«وكأنه فوجئ بما يراه مما لم يتوقعه من وجود كمية أخطاء لغوية وإملائية، فمط ّ شفتيه بعد أن تناول السيجار بيسراه وأعطانى الصفحات بيمناه ليفتح معنا حوارًا ويطلعنا على بعض الأمور». حكايات العمر عديدة متنوعة منذ الصبا والشباب، وصولًا إلى العمل بالصحافة على مدار أربعين عامًا وشهور، اختلط خلالها العمل بالسعادة حينًا وبالشقاء حينًا ثانيًا وبالمصادفات القدرية حينًا ثالثًا، وهذه واحدة من تلك الحكايات مهداة لمن ألغوا أقسام التصحيح بالمواقع الخبرية التى يسمونها بالصحافة الإليكترونية اعتمادًا على برامج التصحيح الآلى وبرامج الشات جى بى تى.. ◄ الظهر: تليفون سري! العام 2007، ذات يوم من شهر مايو من ذلك العام وأنا بمكتبي بالأخبار فوجئت بتليفون من شخصية قيادية بالجريدة يهمس فى سماعة التليفون: سعيد عايزينك فى مهمة انتحارية! قلت فى نفسى ثم لمحدثى: وما نوع تلك المهمة فلست أجيد إلا ما أعمل، وليس لى فى الأعمال الانتحارية. قال محدثى: هى عملية انتحارية لعمل صعب مطلوب إنجازه الليلة دون تأخير! قلت له: مادامت العملية الانتحارية فى العمل فأهلًا وسهلًا! قال: وستحتاج معك زميلًا آخر تختاره يكون أمينًا على السر! تعجبت وقلت: أى سر يكون زميلى أمينًا عليه؟ من الآخر هكذا قال محدثى هى رسالة دكتوراة ومطلوب تصحيحها الليلة فى سهرة واحدة. قلت: هذا هو نوع العمل فلماذا السرية؟ قال: المهمة ستكون فى بيت المحامى الشهير «فريد الديب» لرسالة دكتوراة خاصة بابنته. كان المحامى الشهير رحمه الله فى ذلك الوقت مستشارًا قانونيًا لمؤسسة أخبار اليوم، أما محدثى على الطرف الآخر فكان من قيادات العمل التحريرى بأخبار اليوم وقتها، وكان يجمعنا عمل بمجلة عن سوق المال والاقتصاد كنا ننجز تجهيزاتها الفنية بمكتب للتجهيزات الفنية وسط القاهرة، حيث ربطت بيننا علاقة قوية من خلال تلك المجلة ورأى كيف أقوم بعملى على سبيل الاستمتاع بالعمل قبل مجرد إنجازه، وتقاربنا كثيرًا. بالطبع رحبت بالمهمة التى أراد منى إنجازها فقد كان مكلفًا بالبحث عن مصحح على ضمانته من قبل رئيس مجلس الإدارة وكان وقتها المهندس عهدى فضلى رحمه الله حفاظًا على الإنجاز بسرية. وأسررت لأحد زملائى ممن أعلم قدراته وأمانته وحفظه للقرآن مما قد نحتاجه ليلتئذ. وأخبرته بالتفاصيل بعد أن أعطانى محدثى عنوان الفيلّا التى سنذهب إليها فى منطقة منيل الروضة. ◄ العصر: بداية المهمة انتهت ورديتنا بالعمل فى الأخبار بعد صلاة العصر ونزلت وزميلى وركبنا سيارتى الفيات 132 العتيقة وتوجهنا إلى الفيلّا، ولم تكن هناك مشكلة فى ركن السيارة كالمعتاد فى شوارع القاهرة، فالمنطقة بها عدة فيلل وليس فيها تكدس سكانى، وركنت السيارة على مقربة من الفيلّا أو القصر الصغير، وتوجهنا إلى البوابة حيث كانت البيانات الخاصة بنا قد سبقتنا لمن سيستقبلنا ويفتح لنا الباب، واستقبلتنا أولا صاحبة الرسالة، واصطحبتنا إلى حيث سيستقر بنا المقام حتى ننجز العمل بمراجعة الرسالة. كل ما خرجت به من الفترة التى قضيناها بالفيلّا أن المحامى الشهير وابنته كانا الساكنين الوحيدين بالفيلا، ويقوم على خدمتهما خادمة أجنبية وخادمان لتقديم المشروبات والأطعمة، وطبعًا كنا قبل نزولنا من العمل بالأخبار قد تناولنا وزملاؤنا بالوردية ساندويتشات الفول والطعمية إطلالة المصريين صباحًا فى الأطباق ومساء فى سندويتشات. وجاء السفرجى الأسمر يسألنا ماذا نريد أن نشرب. وبدأنا رحلة الشراب بالشاى ونحن فى حالة من الانكماش داخل بيت هذا الرجل الشهير فى عالم القضاء الواقف. وأحضرت الدكتورة صاحبة الرسالة صفحاتها المطلوب تصحيحها، وهى حسب ذاكرتى حوالى 360 صفحة من قطع متوسط، وقالت لنا إذا احتجنا لشيء أن نبعث لها مع السفرجى القائم على تلبية المشاريب حتى حلول موعد العشاء. ولم يتوان السفرجى فى أن يصنع لنا مشاريب مختلفة طوال فترة العمل. وأمسكت بيدى صفحات الرسالة لألقى نظرة سريعة تعطينى لمحة عن نوعية الأخطاء المحتملة إملائية كانت أم نحوية، وتناولت جزءًا من الرسالة ينتهى عند نهاية فصل من الفصول وكان تقريبًا حوالى 200 صفحة، واقترحت