم وكالة فرانس برس ووسائل الإعلام الناطقة بالفرنسية على أنكم السفير الفرنسى لدى تل أبيب، مع أن كل طفل إسرائيلى يعلم جيدًا أن هذه المدينة الساحلية ليست عاصمة الدولة اليهودية؟ منذ حرب الأيام الستة عام 1967، وبعد وفاة الجنرال ديجول، أتابع العلاقات الفرنسية الإسرائيلية عن كثب حتى يومنا هذا. لقد قرأت باهتمام كبير المراسلات الرائعة بين مؤسس بلادنا، ديفيد بن جوريون، وشارل ديجول.
أنصحكم بإعادة قراءته. فى هذه الرسائل المتبادلة، يُعبَّر عن كل شيء باحترام وصداقة، ولكن دون مصطلحات مُعقَّدة؛ إنها وثيقة تاريخية استثنائية لا تزال صالحة حتى اليوم. إن الخطأ الكبير الذى ارتكبته فرنسا ودول أخرى هو الاعتقاد بأن زيادة الضغط على إسرائيل ستؤدى إلى تحسن الوضع. بل على العكس".
بصفتى إسرائيليًا مُحبًا للغة الفرنسية، أعترف أننى لا أفهم سياسة فرنسا المُزدوجة تجاه دولة إسرائيل. كثيرًا ما أتساءل بحزن: لماذا لا تُدرك هذه الدولة العظيمة التى تُمثِّلونها، عاصمة التنوير، أن حرب إسرائيل ضد البربرية والإرهاب الإسلامى تُطابق القيم العالمية، قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية والعالم الحر؟ تُسلِّطون الضوء على نهج رئيسكم باعتباره "استثمارًا" فى "الأمن طويل الأمد" لإسرائيل والمنطقة، وليس "انتصارًا لحماس". تقولون إن فرنسا حققت "عزلة دبلوماسية" لحماس فى الأمم المتحدة (هكذا).
أذكركم أن حماس فرع من جماعة الإخوان المسلمين. لذا، فإن العزلة الدبلوماسية لا تعنى انسحاب حماس النهائى من غزة... علاوة على ذلك، أشاد بمبادرتكم، وأكد أن "المقاومة المسلحة" وحدها هى التى تحقق المكاسب الدبلوماسية...
على مدى العقدين الماضيين، تجاهلت فرنسا جميع الادعاءات الإسرائيلية بشأن النوايا الحقيقية لحماس، التى لا يزال هدفها تدمير الدولة اليهودية الوحيدة على وجه الأرض.
فى عام 2005، بينما انسحبنا من قطاع غزة بأكمله، وشرّدنا 8000 عائلة يهودية من منازلها، افتقرتم إلى الشجاعة لمنع حماس من الاستيلاء على السلطة بالقوة والإرهاب. لقد طردت السلطة الفلسطينية ومنعت محمود عباس من دخول غزة. عباس، البالغ من العمر 89 عامًا، لا يزال شخصًا غير مرغوب فيه فى غزة، ولا يحظى بشعبية لدى شريحة كبيرة من شعبه.
والأغرب من ذلك، أن زملاءكم فى كى دورسيه عملوا أيضًا بتكتم على حصول هذه المنظمة الإسلامية على اعتراف فرنسا.
أُذكّركم بالاجتماع "غير الرسمي" فى غزة عام 2008 بين أوبان دو لا ميسوزيير وإسماعيل هنية ومحمود الزهار. وعدوه بوضع حدٍّ للهجمات الإرهابية، بل وقبلوا، بحسب هنية، بدولة فلسطينية ضمن حدود هدنة 1949.
فى ذلك الوقت، أقنعت وزارة الخارجية الفرنسية، بقيادة برنار كوشنر، الرئيس ساركوزى ب"حسن نوايا الإسلاميين" ليتمكن من التحدث معهم مباشرةً. لم تكونوا وحدكم من يفكر بهذه الطريقة: كنتم على وفاق مع باراك أوباما، الذى أيّد "الانتخابات الفلسطينية الديمقراطية" (وآخرها منذ ذلك الحين)، والتى أشعلت بعد ثلاث سنوات: الربيع العربى الشهير وصعود الإسلاميين فى مصر وتونس وأماكن أخرى، وتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وحرب أهلية فى سوريا، وفوق كل ذلك تعزيز المحور الشيعى الإيرانى فى العراق ولبنان واليمن.
