تشبث منتقدو الأستاذ نجيب محفوظ بسبب رواية "أولاد حارتنا" بتفسيرهم الأحادي للرواية، وهو أنها تطعن في الدين.. وكان لنقاد كثر رأيا آخر في الرواية، لأن "الحارة" المصرية هي العالم عند محفوظ، حيث يضمر مفاهيمه السياسية وليست الدينية.. وكتب ذلك بوضوح الناقدان غالي شكري، ومحمود أمين العالم، وكتب الناقد رجاء النقاش: أنها تصور كفاح الإنسان من أجل العدالة وضد الطغيان.. ولم تستسلم أصوات مهمة أمام التيار الرافض للإبداع، ونفي كتاب لهم وزنهم عن رواية "أولاد حارتنا" ازدراء الأديان.. مثل الأساتذة: أحمد كمال أبوالمجد ومحمد حسن عبدالله (صاحب كتاب "الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ" مكتبة مصر سنة 1978) وعبد الجليل شلبي وجابر عصفور ومحمد جلال كشك، والأخير كتب أن المسلم الذي يتعرف على الله سبحانه وتعالى من ملامح شخصية "الجبلاوي"، هو الذي يستحق الاستتابة، ويجب عليه أن يعيد تثقيف نفسه (في مقدمة كتابه: "أولاد حارتنا فيها قولان" دار الزهراء للإعلام العربي 1989). وقال مفتي الديار محمد سيد طنطاوي إن "نجيب محفوظ أديب عربي مسلم و رواية أولاد حارتنا ليست ضد الإسلام، وإنما هي خيال في خيال، ومحاولة اغتياله غدر وخيانة لا ترضي الله ولا ترضي أحدًا من خلقه، ونجيب محفوظ قال أكثر من مرة إنه لا يقصد إهانة الإسلام ولا العقيدة، ونيته يعلمها الله ولا نحن شققنا عن قلبه". (مجلة الوسط 16 يناير 1995). وظل نشر الرواية في كتاب مشكلة، حتى استطاع صاحب دار الآداب البيروتية سهيل إدريس إقناع محفوظ بنشرها في لبنان في نهاية العام 1967، وبعد نوبل اشتكى لي من أنه لم يحصل على حقوقه كمؤلف، وكتبت ذلك في جريدة "الحياة" ورد إدريس مؤكدا أنه دفع لمحفوظ مستحقاته. (لم أعثر على نص التحقيق الصحفي بعد أن غابت "الحياة" ورقيا وإلكترونيا وأرشيفيا). وبعد نشرها في بيروت منعتها دول عربية ومنها مصر.. وانتهى الأمر عند هذا الحد، إلى أن تجددت الأزمة بعد فتوى الإمام الخميني سنة 1989 بقتل مؤلف " آيات شيطانية " سلمان رشدي ، ليقول الشيخ عمر عبدالرحمن "لو كنا قتلنا محفوظ قبل 30 سنة ما ظهر رشدي". وكان عبدالرحمن صاحب فتاوى تكفيرية عدة، وله أتباع نفذ بعضهم محاولة اغتيال محفوظ في أكتوبر 1994، ثم أعقبها محاولة اغتيال معنوي في دعوى تفريق بين محفوظ وزوجته حركها محام، لم يقرأ الرواية، أمام جنايات المنصورة سنة 1995 بتهمة ازدراء الأديان في "أولاد حارتنا". وسببت الأخبار الصحفية حول الدعوى ألما شديدا لمحفوظ، وكان في عامه الخامس والثمانين.. وقال إن روايته "ليست كافرة ولا أنا بكافر، ويزعجني أن أنهي حياتي في هذه السن في ساحات المحاكم، أنا الذي لم أدخل محكمة في حياتي". ونجح السيد عوضين محامي محفوظ في إسقاط الدعوى لانتفاء شرطي المصلحة والصفة، وألزمت المحكمة المدعى بالمصروفات، وجرت محاولات عدة لنشر الرواية على طريقة النضال والمواجهة من دور صحف ونشر مصرية، كانت تُغضب محفوظ بشدة.. حتى تمكن ناشره الجديد "دار الشروق" من إصدارها بمقدمة للدكتور أحمد كمال أبوالمجد كما اشترط محفوظ قبل وفاته، تقديرا لمكانة المفكر الإسلامي الكبير. أما تقدير "الأساتذة" فإنه من سمات محفوظ الإنسانية بجانب التواضع والرضا.. ودائما ما برهن محفوظ عن اعتزازه بأساتذته المباشرين أو أولئك الذين تتلمذ عليهم عبر القراءة. وأذكر عندما كنا بصدد إعداد ملف في مجلة "الوسط" في فبراير 1994 (العدد 108)، بعنوان "رسالة إلى الكاتب الذي غير حياتي..." قرر الكتابة إلى مصطفى لطفي المنفلوطي ، وكتب محفوظ: عزيزي المنفلوطي، كنت متجها إلى العلم، وذلك لتفوقي في الرياضيات، إلا أنك جعلتني أولي الكتابة أهمية لم أفطن لها من قبل، وغيرت أحلامي بعد أن كانت تنحصر في الهندسة والطب، فإذا بي أصبح كاتبا. وهذا التحول، أنا مدين به لك، أيها الكاتب الكبير... إلى آخر الرسالة.. بعد ذلك بثمانية أعوام أصدر الكاتب الصديق إبراهيم عبدالعزيز وكان من بين الأصدقاء المقربين والمفضلين لدى كاتبنا الكبير، كتاب "أساتذتي.. نجيب محفوظ" وحدد له محفوظ سبعة هم: يحيى حقي، توفيق الحكيم، العقاد، طه حسين، الشيخ مصطفى عبد الرازق، د. حسين فوزي، وسلامة موسى (مختارات ميريت الطبعة الأولي عام 2002).. ثم زيدت الطبعة الثانية من الكتاب بثلاثة كان محفوظ نسيهم، وقرر إضافتهم بنفسه وهم، إبراهيم عبدالقادر المازني ومحمد حسين هيكل والمنفلوطي.. وقال محفوظ: إنه قرأ للمنفلوطي وهو في عمر ال 13 وقد أعجبه في أدبه أن أسلوبه جديد وساحر فيما يتناوله من موضوعات كانوا يترجمونها له ويقوم هو بتعريبها بطريقته المتميزة من بين أساليب صعبة فكان مثل "المياه الحلوة" ولهذا كان له تأثير في جيلنا كله. وبيّن محفوظ أنه كان يعلق للمنفلوطي في بيته صورة له على أساس أنه على قيد الحياة و"لكن اتضح لي انه فارق دنيانا فبكيت عليه بعد وفاته بعشر سنوات".