فى أكتوبر عام 1995، حاول شاب اغتيال نجيب محفوظ، طعنا بالسكين محاولًا قتله، وأثبتت التحقيقات أنه لم يقرأ يومًا ما، رواية واحدة أو حتى سطرًا مما يكتبه الأديب الكبير، وفى أغسطس عام 2022، جرت محاولة اغتيال الروائى سلمان رشدى بنيويورك، ولم يكُن مَن حاول قتله من قُراء الأدب، ومن قبل ذلك، وفى يونيو 1993، تم اغتيال الروائى الجزائرى الطاهر جاووت، وأيضًا أثبتت الوقائع أن القاتل لم يقرأ له نصًا واحدًا، وغير ذلك وقائع عديدة مشابهة، تتعدد الأسباب وتتفرق الجريمة وتتوزع بين: المدرسة والجامعة، المسجد والكنيسة، وسائل الإعلام التقليدية، وسائل التواصل الاجتماعى التى باتت مرتعًا لميليشيات إلكترونية تبث سمومها، وتنخر كالسوس فى جدران المجتمع، تثير العنف وتحض على كراهية وإخافة كل مَن تسول له نفسه أن يستخدم عقله فى التفكير، حتى وإن كان مجرد خيال يصنعه المبدع فى عالم اسمه رواية!، ويجد الروائى نفسه فى مواجهة قوى ظلامية متطرفة؛ ضد كل تفكير حتى وإن كان فى الخيال، لا تُفرِّق ما بين الكاتب وشخوص رواياته، تطلق عليه النار، مستغلة مَن لا يجيد القراءة لكنه يتقن القتل، شعارها: أنت روائى.. إذن أنت تستحق القتل.. !! فى السطور التالية، نناقش هذه المسألة مع نُخبة من الأدباء والنقاد وخبراء فى علم النفس والطب النفسى، فى محاولة للبحث عن إجابة لسؤال: لماذا يتم استهداف الروائى الذى ينسج عالمًا من الخيال؟! اقرأ أيضًا | «مجدى قناوى».. رحيل فى حضرة الميثولوجيا اللعبة الخطيرة البداية كانت مع المفكر الجزائرى والروائى الكبير أمين الزاوى، الذى يؤكد أن «الخيال هو الرأسمال الحقيقى للروائى المميز، وكلما نتف ريش جناحى الخيال اللذين يحلق بهما الروائى بدا نصه مختلًا وباردًا، وكلما كان حرًا فى خياله كانت نصوصه حارة شبيهة بكشاف دقيق للتاريخ وللمستقبل، للحاضر والماضى»، ويستمر «الزاوى» فى حديثه: «القوى الظلامية تخشى كل حرية خيال قد يتمتع بها الروائى، لأنها تدرك أن هذا الخيال هو الطاقة التى يؤثر بها على القارئ الباحث عن الحقيقة من جهة وعن الإمتاع الأدبى من جهة ثانية، والروائى الجاد يمرر رسائله السياسية والفكرية والجمالية من خلال لعبة الخيال الخطيرة»، ويخلص «الزاوى» فى رأيه، إلى أن القوى الأيديولوجية الظلامية تحارب الإبداع وتعمل على تجييش القُراء ضد الروائى حتى دون قراءته، فيجد الروائى نفسه إما أن يمارس الرقابة الذاتية على نفسه وبالتالى يفقد النص المنتج قوته، أو يضطر الروائى للهجرة إلى بلدان أخرى حيث تتوفر شروط حرية الخيال وحرية الرأى، أو يتم اغتياله فعليًا وجسديًا كما حدث مع كثير من الروائيين من أمثال الروائيين الجزائريين الطاهر جاووت وهادى فليسى، أو فى حالة رابعة، يصمت ويتوقف عن الكتابة. من جانبها، تؤكد الناقدة الكبيرة د.أمانى فؤاد، أن هؤلاء الذين يستهدِفون المبدعين لا يستهدِفون الخيال فقط؛ بل يستهدفون ديناميكية العقل وحركيته وإبداعاته، يستهدِفون الخروج عن نِطاق أصنامهم الفكرية التراثية، سَلَّموا أنفسهم لعقول تيبَّست لا تقوى على أية إضافة جديدة للبشرية، يُكَفِّرون مَن يمتلك رؤية للحياة»، وتكمل «أمانى»: حين أفكر فى هذه الظاهرة؛ لا أكترث بالأداة «الرجل» الذى طعن نجيب محفوظ أو سلمان رشدى أو فرج فودة، هذه الأداة لم تقرأ ولم تفكر، الطامة الكبرى، وسِرُّ تخلُّفنا الحقيقى، ومحدودية عطاءات ثقافتنا العربية الإسلامية للحضارة الإنسانية منذ زمن، هؤلاء الشيوخ الذين يأمرون ويُفتون بقتل المبدعين والمفكرين، لأن هؤلاء يقرأون بالفعل، وحين يقرأون؛ يشعرون بالخطر على الأفكار المتحفية التى يرددونها، ويَغرقون فى عفنها ويتكسبون منها، لذا فالذين يقرأون هم الخطر الحقيقى. أما الناقد الكبير د.