فى الواقع، تُدركون اليوم، بعد سنوات عديدة، أنكم ارتكبتم خطأً فادحًا. بالطبع، أن تأتى متأخرًا خير من ألا تأتى أبدًا... لحسن الحظ، بدأت فرنسا تُدرك أنه لحل القضية الفلسطينية، يجب علينا إبعاد حماس عن قيادة الشعب الفلسطيني.
من المروع أن الرئيس ماكرون لم يدرك أخيرًا نوايا حماس الحقيقية إلا بعد مجزرة 7 أكتوبر 2023.
لكن ماذا فعلت فرنسا فعليًا على أرض الواقع؟ رحلة ماكرون إلى العريش، فى سيناء المصرية، لاستقبال اللاجئين الفقراء من غزة؟
باستثناء زيارة قصيرة إلى إسرائيل، وتصريحات تعاطف مع عائلات الرهائن، واحتفالات فى باريس، هل تحرك حقًا لتأمين إطلاق سراح العديد من الناطقين بالفرنسية المحتجزين لدى بربر حماس، كما فعل الرئيس ترامب؟ ألم يطالب فى البداية بتحالفات فى الحرب على الإرهاب؟
فى مقالك، تذكر بفخر المساعدات الإنسانية التى قدمتها فرنسا لسكان غزة؛ آخر 40 طنًا أُلقيت؟ لم تكن الوحيد؛ شاركت دول عديدة.
هل تعلم كم طنًا نقل الإسرائيليون إلى غزة؟ وكم من الطعام والدواء؟ لماذا لا تتهم حماس بوضوح؟ من يسرق خبز سكان غزة بدلًا من أن يساعد فى نبذ إسرائيل؟
أتفق معك تمامًا فى أن الدبلوماسية وحدها هى القادرة على إيجاد حلول سلمية وضمان أمن إسرائيل ضمن "حدود آمنة ومعترف بها"، والأهم من ذلك، حدود قابلة للدفاع عنها. ولكن...
باعترافك الأحادى بالدولة الفلسطينية، أنت لا تتصرف كدبلوماسى حقيقي.
أنتم لا تتشاورون بصدق مع الحكومة الإسرائيلية، الدولة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة وصديقة فرنسا. أنتم تسيرون بمفردكم كالعادة.
حتى قبل مفاوضات الوضع النهائي، تطالبون بالانسحاب من جميع الأراضى إلى حدود عام 1967، وتدّعون أن القدس الشرقية عاصمة فلسطينية... دون أن تعترفوا دائمًا بالعاصمة الإسرائيلية منذ عام 1948، كما فعلت الولايات المتحدة، بعد أن نقلت سفارتها إلى القدس... يا لها من مسرحية عبثية! بالطبع، أنتم تعلمون أن الاعتراف بالدولة يجب أن يتضمن سمات معينة:
إقليم محدد، وحدود معترف بها من قبل الهيئات الدولية، بما فى ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
كيف إذن يُمكن منح دولة مستقلة ذات سيادة لشعب فلسطينى لا يزال مشتتًا، تحكمه حكومتان منفصلتان، إحداهما تُمثل منظمة إرهابية مُعلنة؟
لماذا هذا التسرع؟ هل هذا هو الوقت المناسب بعد مجزرة 7 أكتوبر الوحشية؟
لا شك أن فرنسا حققت نقلة نوعية فى علاقاتها العامة، وتقربت من العالم العربى والإسلامي، لكن فى الواقع، انتهكت حكومتكم المواثيق الدولية علنًا.
فى مواجهة الأزمة الإنسانية فى غزة، يسعى رئيسكم، بكل الوسائل، إلى إيجاد حل دبلوماسي. ولكن بوضع العربة أمام الحصان:
إنه يُربك الأمور، ويتجاهل الحقائق على الأرض، ويسلك مساراتٍ خطيرة.
إنه يُعقّد مهمتكم النبيلة فى التقريب بين شعبينا.
نواياكم فى السعى إلى الاستقرار والسلام فى الشرق الأوسط مُبرّرة. نحن نُرحّب دائمًا بالسعى إلى السلام؛ لقد سئمنا الحروب. للأسف، لا يزال نهجكم، كغيره من المبادرات السابقة، شفافًا ومُريبًا ومشوبًا بالنفاق والمصالح التجارية.
