تميزت انتخابات مجلس الشورى عام 80 بأنها أول انتخابات تجرى فى مصر بنظام القوائم الحزبية.. وأسفرت عن فوز الحزب الوطنى بجميع المقاعد! توقفت فى اليوميات السابقة عند إعلان الرئيس الراحل أنور السادات أمام مجلس الشعب فى جلسته الافتتاحية يوم 11 نوفمبر 1976 أن الوقت قد حان لكى تتحول المنابر الثلاثة «التى استحدثها كنوع من الحراك الديمقراطى المطلوب فى ذلك الوقت» إلى أحزاب وبذلك تبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ الحياة السياسية فى مصر.. وكما ذكرت سلفا، كان برلمان 76 نقطة تحول فى تاريخ مصر الدستورى. تبع ذلك صدور قانون الأحزاب السياسية فى العام التالى «1977» وبذلك تحولت مصر من التنظيم السياسى الواحد إلى نظام تعدد الأحزاب الذى كان جديدا على شاب فى سنى «26 عاما»، ما دفعنى إلى القراءة المستمرة فى الكتب التى تناولت الحياة النيابية فى مصر لأتعرف عن قرب كيف كانت تدار الحياة الحزبية فى مصر قبل ثورة 52؟ وكيف كانت تشكل الوزارات أو تقال؟ وكان الشىء اللافت للنظر بالنسبة لى هذا القدر من الحرية الذى كان متاحا فى المجتمع بصفة عامة، سواء تحت قبة البرلمان أو على صفحات الصحف والمجلات التى كانت تناقش بحرية كاملة جميع القضايا ولا تتردد فى توجيه النقد للحكومات الحزبية المختلفة وتطرح وجهات نظر للإصلاح فى كل المجالات. من هنا ازداد حبى وارتباطى بالحياة السياسية والحزبية والممارسة البرلمانية تحت قبة البرلمان، الذى كنت أشبهه ب «المطبخ السياسى» الذى يشهد كل المناقشات حول مختلف مشروعات القوانين، سواء بدأت من خلال اقتراحات يتقدم بها النواب أو مشروعات تتقدم بها الحكومات وتأخذ طريقها فى المناقشات عبر خطوات محددة حتى موافقة المجلس عليها أو رفضها. الرقابة البرلمانية شغلتنى أيضا وسائل وأدوات الرقابة البرلمانية، وأقواها وأخطرها بالطبع الاستجوابات التى هى فى حقيقتها اتهام للحكومة بتقصير ما، إذا ما نجح مقدم الاستجواب فى إثباته فقد يصل الأمر إلى استقالة الوزير المسئول وأحيانا استقالة الوزارة «وإن كان شيء من هذا لم يحدث طوال السنوات التى قضيتها تحت القبة وكان أقصى ما يتحقق توصيات قوية بإصلاح أوجه النقص والقصور محل الاستجواب» لكننى هنا أتحدث عن الاستجوابات فى عصرها الذهبى قبل ثورة 52. ومع ذلك لا أحد ينكر أن برلمان 76 وما تلاه قد شهدوا استجوابات قوية جدا من أقطاب المعارضة الذين صالوا وجالوا وهم يعرضون استجواباتهم وفى مقدمتهم د. محمود القاضى المعارض العنيد صاحب الاستجواب الشهير عن العيوب فى نفق الشهيد أحمد حمدى والمستشار ممتاز نصار الذى قدم استجوابا عن مشروع هضبة الأهرام الذى عارضته بشدة د. نعمات أحمد فؤاد، ونجح فى وقف إنشاء هذا المشروع الاستثمارى الذى كان سيقام فوق هضبة الأهرام التاريخية، مما حافظ على جمال المنطقة وأهميتها الأثرية وساهم فى حماية آثارنا.. وأصبح ممتاز نصار بعد هذا الاستجواب رمزا للمعارضة الوطنية ودورها فى حماية التراث المصرى. هناك أيضا أحمد ناصر واستجوابه عن شركات توظيف الأموال وعادل عيد الذى قدم استجوابا للشيخ الشعراوى وزير الأوقاف فى ذلك الوقت عن مخالفات فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.. أما علوى حافظ فارس الاستجوابات فى البرلمان فقد قدم عدة استجوابات أشهرها استجواب عن طهارة الحكم وآخر لوزير التموين عن رداءة رغيف الخبز وجاء بأرغفة من الخبز سيئة الصنع، ولكى يعرضها على الوزير صعد على «البنش» الذى كان يجلس خلفه ونزل إلى القاعة مترجلا قفزا حتى وصل إلى الوزير!! لم تكن الاستجوابات هى أدوات الرقابة الوحيدة لكنها كانت الأخطر والأقوى.. كانت هناك أيضا الأسئلة وطلبات الإحاطة وهذه أبدع فيها النواب وقدموها بالعشرات حول كل أوجه القصور فى أداء الوزارات.. وغالبا ما كانت ردود الوزراء إيجابية تعترف بالأخطاء وتعد بالتصحيح. مبادرة ومعاهدة السلام وقد