عاطف محمد عبد المجيد «إنى رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتابًا فى يومه إلا قال فى غده لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يُستحسن، ولو قُدّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر» بمقولة العماد الأصفهانى هذه يفتتح أحمد الشهاوى كتابه «وصايا الكتابة..كيف نكتب..ولماذا؟ سيرتى فى الحرف»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية وفيه يُذكّر بأنه لا أحد يمكنه أن يجبر أحدًا على الكتابة، فالكتابة، مثلما يرى هو، منحٌ وعطايا وغنائم مفاجئة لا يتوقعها أحد، لأنها تأتى من مكان قصى غير محدد، ويمكن أن نقول إنها تأتى من اللا مكان، موصيًا الكاتب بأن يكتب وسوف يعثر، بعد حين طال أو قصر، على صوته الذى يميزه عن سواه، وعليه فقط المحاولة والسعى، ناهيًا إياه عن الكتابة فى موضوع لا يرغب فيه، أو يجد نفسه مجبرًا عليه. أحمد الشهاوى الذى يوصى الكاتب بأن يكتب فقط فى ما يرغب فيه، ولا يُرضى سواه مهما كانت المغريات، يرى أن أصدق وصية يمكن أن تُوجه لكاتب، من كاتب آخر أكثر خبرة وتجربة، هى: واصل واستمر، لا تتوقف يومًا عن فعل الكتابة، اكتب لتنتصر لذاتك، ليس للمال أو للشهرة، لأن الكتابة تقوّمك وتجعلك سويًّا، أحبب عملك كثيرًا، وأنجز ما يراود داخلك، وساعتها سيتحول خارجك ويتغير إلى الأحسن، اقتنص فرصك فربما لن يمنحها لك الزمن مرة ثانية، مشيرًا إلى أن الإنسان فى حاجة ماسة ومُلحة إلى الشعر والرواية والقصة القصيرة وكل فنون الكتابة التى عرفتها الإنسانية بأشكالها وتياراتها واتجاهاتها المختلفة. كما يؤكد أنه على المرء، فى الكتابة، أن يكون حرًّا من المنهج، منشقًّا عن القطيع، خارجًا عن المألوف والمستقر، داعيًا الكاتب إلى أن يكون مغامرًا وثائرًا فى لغته وفكره وأسلوبه، أن يحاول قدر ما يستطيع أن يكتشف ما وراء الأشياء الظاهرة أمامه، أن يكون ماهرًا فى الملاحظة وهو يعرض حقائقه فى نصه، مشيرًا إلى أن من أراد أن يكون كاتبًا جيدًا متحققًا فعليه أن ينتظم فى دفع ضرائب الكتابة فى القراءة والإتقان، الزهد والسخاء، الإخلاص والالتزام، الانضباط والصمت، العزلة والوحدة، التدقيق الدائم فى الذات والترحال داخليًّا وخارجيًّا. الكتابة صعبة ومرهقة الشهاوى صاحب الباع الطويل فى الكتابة، شعرًا ونثرًا، الذى يرى أن الكتابة صعبة ومرهقة، يعتبرها صوت الكاتب الحقيقى الذى ينقذ سيرته ومسيرته من الفقدان، إنها طريقه للتحقق والفرح، وليس طريقًا للمجد والظهور بين الناس، لأن عزلة الكاتب تحميه وتجعله متوحدًا مع نصه، منفتحًا على عوالمه، مدركًا لدوره فى تغيير نفسه أولًا ومَن حوله ثانيًا، لافتًا النظر إلى أن الشكل الكتابى أمر فضفاض وواسع، ذاكرًا أنه لم يذهب إلى الكتابة إلا ليدخل البهجة على نفسه، ليمتلئ قلبه مسّرة وفرحًا، إذ يبتهج هو بالتأمل والنظر عميقًا نحو ما لا يراه الآخرون، فالكتابة هى التى تغيّر، هى القادرة على إحداث ثقب غائر فى من يقرؤها