نُلاحظ أنه فى كل حدثٍ كبيرٍ فى منطقتنا، تُحاول فرنسا لعب دورٍ مؤثر، لكنها فى تسرعها ترتكب أخطاءً تاريخيةً جسيمة. يعود هذا إلى اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التى قسّمت الشرق الأوسط. حتى قبل مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وقّعتم اتفاقياتٍ مع بريطانيا العظمى - باستخفافٍ وتعسف - لا تزال تداعياتها تُسبب أضرارًا جسيمة حتى اليوم.
ومن المُثير للاهتمام، بل والمُضحك، زيارة الموقع الرسمى لوزارتكم. يشرح لنا، فى ثلاث دقائق فقط، "تحديات مبادرة السلام فى الشرق الأوسط"، أو كيفية حل صراع عمره مئة عام، شديد التعقيد. خلال هذه ال 180 ثانية، بقيتُ مندهشًا حقًا، رغم ذهولي: لقد وجد سحرة كى دورسيه أخيرًا الصيغة الصحيحة لتحقيق السلام...
وبجدية أكبر، لنعد إلى الحقائق التاريخية، إلى هذا الموقف الفرنسى الموصوف رسميًا على موقع كى دورسيه: "إسرائيل - الأراضى الفلسطينية"؛ أتساءل لماذا تُصرّ فرنسا على ربط إسرائيل بالأراضى الفلسطينية بتصويرهما كتوأم سيامي... ألم تعد الدولة اليهودية دولة مستقلة ذات سيادة؟
هذه السياسة الفرنسية تجاه الصراع العربى الإسرائيلى لم تتغير منذ عقود، ولم تُسهم فى السلام.
كنتم أول دولة غربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 وتفتح مكتبًا دبلوماسيًا فى باريس لمنظمة إرهابية، لا يختلف ميثاقها كثيرًا عن ميثاق حماس.
هذا الميثاق لا يزال قائمًا، رغم التأكيدات الفرنسية العديدة. فهو يدعو إلى "تحرير" فلسطين كاملةً من "النهر إلى البحر".
أفترض أنكم تفهمون تمامًا هذا الشعار، الذى يعنى بوضوح تدمير دولة إسرائيل. ومع ذلك، يُردد هذا الشعار ويُكتب بحرية فى فرنسا... فى البلد الذى تمثلونه.
تتحدثون عن: حجم المأساة فى غزة وضرورة إنهاء الأزمة الإنسانية فيها. وضعٌ يُغذّى الإرهاب ويُغذّى معاداة السامية فى جميع أنحاء العالم. نحن مقتنعون بالعكس: إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو ما يُقوّى الإسلاميين ويُثير موجات من الكراهية ضد الجاليات اليهودية. فيما يتعلق بالسلطة الفلسطينية:
نقترح قراءة وإعادة قراءة خطابات محمود عباس العدوانية باللغة العربية، والتساؤل عن طريقة إدارة شئونه، وما إذا كان كل شيء شفافًا حقًا ويُدار وفقًا للقيم الديمقراطية. قد يتساءل المرء، على سبيل المثال، ماذا فعل محمود عباس بكل مليارات اليورو التى تلقاها من المجتمع الدولي، بما فى ذلك تلك التى تلقتها فرنسا منذ مؤتمر المانحين الذى عُقد فى باريس عقب اتفاقيات أوسلو الموقعة عام 1993؟
نوصى أيضًا بإعادة قراءة والاستماع إلى خطابات قادة حماس، الذين لا يعترفون بوجود دولة إسرائيل، ولا حتى بقوة السلطة الفلسطينية. وأخيرًا، نوصى بمناقشة أسباب عدم لجوء كلا الطرفين إلى فرنسا كوسيط، وتفضيلهما الوساطة الأمريكية التى يعتبرانها أكثر مصداقية وفعالية. بعد الإخفاقات المتتالية، من المفيد إعادة النظر فى سياسة فرنسا فى منطقتنا.
التصرف فى الاتجاه الصحيح، واعتماد دبلوماسية جديدة، إبداعية، فعّالة، أقل تحفظًا، وأكثر براغماتية. لكسب تعاطف الإسرائيليين، أنصح زملائى الفرنسيين بعدم التصرّف كخريجى المدرسة الوطنية للإدارة، متبنّين سلوكًا باردًا وخطابًا أخلاقيًا متشددًا...
