لا شك أن فواتير الانحياز الأمريكى المطلق للإجرام الإسرائيلى أصبحت فوق الاحتمال. لا يمكن لدولة كبرى مثل الولاياتالمتحدة أن تقبل المزيد من العزلة الدولية والخسائر السياسية والاقتصادية والأخلاقية لكى تقف فى صف واحد مع دولة مارقة ترتكب أبشع الجرائم النازية، ولكى تحمى مجرمى الحرب الذين يقودون حرب الإبادة ضد شعب فلسطين من العدالة الدولية التى تطاردهم. الوضع الآن أخطر. مجرم الحرب نتنياهو «المحاصر دولياً وداخلياً» يرفض كل دعوات التهدئة ويغلق كل الطرق نحو أى حل سلمى. يرغم جيشه المنهك على حرب يحتل فيها كل غزة ويبدأ معها تنفيذ مخطط التهجير الجنونى، ويهدد «فى نفس الوقت» بضم الضفة الغربية والقضاء على السلطة الفلسطينية المحاصرة. ووسط الإدانة الدولية والمعارضة الداخلية لا يجد مجرم الحرب نتنياهو ما يبرر استمرار جنون الحرب إلا تكرار القول بأنه ينفذ سياسة متفق عليها مع واشنطن ويدعمها الرئيس الأمريكى ترامب. التطورات الأخيرة قد تحمل تغييراً فى سياسة واشنطن.. ما كتبه ترامب على منصته الإلكترونية كان لافتاً: «قولوا لحماس أن تطلق كل الرهائن، وستتغير الأمور بسرعة وتنتهى الحرب».. اللافت أيضاً سرعة استجابة حماس وإعلانها استعدادها لصفقة تعيد الرهائن وتفرج عن الأسرى وتضع نهاية للعدوان على غزة. ثم مسارعة نتنياهو لما أسماه مناورة حماس وتأكيده على أن الحرب لن تنتهى إلا بشروط إسرائيل. لا شىء محدد حتى كتابة هذه السطور، لكن قلق نتنياهو واضح من «تغييرٍ ما» فى السياسة الأمريكية.. ورغم غياب التفاصيل فإن ما قاله ترامب فى الأسبوع الماضى فى حوار تليفزيونى عن التراجع الشديد فى نفوذ اللوبى الصهيونى الأمريكى بسبب الحرب فى غزة كان مثيراً للانتباه. فهو يستطيع تحمل الضغوط الخارجية لكنه لا يستطيع تجاهل التطورات الداخلية التى تهدد سيطرته على الأوضاع فى أمريكا. لقد مارس كل الضغوط من أجل كبح جماح الحركة المتنامية لتأييد الحق الفلسطينى وخاصة بين الشباب، لكن النتيجة تقول إن أكثر من 60٪ من الأمريكيين يعارضون دعم إسرائيل فى حرب الإبادة، ويؤيدون الحق الفلسطينى. وأن الأمر ليس مقتصراً على الديمقراطيين وإنما فى داخل الحزب الجمهورى يرفض قطاع كبير ومؤثر «من أنصار ترامب وأمريكا أولاً» أن يستمر الدعم الأمريكى لإسرائيل، وأن تذهب أموال دافع الضرائب هناك لتمويل قتل الأطفال فى غزة. وترامب يعرف جيدا تأثير ذلك فى معركة التجديد النصفى للكونجرس فى العام القادم، ويرى نواباً بارزين فى حزبه يرفضون التمويل الصهيونى ويجاهرون بمعارضة أى دعم لحروب إسرائيل. لا يمكن أن تكون مصلحة أمريكا مع دعم استمرار حرب الإبادة، ولا مع مخططات التدمير والتهجير والتهويد التى يقودها مجرم الحرب نتنياهو، ولا يمكن أن تكون مصلحة أى رئيس أمريكى فى الارتباط بهذه الجرائم الإسرائيلية. ولا يمكن أن تتحمل أمريكا عبء العزلة الدولية ولا أن تتحمل أى إدارة أمريكية مسئولية ضد العالم دعماً لمجرم حرب، ولا أن يتحمل ترامب مسئولية انقسام حزبه وسقوط زعامته فى انتخابات العام القادم، ولا يمكنه - بعد الآن- تجاهل حقيقة أن فلسطين قد فرضت نفسها على الساحة السياسية الأمريكية، وأن إسرائيل لم تعد قضية مسلماً بها بعد أن أصبحت نسبة التأييد لها لا تتجاوز 20٪ فقط من الأمريكيين. ومع ذلك يبقى السؤال: هل سنرى تغييراً حقيقياً فى السياسة الأمريكية، أم أننا أمام مناورة سياسية لتهدئة الغضب العالمى ولتبرير استمرار الدعم الأمريكى لجرائم إسرائيل؟! الإجابة لن تتأخر، ليس فقط لأن آلة القتل الإسرائيلية لا تتوقف، أو لأن الإدانة العالمية تتعاظم، ولكن أيضاً لأن الداخل الأمريكى يرفض- بشكل قاطع- أن تتحول «أمريكا أولاً» إلى إسرائيل فوق الجميع.. وخارج المحاسبة وفوق كل القوانين.