شهد هذا المجلس فى ظل تعدد الأحزاب مبادرة السلام التى أعلنها الرئيس الراحل أنور السادات أمام المجلس يوم 9 نوفمبر 77.. كما وافق المجلس على اتفاقيتى كامب ديفيد فى 4 أكتوبر 1978 ثم إقرار المجلس لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل يوم 10 أبريل 1979. مجلس الشورى وفى التاسع عشر من أبريل 79 وافق الشعب فى استفتاء عام على إنشاء مجلس الشورى «مجلس الشيوخ الآن» وبناء على ذلك تم تعديل الدستور بعد موافقة الشعب فى استفتاء تم فى 22 مايو 1980.. وكان أول اجتماع لمجلس الشورى فى أول نوفمبر 1980. تميزت انتخابات مجلس الشورى عام 80 بأنها أول انتخابات تجرى فى مصر عن طريق القوائم الحزبية، بمعنى أن كل حزب يقدم قائمة بمرشحيه والقائمة التى تحصل على الأغلبية المطلقة «50٪ 1» من الأصوات الصحيحة تفوز.. وقد حرص السادات على الأخذ بفكرة الانتخابات بالقائمة فى مجلس الشورى من أجل إتاحة الفرصة لكل حزب أن يطرح برنامجه وبذلك تقوى علاقة كل حزب مع الشعب ويكتسب كل حزب مزيدا من الخبرة والقدرة على التفاعل مع فئات الشعب المختلفة بغض النظر عن نتيجة الانتخابات. وأجريت انتخابات مجلس الشورى بالقائمة الحزبية يوم 25 سبتمبر 1980 وخاضها الحزب الوطنى وحزب الأحرار وامتنع حزب العمل عن خوض الانتخابات وأسفرت الانتخابات عن فوز الحزب الوطنى ب100٪ من المقاعد. وقد راعى الرئيس السادات عند تعيينه للثلث المتبقى من أعضاء المجلس أن تضم الأسماء خمسة من حزب الأحرار وعلى رأسهم مصطفى كامل مراد رئيس الحزب و12 من الأعضاء المستقلين.. وقد ضم مجلس الشورى مجموعة من صفوة أهل الرأى والفكر والخبرة وانعقدت أول جلسة للمجلس فى أول نوفمبر 1980 ورأسها أكبر الأعضاء سنا الكاتب الكبير توفيق الحكيم الذى أكد فى كلمته ما لا أنساه أبدا وهو أن الديمقراطية لا تولد كاملة ولكنها تتكون بالنمو تبعا لبنية البلد وظروف المجتمع، والديمقراطية فى مواجهة الحكم تطير فى جو من الحرية بجناحى المعارضة والشورى.. فكما أن المعارضة ضرورة لبيان أوجه النقص فإن المشورة أكثر ضرورة لبيان وسائل الحل. وفى هذه الجلسة تم انتخاب د. صبحى عبدالحكيم كأول رئيس لمجلس الشورى وإبراهيم شلبى وكيلا عن العمال ود.شفيق بلبع وكيلا عن الفئات. واقعة لا أنساها أبدا اجراء انتخابات الشورى بالقائمة الحزبية ذكرنى بواقعة طريفة لا أنساها أبدا، بطلها المستشار حلمى عبدالآخر وزير الدولة لشئون مجلسى الشعب والشورى، الذى كانت تربطنى به صداقة قوية، وكلما ترددت أنباء عن تغيير وزارى كان كلما شاهدنى فى مكتبه يدعونى إلى صالون ملحق بالمكتب ليسألنى عن أخبار التعديل الوزارى وهل سيستمر أم يغادر منصبه؟ كانت الإجابة عن هذا السؤال تمثل بالنسبة له أهمية بالغة ربما لا يدركها إلا من تولى منصب الوزير وظل مع كل تعديل وزارى على كف عفريت.. المهم أنه بحكم مسئولياته الوزارية كان مدافعا بشدة عن نظام الانتخاب بالقائمة عندما تقرر الأخذ به والعدول عن النظام الفردى.. وفجأة صدر حكم من المحكمة الدستورية يقضى بالعودة إلى النظام الفردي.. كنت أنا وهو فى رحلة خارجية ووصلنا الخبر ونحن فى الطائرة فأصيب بصدمة وظل يقول لى «لقد قلنا فى النظام الفردى ما قال مالك فى الخمر حتى نقنع الناس بنظام القائمة.. ماذا سنقول الآن؟». لكن الله سبحانه وتعالى لم يرد له أن يواجه هذا الموقف الصعب فاختاره إلى جواره بعد أيام! وترك الساحة السياسية وما حدث فيها من تعديلات تشريعية انتهت إلى الجمع بين النظامين.. نظام القائمة والنظام الفردى دون أن تعترض المحكمة الدستورية.. وهو النظام المطبق حتى الآن. خلاصة القول، إن من يرتبط مثلى بالحياة السياسية والنيابية لحوالى 50 عاما يعيش فيها ويتفاعل مع أحداثها وأبطالها وتتحول علاقته بها إلى عشق لا ينتهى، ولهذا يعيش عمره كله «أسير البرلمان» وهو ما حدث معى حتى الآن.. وللحديث بقية إن شاء الله .