بالطبع، لا يتعلق الأمر بمقاطعة العالم العربى وقطع العلاقات معه، ولا بشن حملة تشويه ضد العالم الإسلامي؛ يجب أن نحافظ على منطقنا. يجب أن نواصل الحوار ونجمع المعتدلين وجميع ذوى النوايا الحسنة فى إطار اتفاقيات إبراهيم، للعمل معًا على مكافحة المتطرفين والمتعصبين، ودحر كل من يزرع الكراهية والإرهاب.
أخيرًا، لم تتدخل إسرائيل قط فى الشؤون الفرنسية، ولا تُقدم دروسًا أخلاقية أو نصائح للدول الأجنبية. وبالمثل، نرفض المقاطعات والضغوط والإملاءات.لذلك، نوصي، حرصًا على مصلحة البلدين، بفصل العلاقات الثنائية عن العلاقات متعددة الأطراف لتعزيزها فى جميع المجالات. فهى حاليًا فى حالة جيدة رغم كل الخلافات وسوء الفهم بشأن حل القضية الفلسطينية.
فى هذا السياق، حان الوقت للتحضير لأول زيارة رسمية حقيقية للرئيس ماكرون، إلى إسرائيل حصريًا؛ فهو دائمًا موضع ترحيب.
بهذه الطريقة، يُمكننا معًا طمأنة الجالية اليهودية فى فرنسا، الملتزمة دائمًا بالقوانين الجمهورية، وتهدئة نفوس الإسرائيليين الناطقين بالفرنسية و/أو الناطقين بها، الذين يشعرون بخيبة أمل كبيرة من سياسات بلدكم."
انتهى نص المقالين والرؤيتين المتنافرتين.
الاعتراف الفرنسى بدولة فلسطين
فى لحظة سياسية مفصلية تعكس تحولا إيجابيا فى موقف باريس تجاه القضية الفلسطينية، أكد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فى 24 يوليو الماضى بأنه سيعلن اعتراف بلاده رسميا بدولة فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك فى سبتمبر المقبل.
قال ماكرون فى رسالة نشرها عبر منصتى "إكس" و"إنستغرام": "وفاء بالتزامها التاريخى بسلام عادل ودائم فى الشرق الأوسط، قررتُ أن تعترف فرنسا بدولة فلسطين. سأُعلن ذلك رسميا خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر المقبل"، كما شدد على أن "الحاجة الملحة اليوم تكمن فى إنهاء الحرب فى غزة وإنقاذ المدنيين. شدد الرئيس الفرنسى على أن الدولة الفلسطينية المستقبلية يجب أن تكون "منزوعة السلاح"، وأن تعترف بإسرائيل بشكل كامل، مشيرا إلى أن هذه المعايير ضرورية لكى تسهم الدولة الفلسطينية فى استقرار a وأمن الجميع، بما فيهم الإسرائيليون.
فى رسالة خطية موجهة إلى عباس فى 9 يونيو، قال ماكرون إنه "سيكون متابعا بدقة لمسار وقف إطلاق النار، وتحرير جميع الرهائن المحتجزين لدى حماس، وتجريد الحركة من سلاحها، وتعزيز سلطة السلطة الفلسطينية فى كامل الأراضى الفلسطينية.
وبطبيعة الحال، لا يمكن إنكار الجهود الدبلوماسية المصرية خاصة منذ البداية فى رفض التهجير والمطالبة بحل الدولتين والتمسك بالقرارات الدولية، وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الاعتراف الفرنسى بالدولة الفلسطينية ولدت أثناء زيارة ماكرون الأخيرة لمصر، كما أن المملكة العربية السعودية لعبت دورًا هامًا فى هذا التحول المهم من خلال مبادرة حل الدولتين ورعايتها للمؤتمرات التى عقدت فى هذا الصدد وإشراك فرنسا فى رعاية المؤتمر المرتقب.
