عبد الواحد النبوى لم تكن فلسطين مجرد قضية عادية لمصر؛ فطوال تاريخها قديما وحديثا وبعد اغتصاب الصهيونية لأراضيها كانت حجر الزاوية فى كل حراك مصرى. منذ أحداث يناير 2011 بدا للجميع أن ما قبل هذا التاريخ لن يكون مثل ما بعده، لذا كان على مصر أن تعيد ترتيب أوضاعها وتعيد هندسة سياستيها الداخلية والخارجية خاصة بعدما أصبح العرب فى لحظة انكشاف كبيرة وخطيرة فالأنظمة فى تونس وليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان والسودان تتداعى أو تداعت وكان على الطريق الجزائر والمغرب وموريتانيا علاوة على ما أصاب الصومال وجيبوتى وجزر القمر وكان فى الطريق بلدان عربية أخرى على وشك التداعى وإعادة هندستها لصالح أعدائها، وبدا أن دوائر المخابرات الغربية ترى أن اتفاقيات تقسيم العالم العربى أثناء الحرب العالمية الأولى (سايكس - بيكو / وعد بالفور) لم تعد صالحة للقرن الحادى والعشرين وأن مرور مائة سنة كافية لإعادة تقسيم المقسم، والسماح للكيان الصهيونى بالتمدد فى الأراضى العربية. عندما تولى الفريق أول عبد الفتاح السيسى فى منتصف عام 2012 وزارة الدفاع المصرية أدرك أن تفكيك المنطقة وإعادة تركيبها يضع مصر فى قلب دائرة الخطر وأن تحديث القوات المسلحة المصرية وإعدادها لمواجهة المخاطر على اختلافها ضرورة حتمية لا تحتاج لتأخير؛ فسار بالقوات المسلحة خطوات كبيرة فى التطوير والتحديث؛ ثم جاءت الثلاثين من يونيو عام 2013، فاستمرت مصر تحت قيادته فى طريقها بثوابت لا تتغير تجاه محيطها الإقليمى وقيمها المتجذرة فى ممارسة السياسة وبناء العلاقات؛ لا تعتدي، ولا تتدخل فى شئون الدول، ولا تسمح بتفكيكها. حرب أوكرانيا وجاءت حرب أوكرانيا التى أدت إلى انقسام العالم؛ فمن ليس مع أوكرانيا فهو ضد أوربا والولاياتالمتحدة ويقف مع روسيا وعليه أن يتحمل ما تجره عليه مواقفه من ويلات، ورغم أن الجميع شبه متفق على ألا تتحول حرب أوكرانيا إلى حرب عالمية ثالثة؛ إلا أن قادة أوربا والولاياتالمتحدة تحت قيادة جو بايدن لا يريدون للحرب أن تنتهى إلا بتدمير روسيا أو استسلامها وهو ما أطال أمد الحرب. كل ذلك فى وقت كان العالم تتبدل أنظمته الحاكمة؛ فأحزاب اليسار ويسار الوسط فى أوربا تخسر معاركها الانتخابية وتحل محلها أحزاب اليمين المتطرف الشعبوى المرتمى فى أحضان الصهيونية العالمية المؤيد لأطماعها فى فلسطين، بل وفى الأراضى العربية الأخرى، وكان على رأس تلك الدول ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وبولندا وهولندا والمجر وغيرها وهو ما انعكس على سياسات هذه البلدان والاتحاد الأوربى نفسه. وسرعان ما صعد اليمين المتطرف المتحالف مع الفاشية الدينية فى دولة الكيان الصهيونى بقيادة نتنياهو الهارب من المحكمة الجنائية الدولية، وسار هذا التحالف فى طريق تنفيذ أحلامهم بتفريغ الأرض الفلسطينية من أهلها وساعدهم فى ذلك وصول ترامب المتحالف مع الصهيونية إلى الحكم فى فترته الأولى عام 2017 الذى أطلق لهم العنان ليعيثوا فى الأرض فسادا فنقل عاصمة دولته إلى القدس واعترف بالجولان كجزء