بحيث يصير إنسانًا آخر أثناء القراءة وعقب الانتهاء منها، ذاكرًا أنه، رغم مرور السنين على إمساكه بالقلم وممارسته الكتابة، لا يزال يخشى الورق والحبر، ويهرب من الكتابة ذاهبًا نحو القراءة، إذ كل كتابة مسئولية جسيمة محفوفة بخطر مساءلة الذات وتقويم الآخر، وأن الكتابة كالحب لا يمكن التخطيط لها مسبقًا، لكن لا بد لها من روح ونفْس وقلب، تتسم جميعها بالشفافية والصحة من أمراض الغيرة والحسد والحقد والكآبة التى تصيب البشر من ناقصى العقول والنفوس، لأن نصف نفس لا يمكن لها أن تنتج كتابة سوية. وهو لا يكتب ليحقق مالًا، ولا يهدف عندما يكتب إلى إمتاع من يقرأ له وحده، بل يمتع نفسه أولًا، وهذه هى المكافأة المباشرة غير المؤجلة من أرباح الكتابة التى تتطلب ذكاءً وعملًا مستمرًّا وصبرًا طويلًا وجهادًا وتجردًا وزهدًا مع الحرف، وصفاء وحرية لا حدود لها، مؤكدًا أنه يحاول أن يكتب الكتاب الذى يسعى إلى قراءته، لأنه يحب أن يُذكر بعد موته بكتاباته ويظل اسمه دائمًا، مؤكدًا كذلك أنه من حق كل إنسان أن يكتب ما يشاء، فحرية القراءة والكتابة مكفولة للجميع وللإنسان الحق فى التعبير عن ذاته بكل أشكال وأجناس الأدب والفن، مبينًا أنه لا أحد يستطيع أن يمنع أحدًا عن الكتابة، وفى الأخير هناك فرز دقيق وغربلة ونخل وانتخاب طبيعى تمارسه الحياة الأدبية والثقافية بشكل عام لما تطرحه الأقلام فى المشهد الأدبى وفى سوق الكتابة، مشيرًا أنه لا يرى عيبًا فى أن يكون هناك كتاب كثيرون، لكن العيب هو الاحتفاء المبالغ فيه، والاحتفال، بالباطل، بالنصوص الأدبية التى لا ترقى لمستوى النشر من الأساس. خلاصة تجربة ما يقدمه الشهاوى هنا ليس مجرد وصايا أو نصائح للكاتب الذى يخطو خطواته الأولى فى عالم الكتابة الفسيح، إنما خلاصة تجربة امتدت لسنوات وسنوات مع الكتابة، وهو الذى كتب الشعر، الرواية، المقالات النثرية، ورسم عددًا من اللوحات الفنية، ذاكرًا أن أفضل أنواع الكتابة هى التى يسعى صاحبها إلى البقاء للأبد، يظل الناس يتذكرونه دومًا لقيمة كتابته وأثرها، فالكتابة التى تولد للشهرة أو للتسلية أو لأغراض أخرى لا تدوم طويلًا يبتلعها جب النسيان فى سرعة مذهلة، مؤكدًا أن التوقف عن الكتابة هو بمثابة الموت الحقيقى بالنسبة للكاتب، مشيرًا إلى أن أجمل وأهم ما فى الكتابة أنها تكون متوافقة ومتوائمة مع روح الكاتب ورؤاه، وتكون كذلك مرآة للزمن الذى يعيش فيه أو العصر الذى يتخيله، ذاكرًا أن حجم موهبة الكاتب هو الذى يحدد نوع النص وتنوعه وغناه، وما دام هناك كتاب موهوبون فنحن أمام نصوص مختلفة ومغايرة وجديدة فى تناولها للأفكار، ومن يجتهد فى نصه سيصل إلى كل القراء بيسر وسهولة، محذرًا من خطورة أن يظل الكاتب ظلًّا لغيره، قائلًا إن الإنسان خُلق ليسعى ويتأمل ويسأل ويصف ويُؤوِّل ويستلهم ويذهب نحو الجوهر والمتن لا المحيط والهامش، يخطو نحو المسكوت عنه والمنسى والمهمَل، ليؤسس ويبنى ويُعمّق، مطالبًا الكاتب ألا تكون الكتابة لقمة عيشه، أن