الخطوة الفرنسية مشحونة بالرمزية السياسية والدبلوماسية، وذلك رغم الغضب الكبير الذى قابلت به إسرائيل والولايات المتحدة ومسئولوها تلميحات وتصريحات ماكرون المتكررة بشأن تلك المسألة التى أثارت ردود فعل غاضبة، والذى بلغ درجة توجيه الشتائم إلى الرئيس الفرنسى من قبل يائير نتنياهو نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي. ففى وقت سابق من أبريل الماضى وردا على تغريدة لماكرون أيد خلالها حق الفلسطينيين فى إقامة دولة تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل (بدون حماس والمقاومة) مشيرا أنه يمكن التوصل إلى صيغة لذلك خلال الأشهر المقبلة غرد يائير قائلا "اللعنة عليك، نعم لاستقلال كاليدونيا الجديدة، نعم لاستقلال بولينيزيا الفرنسية، نعم لاستقلال كورسيكا، نعم لاستقلال بلاد الباسك، نعم لاستقلال جويانا الفرنسية، أوقفوا الإمبريالية الجديدة لفرنسا فى غرب أفريقيا". والأكثر من ذلك أن يائير نال دعما صريحا من والده بعد هذا "التجاوز الدبلوماسي" الفج، حيث وصفه بأنه "صهيونى حقيقى يهتم بمستقبل دولته". فيما وصف نتنياهو قرار باريس بأنه "يكافئ الإرهاب"، مضيفا فى بيان رسمى أن "الاعتراف بدولة فلسطينية فى هذه الظروف سيكون منطلقا لإبادة إسرائيل". أما وزير الخارجية جدعون ساعر، فقال عبر منصة "إكس": "الدولة الفلسطينية ستكون دولة حماس". نائب رئيس الوزراء ياريف ليفين وصف القرار بأنه "نقطة سوداء فى التاريخ الفرنسي"، معتبرا أنه يمثل "دعما مباشرا للإرهاب"، ودعا إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
انتقدت الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لإسرائيل، خطوة ماكرون بشدة، وقال وزير الخارجية الأمريكى "الولايات المتحدة ترفض بشدة خطة ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية.. خطة ماكرون متهورة ولا تخدم سوى دعاية حماس، وتُعد انتكاسة لجهود السلام وصفعة فى وجه ضحايا هجوم 7 أكتوبر.
كانت هناك مقدمات للموقف الفرنسى حيث إنه فى عام 2014، صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية "البرلمان" لصالح الاعتراف بدولة فلسطين فى عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند. وفى 24 يوليو عام 2025 قرر الرئيس ماكرون الاعتراف رسميا بدولة فلسطين يربط قراره بمسار لإصلاح السلطة الفلسطينية ونزع سلاح حماس واستبعادها من أية صورة للمشاركة فى الحكم.ويعود القرار الفرنسى إلى بعض العناصر والعوامل فى مقدمتها تصويت الكنيست مؤخرًا بالموافقة بأغلبية كبيرة على ضم الضفة الغربية حيث أقر 71 نائبا إسرائيليا نصا يدعو إلى ضم الضفة، وإلغاء أى خطة لإقامة دولة فلسطينية وكذلك البدء فى تنفيذ آلاف من الوحدات السكنية فى المستوطنات الجديدة المزمع إقامتها فى الضفة الغربية، فى إجراء قوبل برفض الدولة الفرنسية التى قررت افتتاح مؤتمر حل الدولتين برعاية فرنسية سعودية فى 28 يوليو الماضي؛ لأن عقد هذا المؤتمر سيمنح هذا الإعلان قيمة مضافة حيث تمثل أهمية هذا الاعتراف مصدرًا للقلق والتوتر لكل من إسرائيل والولايات المتحدة؛ لأن هذا الاعتراف من قبل فرنسا بدولة فلسطين قد يتضمن "effet d'entrainement" أى دافع ومحفز للعديد من الدول على الإقدام على مثل هذه الخطوة، أو تأثير "الدومينو" أى خلق بيئة محفزة على هذا الاعتراف وحاضنة له. إلا أن القرار تأجل إلى 28 يوليو الماضى ثم الى سبتمبر، بعد قيام إسرائيل بشن عدوانها فى 13 يونيو الفائت على جمهورية إيران الإسلامية.
لماذا القرار الفرنسى مهم؟
ما يجعل قرار ماكرون مختلفا هو توقيته، ومكانة فرنسا الدولية، والأثر السياسى الذى قد يترتب عليه، رغم أن أكثر من 140 دولة حول العالم تعترف بدولة فلسطين، إلا أن فرنسا ستكون أول دولة من دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى – التى تضم الولايات المتحدة، وبريطانيا، وكندا، وألمانيا، واليابان، وإيطاليا – تتخذ هذه الخطوة رسميا، ويُعد هذا تطورا لافتا نظرا للثقل السياسى والدبلوماسى الذى تمثله فرنسا، كدولة دائمة العضوية فى مجلس الأمن وذات نفوذ كبير داخل الاتحاد الأوروبي.
