في آواخر العام 2023، فاجأت صحيفة الغد الأردنية قراءها، بتخصيص صفحتها الأولى لمقال مكتوب بالعربية، ومترجم إلى العبرية عنونته: «اليوم التالي بعد إسرائيل». في ذلك الوقت، لم تكن قد مضت سوى أسابيع قليلة على الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وكانت المنطقة تعيش حالة من الزخم حول مستقبل القطاع بعد حماس، وفقًا لما كانت تطرحه حكومة الاحتلال. كان هناك يقين راسخ داخل المؤسسة الإسرائيلية بأن اجتياح غزة والقضاء على حماس «مسألة وقت». إلا أن غلاف الصحيفة الأردنية كان لافتًا ومثيرًا للانتباه، خاصة في ظل «السلام» القائم بين الأردن وإسرائيل، وما انسحب بالتبعية على الخطاب الإعلامي المتبادل، أضف إلى ذلك أنه عاكس الاتجاه السائد، الجميع يتحدث عن اليوم التالي بعد حماس، ولم يدر في خلد أحد الحديث عن اليوم التالي بعد إسرائيل. لكن مع مرور الأشهر وعجز إسرائيل عن تحقيق أهدافها: تحرير الأسرى، وتفكيك فصائل المقاومة، وعلى رأسها حماس، والسيطرة على القطاع، ومع فتح الاحتلال أكثر من جبهة في وقت واحد، تبدو إعادة نشر المقال الأردني اليوم بمثابة «إشارة فرط صوتية» على أن استمرار العربدة الإسرائيلية في الشرق الأوسط قد يقود إلى ما تنبأت إليه الصحيفة الأردنية ▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️ وهنا أنقل حرفياً ما جاء في المقال آنذاك: (رغم أن التساؤل: «ماذا بعد إسرائيل؟» قد يبدو ضربًا من الفانتازيا، فإن طرحه بات ضرورة، خصوصًا بعد ما أظهرته الوقائع من صمود المقاومة، وتلقي الكيان الصهيوني ضربة قاسية في 7 أكتوبر. المعطيات على الأرض تشير إلى أن العد التنازلي للانهيار قد بدأ. الاقتصاد الإسرائيلي يتجه لإلغاء جميع مكاسبه خلال العام، بفعل الخسائر المباشرة للحرب، التي قد تتجاوز 200 مليار شيكل (نحو 51 مليار دولار). يضاف إلى ذلك الانقسام الداخلي بين القادة الإسرائيليين، وما رافقه من تردد في قرار الاجتياح البري لغزة، والجدل حول جدواه. بعد مرور 20 يومًا من الهجوم البري، لم تحقق قوات الاحتلال أي إنجاز يُذكر. جنرالات سابقون حذروا من أن دخول غزة يعني الوقوع في «مصيدة حماس»، وفشل الجيش الإسرائيلي في التوغل دفعه إلى زيادة وتيرة المجازر ضد المدنيين. بالموازاة، يتصاعد التوتر الداخلي الإسرائيلي: من احتجاجات أهالي الأسرى، إلى الانفجار المحتمل في أوساط المستوطنين وقوات الاحتياط. وعلى الجبهة الشمالية، يواصل حزب الله استنزاف الجيش الإسرائيلي، بينما تتوالى المواقف العربية، وفي مقدمتها الموقف الأردني، الرافض لإنهاء حماس أو تغييب القضية الفلسطينية. حتى التصريحات الأميركية – وعلى لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن – باتت تحمل اعترافًا ضمنيًا بفشل إسرائيل، عبر الحديث عن «مرحلة انتقالية بعد الصراع»، ورفض الحصار أو اقتطاع غزة، وهو ما قرأه مراقبون على أنه هزيمة سياسية وعسكرية مزدوجة. ▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️ يرى الكاتب والمحلل السياسي عريب الرنتاوي أن عدم نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها يعني هزيمتها، في مقابل نصر مؤزر للمقاومة التي صمدت وأفشلت مخطط التهجير والقضاء على حماس. ويؤكد أن هذه الهزيمة ستنعكس على المشهد الفلسطيني الداخلي، وستُضعف خطاب إسرائيل أمام العالم العربي، بما يفتح الباب أمام معارك لاحقة بروح معنوية أقوى. إقليميًا، يذهب الرنتاوي إلى أن مسارات التطبيع الإبراهيمي ستتآكل، وأن شهية بعض الدول العربية للتطبيع ستنحسر. كما سيتلقى الشارع العربي شحنة معنويات هائلة تدفعه لفرض أجندات جديدة في المنطقة. ويتجاوز أثر الهزيمة البعد الإقليمي، ليصل إلى النظام الدولي، حيث ينظر الروس والصينيون إلى غزة كأحد المحددات الكبرى للنظام العالمي الجديد. ويخلص الرنتاوي إلى أن هزيمة إسرائيل لا تعني فقط زعزعة صورتها الردعية، بل بداية العد العكسي لتفككها، عبر انشقاقات داخلية وصراعات سياسية وموجات هجرة مضادة لن تتوقف. ▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️ من جهته، يعتبر المحلل السياسي د. منذر الحوارات أن إسرائيل تكبدت هزيمتين مدويتين: الأولى في 7 أكتوبر مع انهيار منظومة الردع، والثانية في فشلها داخل غزة، ما يعني بداية انهيار المشروع الصهيوني. ويضيف أن ما تبقى من صورة القوة الإسرائيلية سراب، إذ لا تتجاوز ميزانية ترسانتها العسكرية 20 مليار دولار، في حين أن أدوات المقاومة البدائية بكلفة 5 مليارات فقط قادرة على كسرها. أما د. محمد القطاطشة، فيرى أن حماس انتصرت منذ 7 أكتوبر، إذ وجهت ضربة لمحور عالمي يضم أميركا وحلفاءها. ويؤكد أن هذا الانتصار يعيد الاعتبار لفكرة التحرر الوطني، ويفتح الباب لتغيير جذري في توازن القوى بالمنطقة. كما يضع الأنظمة العربية أمام أسئلة صعبة حول جدوى الإنفاق العسكري مقابل تهميش الصحة والتعليم. ويشير القطاطشة إلى أن هزيمة إسرائيل ستجبرها على القبول بحل الدولتين، وتدفع باتجاه إعادة اليسار إلى الحكم بعد فشل اليمين المتطرف. كما يفتح الباب أمام وجوه سياسية جديدة مثل نفتالي بينيت، في ظل تراجع حضور القيادات العسكرية التقليدية. ▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️▪️ إلى هنا انتهت اقتتاحية الصحيفة الأردنية، التي تعامل معها البعض على أنها درب من دروب الخيال، لكن يبدو أن ما توقعته الصحيفة في طريقه إلى أن يصبح واقعًا.