من إسرائيل وسمح بالتوسع فى الاستيطان فى فلسطين واغتصاب المزيد من الأراضي. القضية الفلسطينية لم تكن فلسطين مجرد قضية عادية لمصر؛ فطوال تاريخها قديما وحديثا وبعد اغتصاب الصهيونية لأراضيها كانت حجر الزاوية فى كل حراك مصرى وعلى كل الأصعدة فهى أمانة الأجيال السابقة للأجيال الحالية واللاحقة وأساس الحراك المصري: «الحفاظ على الأرض الفلسطينية، وعدم تهجير شعبها وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة»، وفى سبيل ذلك رفضت مصر كل الاغراءات والتهديدات للتخلى عن منهجها ورؤيتها وموقفها، وعندما جاء 7 أكتوبر 2023 ؛ لم تتخلى مصر عن القضية على اعتبار أنها لم تكن على علم بحدث كبير قد يجر المنطقة إلى خراب واسع بل عملت على احتواء آثار هذا العمل الذى لم يصب اليمين الصهيونى المتطرف فقط بالجنون بل أصاب أيضا الولاياتالمتحدة وحلفاءها الأوربيين وأطلقوا العنان لنتنياهو ليسفك الدم الفلسطينى وأمدوه بكل أنواع الأسلحة ووفروا له الدعم المعلوماتى وحركوا حاملات الطائرات ووضعوا قواعدهم العسكرية فى المنطقة وأساطيلهم لحماية إسرائيل، وكانت الرسالة أنهم لن يسمحوا لأحد بالتدخل ووفروا لها الظهير السياسى والدبلوماسى فى المنظمات الدولية ومجلس الأمن وتم استخدام الفيتو الأمريكى بكل قسوة، وتخطت جرائم نتنياهو حدود العقل، وأخذه الغرور إلى القول بأنه سيغير خريطة الشرق الأوسط. قمة القاهرة للسلام منذ اليوم الأول بعد 7 أكتوبر 2023 طالبت مصر بإعمال العقل وإرساء قواعد القانون الدولى والإنسانى ودعت إلى عقد «قمة القاهرة للسلام» فى 21 أكتوبر 2023 وحضرها أكثر من ثلاثين دولة وكان خطاب مصر واضحا وحادا وصريحا، وقال الرئيس نصا: « أؤكد للعالم بوضوح ولسان مبين، وبتعبير صادق، عن إرادة وعزم جميع أبناء الشعب المصرى فردًا فردًا: إن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث وفى كل الأحوال «لن يحدث على حساب مصر «، سأكرر أؤكد للعالم بوضوح ولسان مبين بوضوح ولسان مبين عن إرادة جميع أبناء الشعب المصرى فردًا فردًا: إن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث وفى كل الأحوال «لن يحدث على حساب مصر أبدًا « ثم قال «واليوم تقول لكم مصر بكلمات ناصحة أمينة: إن حل القضية الفلسطينية، ليس التهجير وليس إزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى؛ بل إن حلها الوحيد، هو العدل، بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة فى تقرير المصير، والعيش بكرامة وأمان، فى دولة مستقلة على أرضهم مثلهم، مثل باقى شعوب الأرض» ثم قال «فقد وجهت لكم الدعوة اليوم، لنناقش معًا، ونعمل على التوصل إلى توافق محدد، على خارطة طريق تستهدف إنهاء المأساة الإنسانية الحالية، وإحياء مسار السلام من خلال عدة محاور: تبدأ بضمان التدفق الكامل والآمن والسريع والمستدام، للمساعدات الإنسانية لأهل غزة وتنتقل فورًا إلى التفاوض حول التهدئة ووقف إطلاق النار ثم البدء العاجل فى مفاوضات لإحياء عملية السلام وصولًا لإعمال حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التى تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، على أساس مقررات الشرعية الدولية» كان هذا هو المنهج الذى سارت وتسير عليه مصر حتى اليوم، رغم أن كل من حضر المؤتمر كان واقعا تحت التأثير الكبير والضخم للنفوذ والدعاية الصهيونية الجارفة، ولم يقرأوا ما قرأه الرئيس عبد الفتاح السيسى مما سيحدث فى قادم الأيام، وبذلت مصر جهودا كبيرة؛ فعقدت مؤتمرات القمة العربية والإسلامية المتعددة واستخدمت كل قواها الدبلوماسية والسياسية وخاضت جولات متعددة من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وذهبت مرارا وتكرارا للمنظمات الدولية والأممالمتحدة ومجلس الامن إلا أن تصلب الموقف الأمريكى والأوربى حال كثيرا من وجود حل ينهى الأزمة، فقد مارست الصهيونية الإسرائيلية نفوذا كبيرا على ساسة الولاياتالمتحدة وأوربا، وخاصة بعد وصول ترامب إلى الحكم مرة أخرى فى يناير 2025. عادت مصر تكرر مرارا وتكرارا خطوطها الحمراء فى معالجة الأزمة، فلم تقبل بالتهجير ولم تقبل بالضغوط والإغراءات، وفى أغسطس 2025 قال الرئيس: «إن التاريخ سيتوقف كثيرا جدا وهيحاسب ويحاكم ناس كثيرين جدا ودول كثيرة على موقفها من هذه الحرب والضمير الإنسانى مش ها يفضل صامت بالطريقة دى وستظل مصر دوما بوابة لدخول المساعدات وليست بوابة لتهجير الشعب الفلسطينى ده كان موقفنا فى 8 أكتوبر ومازال موقفنا واضح نحن مستعدين لإدخال المساعدات فى كل وقت ولكن غير مستعدين لاستقبال أو تهجير الفلسطينيين من أرضهم هناك من له هدف آخر هو تشتيت الإنتباه عن المسئول الفعلى عن الوضع المأساوى الفلسطينى وأحذر كما حذرت سابقا من استمرار هذا الوضع» القانون الإنسانى وظلت مصر بالمرصاد لكل اعتداء على الشعب الفلسطينى أو كل دعوة مريضة لبناء إسرائيل الكبرى أو كل اعتداء على المقدسات، واستمرت تدعو إلى إعمال العقل وتطبيق القانون الإنسانى الدولي، وكثيرا ما كانت إسرائيل ترسل رسائل مبطنة لمصر توضح خطورة سياستها تجاه تلك الأزمة وكانت ردود مصر واضحة لا تهجير ولا تصفية للقضية الفلسطينية، بل إنها حذرت الدول التى يمكن أن تشارك فى تهجير الفلسطينيين إلى خطورة هذه الخطوة واستجابت لها الدول نجحت مصر فى حشد دعم دولى للاعتراف بالدولة الفلسطينية فى سبتمبر 2025 فزار رئيس فرنسا وكثير من رؤساء ومسئولى الدول والمنظمات الدولية معبر رفح ورأوا إغلاق إسرائيل المعبر من الجانب الفلسطينى واصطفاف 6000 شاحنة تطلب الدخول لغزة وترفض إسرائيل فتح المعبر إلا لإخراج الفلسطينيين فقط وليس لإدخال المساعدات رغم إعلان الأممالمتحدة أن غزة منطقة مجاعة.. طوال الفترة من 8 أكتوبر 2023 وحتى يومنا الحالى بذلت مصر جهودا كبيرة للحفاظ على القضية الفلسطينية فى عالم القطب الواحد الذى لم يراع حتى حلفاءه وجرت محاولات للإضرار بمصر، ورغم ذلك استمرت فى القيام بدورها وهو ما يحتاج إلى كتاب أبيض تصدره مصر يضم كل ما قامت وتقوم به ورؤيتها للقضية ليكون تحت نظر الجميع لنعرف إلى أى مدى تحدت مصر الظروف لتكون حصنا لفلسطين بعد تفكيك الكثير من الدول العربية.