هذه المتغيرات الراهنة وإن عجلت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، تشكل منعطفا جوهريا فى سياسة فرنسا الخارجية إزاء الصراع العربى الإسرائيلى، حيث أصبحت فرنسا بحكم هذا الميراث هى الدولة الأوروبية الوحيدة التى تحظى ب"سياسة عربية" خاصة تجاه الصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية، ومن ثم فإن عزم فرنسا على الاعتراف يعيد بعث هذه السياسة وإحيائها فى الظروف الراهنة ويتوافق مع التقاليد الديجولية لاستقلالية فرنسا إن إزاء الصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية، أو إزاء المواقف الأمريكية والإسرائيلية، والتى استنكرت عزم فرنسا على اتخاذ وإعلان هذا القرار، ووصفه نتنياهو بأنه "يمثل مكافأة للإرهاب" ووصفه ترامب بأنه "عديم الأهمية ولا وزن له".
تداعيات القرار على الساحة الفرنسية
حظى القرار على الصعيد الداخلى الفرنسي، بمواقف متناقضة ومتفاوتة، حيث رحب به معسكر اليسار سيما الحزب الاشتراكى وفرنسا الأبية والحزب الشيوعى وحزب البيئة والخضر والعمال وعارضه اليمين المتطرف، وتحفظ عليه بعض الرموز السياسية اليمينية من اليمين التقليدى والوسط، فيما وصف اللوبى الإسرائيلى فى فرنسا " الكريف" المجلس التمثيلى للمؤسسات اليهودية الفرنسية، القرار بأنه "خطأ أخلاقي" و"خطأ دبلوماسي" و"خطر سيأسى"، وقال يوناتان عرفى رئيس كريف بأن "العلاقة بين فرنسا وإسرائيل تستحق ما هو أفضل من الجدل العقيم"، وأضاف يوناتان عرفى "إن مكافحة معاداة السامية موضوعٌ جوهريٌّ للغاية بحيث لا يُمكن أن يُصبح موضوع نزاع دبلوماسي، بالنظر إلى أن هذه الكراهية، التى أصبحت تهديدًا عالميًا، لا تُستثنى منها اليوم أوروبا ولا الولايات المتحدة".إن مكافحة معاداة السامية يجب أن تُوحّد، لا أن تُفرّق".
فى ظل هذا الجدل الجديد بين البلدين، جدد ممثل CRIF التأكيد يوم الأربعاء على أنه "فى سياق يشهد تصاعدًا فى الأعمال المعادية للسامية"، أقامت المؤسسات اليهودية "حوارًا منتظمًا مع السلطات العامة بشأن مكافحة معاداة السامية منذ نحو عشرين عامًا".
وقال بأن بين يناير ومايو 2025، سُجِّل ما مجموعه 504 أعمال معادية للسامية (بما فى ذلك 323 اعتداءً على أفراد)، وفقًا لأحدث الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية. ويمثل هذا انخفاضًا بنسبة 24٪ على أساس سنوي، ولكنه يمثل ضعفًا (+134٪) مقارنة بالفترة نفسها من عام 2013.
كما جدد "رفضه لخطة فرنسا للاعتراف بدولة فلسطينية، وقلقه من الطريقة التى يُحفِّز بها هذا الإعلان مُحرِّضى حزب العمال الفرنسى ( وحزب فرنسا الابية) ودعاة الكراهية المعادية للسامية المحيطين بهم".
ومعروف أن فرنسا بها أكبر جالية يهودية يقدر عددها ب 700 ألف يهودى ما يعادل أقل من 1٪ من السكان، فى المقابل بها جالية عربية وإسلامية كبيرة الأكبر فى أوروبا يقدر عددها بنحو 15 ملايين نسمة أو ما يعادل 15٪ من السكان، ومن المؤكد أن القرار الفرنسى يأخذ فى الاعتبار مواقف الجالية العربية المسلمة التى تؤيد القضية الفلسطينية، حيث أشار التقرير الفرنسى عن الإخوان الذى صدر فى مايو 2025 إلى ضرورة تبنى موقف مؤيد للقضية الفلسطينية ضمن التوصيات التى انتهى إليها كمبادرة إيجابية إزاء الجالية العربية.
فى الداخل الفرنسى كانت أصداء قرار ماكرون الاعتراف بفلسطين أكثر دويا ربما من الخارج، وتسببت فى انقسام واضح فى الرأى العام الفرنسي.