على زميلى أن ندون ملاحظاتنا غير الإملائية والنحوية فى ورقة مستقلة لنراجع فيها صاحبة الرسالة، وأخرجت من حقيبتى عدة ورقات بيضاء أعطيت بعضها لزميلى والبعض الآخر احتفظت به بجوارى، وتقاسمنا رأسى منضدة بالحجرة التى أجلسونا بها وكل منا معه قلمه وأوراقه والجزء الذى يخصه من الرسالة. ◄ المغرب: الرجل الكبير ومع أذان المغرب طلبنا من السفرجى أن يأتينا بمصلية لنصلى المغرب، وكنا قد قطعنا شوطًا فى الصفحات، وما كدنا ننتهى من صلاة المغرب حتى فوجئنا بالمحامى الكبير يدخل علينا وفى فمه سيجاره الشهير وبهدوئه المعتاد حيّانا وتناول بعض الأوراق التى قمنا بتصحيحها ليلقى نظرة على ما نقوم به، وحاولت مراقبة ردود أفعاله وتعبيرات وجهه والسيجار فى فمه وكأنه فى حوار داخلى مع نفسه، وكأنه فوجئ بما يراه مما لم يتوقعه من وجود كمية أخطاء لغوية وإملائية، فمط ّ شفتيه بعد أن تناول السيجار بيسراه وأعطانى الصفحات بيمناه ليفتح معنا حوارًا ويطلعنا على بعض الأمور. قال لى: تعرف أنا كنت حاكتفى بمراجعتى للرسالة وتذهب للمناقشة، وكنت أرى أن علاقتى باللغة العربية كافية لضبط الأخطاء. قلت له: وسيادتك اقتنعت برأيك دلوقتى ولا غيّرت رأيك؟ قال لنا: أنا مندهش من كمية الأخطاء اللى قدامى وتأكدت فعلًا أنها كانت فى حاجة لمراجعة متخصصة. وكما قال المثل ادى العيش لخبازه. وقال له زميلى إن هناك أيضًا أخطاء فى الصياغة كانت تحتاج للضبط، وأردفت أنا: مش كدة بس دا فيها بعض الأخطاء فى الهوامش عن المراجع التى تكرر ذكرها وورد بها بعض الأخطاء فى أسماء تلك المراجع، هى أخطاء بسيطة لكنها ملحوظة. وناولته الورقة التي دونت فيها بعض الملاحظات التى لفتت نظرى ورأيت أنها تحتاج للمراجعة مع صاحبة الرسالة، فنظر بها معبرًا عن سروره من ضبط تلك الأخطاء قبل المناقشة. ◄ العشاء: كباب أبو شقرة! وهكذا مضى بنا الوقت يدخل هو ليتابعنا، ثم تأتى هى لتراجع معنا الملاحظات التى دونتها وزميلى فى ورقة جانبية، حتى إذا حان وقت العشاء جاءتنا هى لتدعونا إلى العشاء بالغرفة المجاورة، وبعد تمنُّع منا أصرت هى، وللحق كنا على جوع فلم نقاوم كثيرًا حتى إذا وصلنا إلى قاعة الطعام وجدنا سفرة فخمة من عند الكبابجى الشهير بشارع قصر العينى، سفرة تكفى خمسة أشخاص، وبالطبع اندهشنا لهذا الكرم الحاتمى وظننا أن المحامى الشهير سوف يقاسمنا طعام العشاء، لكنه جاء فقط ليؤكد على أن نأكل براحتنا واعتذر لأنه تناول عشاءه التقليدى البسيط ولن يطعم معنا، وقاسمتنا ابنته الطعام الفخم. ومضى من الليلة نحو منتصفها فما بعده بساعة فساعتين وفى الثانية صباحًا كنا قد أنجزنا العمل كاملًا، وساعدنى على الإنجاز أن موضوع الرسالة كان حيويًا ومستشرفًا لقضية انفجرت مع بناء سد النهضة الإثيوبى، فقد كان موضوع الرسالة عن الطبيعة القانونية للمعاهدات الخاصة بالانتفاع بمياه الأنهار الدولية فى غير أغراض الملاحة مع دراسة تطبيقية للاتفاقيات المتعلقة بنهر النيل. انتهينا من العمل وجاء المحامى الشهير ليلقى النظرة الأخيرة على العمل وجاءت ابنته لتلقى نظرة سريعة على الملاحظات التى ملأت عدة ورقات، وشكرتنا على مجهودنا الذى بذلناه، وانتحى بى الرجل الكبير جانبًا وأعطانى مظروفين أحدهما يخصنى والآخر لزميلى، وهمس فى أذنى أنه ميزنى أكثر من زميلى باعتبار أننى الذى اخترته واعتبرنى رئيس المجموعة التى تكونت منا نحن الاثنين. وأخذت منه مظروف زميلى وشكرناه على حسن الضيافة وكرم الأخلاق فى التعامل معنا، وفى قرارة أنفسنا سعدنا لكرمه فى تقدير مجهودنا ماديًا.. وانصرفنا أنا إلى سيارتى وزميلى باحثًا عن تاكسى يوصله إلى المعادى، وكانت ليلة لا تنسى بالفعل، بعد عشر ساعات من الشغل اللذيذ!. ◄ «فلاش باك» للتذكرة تذكرت تلك الليلة وتصورت من قرروا الاستغناء عن التصحيح والتدقيق اللغوى فى منافذ إعلامية إليكترونية، وتصورت أن من يقوم بالتصحيح هو الشات جى بى تى وقلت فى نفسى فعلًا لم يكن سيكلفهم طعامًا ولا مشاريب ولا مقابلًا ماديًا فى مظروف، فقط سيوفر المختص بالتصحيح، ولتذهب الرسالة بما فيها إلى الجحيم!