يكتب ليستمتع، ويمتع الآخرين، فالكتابة مهنة ورسالة وحياة وحاجة ملحة للروح التى تشرق وتسأل، ووظيفة الكاتب هى الخَلق، لكنها ليست المقصد الأول لكسب المال أو الوجود فى طبقة اجتماعية أعلى. ما يراه الشهاوى أن الكاتب يستطيع أن يحيا فى كل كلمة يكتبها، وأن الكاتب لا يقول كل شيء، بل يترك مساحة ما بيضاء ليملأها القارئ بمشاعره وأحاسيسه، كأنه يكتب أحواله عبر مخيلته التى تشتغل بعمق وانسيابية ساعة القراءة، مطالبًا الكاتب أن يكون على قناعة بما يكتب كى ينجح فى إقناع من يقرأ له، محذزًا وبشدة ألا يحكى الكاتب لأحد عن عنوان عمله القادم، أو فحواه لأن لصوص الأدب ملأوا شوارع المدينة وبيوتها ومنتدياتها ومقاهيها، لافتًا النظر إلى أن الإبداع فعل فردى، وكل إنسان موهوب بالفطرة، ومن يهوى القراءة والكتابة، يستطيع أن يواصل المسيرة لو حرر طاقته، ورسم خريطة لتوجيه خياله واستثماره، واجتهد وأخلص وسعى وثابر وأصر على أن يحقق حلمًا كان متوازيًا داخله أخفاه عن الجميع. أحمد الشهاوى يرى هنا أن جميع الكتاب عيال على اللغة والشعر، ولا أحد يكبر فى الكتابة، إذ يبقى الشاعر، وغيره من الكتاب، يتعلم حتى النفس الأخير، التجارب والكتب وكل ما يصادف الشاعر يتعلم منه، ويظل يكتب ويحذف، ينحت ويمحو، فليس هناك نص نهائى وأخير أمامه، معلنًا أن الكتابة تحرر الكاتب، تعالج روحه من أسقامها، وتجعله مستقلًّا ومنحازًا لنفسه، ورغم أن الكتاب عنوانه وصايا الكتابة، إلا أن الشهاوى، يفكر هنا مع قارئه بصوت مسموع، يعلن أنه لا يتبع، نصائح وإرشادات، أو وصايا ودروسًا نظرية، هو فقط يتبع حدسه وحسه، يجرب ويستكشف ويحاول البحث عن طرق وأساليب ولغات متعددة داخل النص، متسائلًا ما قيمة الحياة دون القراءة والكتابة؟ مجيبًا بأن العالم سيصبح مملًّا وكئيبًا ورتيبًا ولا نفع يُرتجى منه، مؤكدًا أنه ليس هناك تناقض أو تنافس أو صراع بين جنسين أو شكلين أدبيين، إنما العلاقة بينهما تعنى التعدد والتنوع والغِنى والجدل الخلاق الذى يثرى الكتابة الإبداعية، مشيرًا إلى أن الفن الذى لا تتحقق فيه الشعرية هو فن ينقصه الكثير، ذاكرًا أن الماضى متحف لا تضمحل آثاره وهو أساس عمارة المستقبل، وأن أكثر ما يزعج المرء هو أن تخونه ذاكرته، عندما يكون فى مسيس الحاجة إليها، وهذا أمر يكاد يحدث يوميًّا فى حياة الإنسان، معتقدًا أنه ليس هناك جنس أدبى محدد يمكن أن يكون مناسبًا للمرأة، أو على مقاسها النفسى والاجتماعى، فالمرأة، يرى، بوّاحة بطبيعتها، وهى أكثر اعترافًا من الرجل الذى هو صندوق مغلق، مشيرًا إلى أن الكتابة وحدها تغنى الروح وتُعلى النفس وتجعل الإنسان فى عليين بعيدًا عن غبار الإسفاف والتشاتم، والكتابة التى ستبقى بعد مصفاة الزمن هى التى لا تعوّل على روافع من خارجها، أو تتكئ على منصب، أو تبحث عن قيم مضافة تسندها، وهى فقط التى تقاوم عوامل الزمن، وهى التى تقدم نفسها. مديح الكتابة وصايا الكتابة الذى يضم مديحًا للكتابة واعترافًا بجميلها الفريد