ففى اليسار كانت ردود الفعل مرحبة بحذر فى المجمل، خصوصا فى صفوف حزب "فرنسا الأبية" المدافع السياسى الأول عن القضية الفلسطينية فى فرنسا، والخصم السياسى الأول لاسرائيل التى تصمه لوبياتها بمعاداة السامية. ووصف رئيس الحزب جون لوك ميلانشون هذا الاعتراف ب "النصر المعنوي"، معتبرا فى الوقت نفسه أن التأجيل المستمر لهذه الخطوة شجع على استمرار "الجريمة الإسرائيلية" فى غزة. وطرح ميلانشون فى الوقت نفسه أسئلة تبدو مهمة بشأن مصير حظر الأسلحة واتفاقيات التعاون المشترك مع إسرائيل.
بدورها، انتقدت ماتيلد بانو -وهى إحدى أبرز النائبات فى صفوف الحزب، وإحدى أشهر السياسيات فى فرنسا حاليا- الخطوة المتأخرة لماكرون والتى جاءت بعد 22 شهرا من الإبادة، مطالبة بتسريع عملية الاعتراف قبل أن يباد الفلسطينيون عن بكرة أبيهم، معتبرة فى الوقت نفسه أن هذا الاعتراف يشكل انتصارا للحراك الشعبى العالمى المناهض لإسرائيل. فيما رحبت النائبة الفلسطينية الفرنسية ريما حسن بالقرار والتى وصفته بأنه كتأخر للغاية ولكن توقيته الآن لإيقاف حرب الإبادة وتحصين الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة ذات سيادة.
وعلى الجهة المقابلة، كانت ردود الفعل مختلفة فى أوساط اليمين الفرنسى الكلاسيكى والمتطرف المواليين لإسرائيل، حيث أعربت رئيسة حزب التجمع الوطنى مارين لوبان عن رفضها التام لهذه الخطوة، قائلة إن الاعتراف بدولة فلسطين يعنى الاعتراف ب"دولة حماس"، وهذا يعنى "دولة إرهابية"، حسب زعمها. أما الشخص الثانى فى الحزب وهو جوردان بارديلا الذى سيمثل حزب لوبان فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فقد وصف القرار ب"المتسرع والمتحيز والباحث عن مصالح شخصية أكثر من كونه موقفا صادقا نحو السلام"، مدعيا أنه يضفى شرعية غير متوقعة على حماس.
تداعيات
وتعد ردود الأفعال السابقة جميعها كلاسيكية ومتوقعة بالنظر إلى مواقف أصحابها السابقة وموقعهم على الطيف السياسي.
لكن الموقف الملتبس كان هو الذى عبر عنه معسكر ماكرون نفسه، فأغلبية المقربين منه ذوو هوى يمينى وفى أحيان يمينى متطرف موال للصهيونية، لذلك كان القرار صعب الهضم وصعب التفسير رسميا فى أحيان كثيرة.
ولم يتلق قرار ماكرون ردود فعل رسمية من الأغلبية الحكومية أو من حلفائها، لكن بعض ردود الفعل الشخصية خرجت إلى العلن كما هو حال كارلون يادان النائبة عن حزب ماكرون والمعروفة بتحمسها الكبير لمواجهة "معاداة السامية وخطاب معاداة الصهيونية"، والتى قالت إن الإعلان يمثل خطأ سياسيا وأخلاقيا وتاريخيا، مضيفة أن "الرئيس استسلم للعاطفة والعجلة".
فى المقابل، عبر النائب الجمهورى يان بوكار عن تأييده التام لخطوة ماكرون، مؤكدا أن "فرنسا يجب أن تنخرط بالكامل فى حل الدولتين لتحقيق سلام دائم".
وستتوالى ردود الفعل من هنا وهناك، لكن الجميع كان ينتظر ردة فعل شخص مهم هو وزير الداخلية برونو روتايو الذى هو أيضا رئيس حزب الجمهوريون ( اليمين المحافظ التقليدي).
ليس هناك من شك فى أن العلاقة بين إيمانويل ماكرون وبين وزير داخليته برونو روتايو ليست على ما يرام، فروتايو -الذى تم اختياره فى مايو الماضى لرئاسة حزب الجمهوريين اليمينى الكلاسيكي- لا يخفى خلافاته مع رئيسه، لدرجة أنه قال فى صحفى إن الماكرونية ستنتهى مع رحيل إيمانويل ماكرون، يقول ذلك وهو وزير داخليته فى حكومته.وخلقت هذه التصريحات وخطوات أخرى يقوم بها روتايو استعدادا لخوض الانتخابات الرئاسية نوعا من البرود والخلاف بينه وبين ماكرون، وهو ما قد يفسر لزومه الصمت فى قضية اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية. وذكرت مصادر مقربة من وزير الداخلية الفرنسى أن بيانا صحفيا باسم حزب الجمهوريين سينشر للإجابة عن هذه الأسئلة، لكن لا شيء صدر حتى الآن.