حسين حمودة فأكد أن ظاهرة الاغتيال، أو محاولات الاغتيال، التى ارتبطت بأسماء عدد من المبدعين، من أشهرهم نجيب محفوظ وسلمان رشدى، هذه الظاهرة مرتبطة بمفارقة مجحفة إلى حد المأساة: الحكم بالقتل المبنى على تصورات حول الإبداع، بمنطق لا يفهم الإبداع، ولا يعرف القوانين الww خاصة التى تُمَيِّزه، والتى يجب النظر إليه على أساسها، بل أحيانًا لا يعرف هذا الإبداع من الأصل؛ فكثيرون مِمَن قاموا بتنفيذ محاولة اغتيال بعض المبدعين لم يعرفوا شيئًا عن إبداعهم، كما هو الحال مع تجربة نجيب محفوظ المؤلمة، ويضيف «حمودة»: الخيال، أو الإبداع بوجه عام، محكوم بقوانين لا يجب أبدًا إغفالها عند التعامل معه، أى لا يجب محاكمته أو الحكم عليه بمنطق غير منطقه، وقد قال نجيب محفوظ عن روايته «أولاد حارتنا»، التى كتبها فى الخمسينيات من القرن الماضى، والتى سوف تؤدى «إساءات» قراءتها وفهمها إلى محاولة اغتياله فى الثمانينيات، قال نجيب محفوظ، إن مأساة هذه الرواية «أنها رواية.. ولكن قُرأت ككتاب». الجهل فى الصدارة وترى الروائية الشابة هبة خميس، أن الأزمة تكمن فى عدم قدرة الناس على الفصل بين الروائى والعمل الأدبى الذى يقدمه، وللأسف يحدث هذا معظم الوقت، وبالتالى يقع الهجوم، مثلما حدث مع نجيب محفوظ، وسلمان رشدى، ويأتى الجهل فى صدارة العوامل المسببة والمؤدية إلى هذه الكوارث، وهو ما ظهر جليًا فى أقوال المتهم بطعن نجيب محفوظ حينما أكد أنه لم يقرأ الرواية، وللأسف يحدث معى كثيرًا أن يسألنى عديد من الناس فيما أكتبه فى رواياتى وكأن له علاقة بحياتى الشخصية نفسها، ويتكرر هذا كثيرًا حتى أثناء مناقشة أعمالى فى ندوات، ودائمًا يكون ردى: «الأدب خيال الكاتب، وليس انعكاسًا لحياته وآرائه». من جانبها، أكدت د.رشا الفوال؛ المتخصصة فى علم النفس الإبداعى، أن الرواية ليست مجرد حكاية، بل هى مرآة وسكين فى آنٍ واحد، لذا فاستهداف الروائى الذى يكتب العوالم المتخيلة ليس غريبًا؛ لأن كل خيال هو شكل من أشكال النقد، حتى لو لم يكن صريحًا، ففى المجتمعات التقليدية أو المأزومة أو ذات السلطة الدينية، لا تُقرأ الرواية بموضوعية حتى وإن بدت خيالًا صرفًا، إذ لا يُنظر إلى الخيال باعتباره محايدًا، بل يُنظر إليه كأداة مموهة للتمرد، ربما ترجع تلك النظرة إلى اعتبار الرواية الخيالية مهددة للأنظمة العقلية المغلقة؛ فالكاتب عندما يخلق عالمًا متخيلًا يتمكن من مساءلة الواقع. وتستكمل «رشا»: الروائى من خلال كتابة العوالم المتخيلة يتجرأ على مناقشة التابوهات المجتمعية وفى ذلك جُرأة لا تُغتفر فى عيون بعض المتشددين دينيًا وفكريًا. أما د.نسمة خلف، مدرس علم النفس الإرشادى، فتقول إن البداية من البيت، ستجد أن أغلب مَن يستجيبون لتنفيذ عمليات القتل تكون نشأتهم، إما فى بيت شديد الصرامة والقسوة، أو أسرة مفككة، والنتيجة واحدة، شباب يبحث عن الاحتواء الذى يجده «للأسف» فى الجماعات المتطرفة أو جماعات البلطجة، فيمَن يستغلونهم فى التوجيه للقتل أو التخريب، حتى من دون سبب لمجرد أن يلفت الانتباه إليه، وتأتى بعد ذلك، وسائل التواصل الاجتماعى وما تقوم من عمليات غسيل للمخ، فجميعًا يقع فى براثن هذه الوسائل دون إدراك. سفينة نوح وفى الختام، أكد د.وليد هندى، استشارى الصحة النفسية، أن العالم يحتاج إلى أصحاب الفكر والخيال فهم يمنحون البشرية ضوءًا مستنيرًا ومنهجًا لتجديد الأمل فى المستقبل، فعندما نقرأ لأصحاب الخيال، تتحسن لدينا بعض المهارات الاجتماعية والإنسانية، مما يؤثر إيجابيًا على صحتنا النفسية، لكن للأسف نجد أناسًا ليس لديهم فكر أو ثقافة أو تعليم، ويتم استغلالهم وتوظيفهم بسهولة فى محاربة أصحاب الخيال من المفكرين والأدباء، وكل مَن تم استخدامهم فى محاولات القتل والاغتيال هم شخصيات هشة نفسيًا، سهلة الاستغلال والانقياد من قبل المتطرفين الذين يتمتعون بأفكار إقصائية وعدوانية. وتتواصل مُعاناة ومُعاداة الروائى، وتستمر مطاردته ومحاربته حتى على خياله الذى ينسج به عالمًا يخلقه اسمه رواية، يحلق فيه بعيدًا، متجنبًا دوائر العنف والظلام التى تسعى دائمًا لمحاربته واغتياله..