على الكتّاب، جاعلًا منها ملكة متوجة على عرش الحياة، بل هى الحياة ذاتها، لا يتصور كاتبه أن شخصًا يعيش دون مكتبة، كما لا يتخيل إنسانًا يعيش على هذا الكوكب دون قراءة، رافضًا أن يعيش الكاتب، أو الشاعر، ويكتب وهو خالى الوفاض من المعرفة، وكذلك لا يكتمل الإنسان بلا كتاب يقرأ فيه، فالكتاب هو أداة تفكير ومن يحمله هو مشروع إنسان حر، والكتاب يملأ فضاء المكان حرية إذ يبعث على التفكير ويُرسخ المعرفة ويدعو إليها، مؤكدًا أن محاولة منع الكتب والمطبوعات أو حجبها لهو نحر تدريجى فى سواحل الحرية التى يحاول المجتمع بناءها أو إعادة الحياة إليها. أيضًا يكتب الشهاوى قائلًا إن الفارق بين كاتب وآخر هو حجم ما يقرأه ونوعه، ومساحة الموهبة التى منحتها له السماء، معترفًا أن الكتابة قبل أن تكون فنًّا هى بوح عميق وباطنى لما وراء أسرارنا، لذا من لم يبح يمرض وينساه الطريق، ومن يبتعد عن الزيف فى الكتابة سيحقق ما يريد ويتمنى من كتابة حقيقية عالية، لا ادعاء فيها ولا بحث ولا مغازلة اتجاه أو تيار أو شكل حديث أو كلاسيكى، واصفًا الكتابة بأنها صعبة ولا تُستأجر، ولا تلتفت إلى المغريات، فنفسها أبية وشامخة، ولا تذهب إلا لمن يستحق، وإذا أخطأت الطريق مرة نحو كاذب فسرعان ما ترتد إلى نفسها نادمة على خطوتها، واصفًا الكتابة بأنها فردوس موجود يمنحها الكاتب حياته ومشاعره وخبراته وسيرته الذاتية وذكرياته ورسائله وإخفاقاته فى الحب والحياة، مبينًا أنواع الكتّاب، إذ منهم فئة تحتل المتن وهم الذين تلفت نصوصهم انتباه النقاد ورموز الحركة الأدبية، ومنهم فئة الأكثر مبيعًا وذيوعًا بين القراء، غير أن نصوصهم ليست منعكسة فى مرايا النقاد، ومنهم من لا يهتم بهم النقاد ولا يحظون كذلك بقبول القراء، وهذه الفئات الثلاث هى التى تشكل خريطة الكتابة، مُصدرًا تعجبه: ما أكثر الكتّاب وما أقل الكتابة التى تبقى طويلًا! فى وصايا الكتابة الذى يُنبه إلى خطورة التضييق على الكتاب والمبدعين، نافيًا عنه كونه حكيمًا، يذكر الشهاوى أنه ليس هناك فرق، فى ثقافتنا المعاصرة، بين الخطاب والخطابة، ولهذا السبب سنبقى طويلًا فى ذيل الفكر، معلنًا كرهه لمقالات التلسين التى يمارسها الكارهون لمن امتازوا وخطوا لأنفسهم طريقًا فريدًا فى الكتابة، داعيًا الكاتب إلى أن يكون متنوعًا ومتعددًا ومختلفًا، وألا يمشى فى طرق أحد مقلدًا إياه، وأن تكون كتابته واضحة الرؤية والفكر، مستنكرًا فكرة احتفاء بعض الكتاب بثقافة المستعمر معتبرين أن أى كلمة كتبها كاتب أوروبى أو أمريكى هى الأنموذج والمعيار والمثال الذى ينبغى أن يُحتذى، مؤكدًا أن كتاب العالم وشعراءه وجدوا فى الإرث العربى، الفكرى والروحى والأدبى، ما يفيد ويلهم من مادة إنسانية مشتركة، ومن ثم استطاعوا هضمها وتوظيفها والتأثر بها، ذاكرًا فى الأخير أن الشعر لا يتراجع، بل الإنسان هو الذى يتراجع، ويتخلف عن القصيدة وتطورها، والشعر لا يموت، بل قيم الحياة هى التى تحتضر، أو على الأقل تتوارى وتختفى.