غرد رئيس كتلة "اليمين الجمهوري" فى الجمعية الوطنية الفرنسية بلوران فوكيى على حسابه الشخصى على موقع التواصل إكس قائلا "لن يكون هناك سلام فى الشرق الأوسط مع إرهابيى حماس، لن يكون هناك سلام طالما لم يُفرج عن الرهائن، رئيس الجمهورية يتلقى التهانى من حماس، ليس بهذه الطريقة ستسهم فرنسا فى تحقيق السلام".
أما النائب الأوروبى كزافييه بيلامى المعروف بقربه من روتايو فقد اعتبر أن "الاعتراف الفرنسى غير مبرر، لأن الشروط التى حددها ماكرون لم تتحقق، وهى إبعاد حماس والتنديد ب"الإرهاب" ونزع سلاح الدولة الوليدة واعترافها بإسرائيل".
وقال بيلامى "هل كنا لنتخيل يوما أن حماس ستشكر فرنسا؟ هذا القرار يزيد الخطر على الشعب الإسرائيلى كما على المدنيين الفلسطينيين الذين هم أيضا ضحايا للإرهاب الإسلامي"، على حد وصفه.
أما روتاريو نفسه فربما تكفى إشارة إلى مواقفه السابقة لترجيح توجهه الحالي، ففى 16 مايو الماضى أكد وزير الداخلية الفرنسى نيته حل تجمّع "الطوارئ لفلسطين".
وكشفت صحيفة لوموند عن مسودة قرار الحل التى برر خلالها روتايو القرار بكون التجمع يحرض على الكراهية والتمييز والعنف ضد أشخاص بسبب أصولهم اليهودية، ويؤسس ل"مناخ كراهية ضد المجتمع الفرنسي".
مواقف أوروبية منقسمة
لن تلحق الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة بفرنسا فى هذا الشأن، فهى ترجئ اعترافها بالدولة الفلسطينية حتى وقت لاحق، وعند توفير شروط إقامة هذه الدولة، وتمنح هذه الدول الأولوية لوقف المأساة فى غزة وإدخال المساعدات ووقف إطلاق النار والإبادة. فلا تزال مواقف دول القارة العجوز منقسمة، فقد أعربت ألمانيا سابقا عن رفضها للاعتراف فى الوقت الراهن، المستشار السابق أولاف شولتس كان قد صرح بأن "الاعتراف الرمزى ليس هو الطريق المناسب، ولا يوجد حتى الآن وضوح حول حدود الدولة الفلسطينية. أما المملكة المتحدة، فعبّرت عن اهتمامها بالملف، لكنها لم تتخذ أى خطوة عملية، وإن كانت تشارك إلى جانب فرنسا وألمانيا فى محادثات "طارئة" لمناقشة الوضع فى غزة، بحسب ما أعلنه رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر، الذى أشار إلى أن "وقف إطلاق النار فى غزة سيمهّد الطريق نحو الاعتراف بدولة فلسطينية.
تحديات الخطوة
لا شك أن الاعتراف الفرنسى بدولة فلسطين ستكون له قيمة رمزية كبيرة، لكن يجب عدم نسيان أن هذا الاعتراف جاء محملا باشتراطات تواجه تحديات عدة، منها إبعاد حماس ونبذ المقاومة ونزع السلاح، فضلا عن الاعتراف بإسرائيل دون إلزامها حتى باعتراف مقابل، كما أنه لا يحمل فى طياته خطوات عملية ملموسة، لا من حيث ترسيم الحدود ولا من حيث عودة الفلسطينيين وإيقاف الاستيطان. وبينما تغلى إسرائيل وواشنطن من الغضب، يراهن ماكرون على أن الضغط السياسى والدبلوماسى يمكن أن يُحدث تحولا فى مواقف المجتمع الدولي، ويُعيد حل الدولتين إلى مسار قابل للتطبيق بعد سنوات من الجمود.

6eb4f973-f8c5-41c8-83f8-5fd41b3c25e8 web_(3)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.