اعتاد د.طه حسين عميد الأدب العربى أن يتناول بالنقد والتقييم معظم الإنتاج الأدبى الذى يكتبه الأدباء الشباب - وقتها - على صفحات جريدة الجمهورية أو مقدمات كتبهم، وتناول بقلمه أعمال د.يوسف إدريس ونجيب محفوظ وثروت أباظة وعبدالحليم عبدالله وغيرهم من الأدباء. لكن أغرب ما كتبه د.طه حسين لم يكن فى الأدب بل كان عن الصحافة وكل ما يتعلق بها، وذلك عندما طلب الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» منه هذه المقدمة ليضمنها كتابه المهم «هذه هى صحافتنا بين الأمس واليوم» والذى صدر عام 1956. ولمقدمة د.طه حسين قصة رواها الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فى مقدمة أو مقدمات كتابه فكتب يقول: «تعرضت الصحافة المصرية فى الفترات الأخيرة لحملة شديدة بسبب انصرافها عن الجدية وانطلاقها فى إثارة الجمهور بشتى الوسائل، ولست أفكر كصحفى أن المسئولية فى هذا التحول تقع على أكتافنا - على حد ما - كما أنها تقع على أكتاف الذين شجعوا الصحافة على المضى فى هذا الطريق الوعر إلى أبعد الحدود! ومن بين هؤلاء جمهور القراء الذى رضى أن يدخل سوق المزايدة ليدفع القروش لكل قادر على أن يزيد فى الإثارة، فالمسئولية هنا مشتركة اشتراكاً أكيداً. والقول بإن الصحافة هى المسئولة وحدها مسئولية كاملة عن التحول العنيف الذى أصاب صاحبة الجلالة هو قول خاطئ! ولقد عولج هذا الموضوع فى الأحاديث العامة والخاصة بالبحث والنقد والتجريح.. وحاول الكثيرون أن يخرجوا بنتائج هذه البحوث جميعاً إلى صفحات الصحف فنشره البعض ولم ينشره البعض الآخر». وعندما فكرت فى وضع هذا الكتاب تمنيت لو أن الكثيرين من قادة الفكر والرأى اشتركوا معى فى وضعه حتى يخرج الكتاب فى نهاية الأمر بمجموعة من الآراء المختلفة ذات الصلة بهذا الموضوع الحيوى الخطير تنفع جيلنا الجديد الذى يريد العمل فى الصحافة.
د.طه حسين- غلاف الكتاب
ويكمل الأستاذ جلال الدين الحمامصى مقدمته قائلا: ولكن إذا كانت هذه الأمنية لم تتحقق بأكملها كما أريدها، فقد تحققت إلى حد بعيد كبير، فلقد اعتدت أن أزور الدكتور «طه حسين» بين الحين والحين وكنا نتحدث أكثر ما نتحدث عن الصحافة وعن الدور الذى كانت تلعبه فى الماضى، والدور الذى تلعبه فى الحاضر، والدور الذى تريد أن تلعبه فى المستقبل! وكنت أستمع إلى هذا الحديث الممتع، وأرى فيه صدى لما يجول فى خاطرى وفى نفسى، ولم أفاتح الدكتور طه فى أنى أوشك أن أكتب كتاباً، أو أن أخرج لجيلنا الجديد كتباً فى هذا الموضوع الخطير، بل اكتفيت عندما انتهت من طبع الكتاب أن أقدمه إلى الدكتور «طه حسين» ليقول رأيه فيه كتابة، ولست أعنى بهذا أن يقدمه إلى القراء، وإن كان هذا يشرفنى - بل أن يعطيه من قوة رأيه، وقوة حجته وقوة توجيهه فى هذا الموضوع الخطير ما يجعله أكثر نفعا للجيل الجديد. لقد كان الدكتور «طه حسين» من أوائل الذين تعلمت على أيديهم الصحافة، كنت طالباً فى مدرسته عندما كان يكتب فى جريدة كوكب الشرق، وقد كان أول لقاء بينى وبينه فى تلك المدرسة، وكنت أقرأ له ما يكتب كل يوم، ولم يكن ما يكتب قاصراً على مقال واحد، بل كانت له فى كل صفحة من صفحات «الكوكب» آراء مكتوبة أو توجيهات، أو نقد لاذع، ورأينا أرقام توزيع «كوكب الشرق» ترتفع ارتفاعاً كبيراً يوماً بعد يوم، لأن جمهور القراء كان يريد أن يقرأ رأياً وأن يكون هذا الرأى من «طه حسين». ويمضى الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فيقول: ولأكن صريحاً فى كل صفحة من صفحات هذا الكتاب، ولأثبت رأيى من غير ما تردد، فأتساءل هل أصبحت الصحف اليوم تعتمد على الرأى، وكاتب الرأى، كما تعتمد على الجريمة ومرتكب الجريمة؟! وهل أصبح الإعلان عن انضمام كاتب صحفى كبير إلى صحيفة من الصحف علامة على أن أرقام التوزيع سترتفع حتماً؟ بل هل أصبح الرأى له مكانه الأول فى أى صحيفة من الصحف؟ أم تراجع هذا الرأى ليفسح مكانه للقصة المثيرة ذات الوقائع الجنسية الصارخة؟ وليس هذا يعنى أن كتابنا قد هبط مستواهم فى السوق، بل يعنى أن الذى هبط هو المستوى الذى أصبحت فيه صحافتنا! بينما ارتفع مستوى الكتاب إلى الدرجة التى لا تقوى الصحافة على الصعود إليها! بل يعنى أيضا أن هدف الصحافة أن تقدم للقراء بضاعة رخيصة تذوب مع ذوبان النهار فتجنى من وراء ذلك ربحًا كبيرًا! وهذه هى الكارثة التى يجب أن نضع لها حدًا! بل هذه هى النار التى بدأت تلتهم غذاء الفكر وغذاء الروح وغذاء التوجيه والبناء تاركة وراءها الغذاء الرخيص.. الغذاء التافه الذى يوشك أن يفسد من أذواقنا ويجعلنا أسرى - ولسنوات طويلة قادمة - لكل ذوق فاسد! ويكمل الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فيقول: «ووضعت الكتاب أمام الدكتور «طه حسين» وهذه الآراء كلها تتراقص أمام عينى، وقد سجلتها فى كل صفحة من صفحاته، وسردت له هذه الآراء جميعًا ملخصة ومركزة! وكان الدكتور «طه» يتابع كلامى، والابتسامة لا تفارق شفتيه، وعندما انتهيت من تلخيص الكتاب قال: «سأقرأ الكتاب وسأضم رأيى إلى رأيك»! قلت: ولكنك ستجد فى الكتاب ما قد يخالف رأيك! وأنا أرجو أن تسجل هذا الرأى «لأن أمنيتى أن أقدم للجيل الجديد آراء مختلفة وليس رأيًا واحدًا، إن أملى كبير فى أن يكون جيل الصحافة القادم هو الجيل الذى يحقق ما عجزنا عن تحقيقه! وكانت كلمة الدكتور الختامية: «كن مطمئنًا»!
جلال الدين الحمامصى
بعد ذلك يحرص الأستاذ جلال الدين الحمامصى على أن يقدم درسًا ونصيحة لأى طالب صحافة يشق طريقه إلى باب صاحبة الجلالة فيقول: لكل كاتب صحفى عاداته وميوله وطريقته الخاصة فى الكتابة، ومن عاداتى التى أتمسك بها ألا أكتب حرفًا فى موضوع «مقال رأى»، إلا بعد أن أفكر فيه تفكيرًا متصلاً وفى أى وقت من الليل أو النهار، بحيث إذا بدأت فى وضع الفكرة على الورق، لا أتردد فى تسجيل مضمون الرأى الذى انتهيت إليه مهما يكن هذا الرأى، وبالأسلوب الذى يختلف بين الشدة واللين حسب أهمية الرأى الذى أكتبه بالنسبة لمجموع القراء. وقد تولدت عن هذه العادة عادة أخرى لم استطع التخلص منها رغم ما بذلت - وأبذل - فى سبيل ذلك من محاولات شتى، إنها عادة مرذولة تدفعنى إلى عدم قراءة ما أكتب بعد الانتهاء من تسطيره على الورق، ويتفرع عن هذه العادة المرذولة بطبيعة الحال عدم تصحيح تجارب «بروفات» الطبع، وإذا فعلت ففى عجلة تنزل بى متاعب لا حد لها. وقد بحثت هذا الأمر بينى وبين نفسى أكثر من مرة، وبين من اعتدت أن أبوح لهم بخبايا نفسى كلما وقعت ضحية لهذه العادلة المرذولة، وكنت فى هذا الحين أحاول أن أجد منفذًا للتخلص من هذه العادة أو أن أجد من يعيننى بالرأى على التخلص منها، وقد خرجت من هذه البحوث جميعًا بآراء مختلفة ولكنها لم تساعدنى على تحقيق الغرض الذي أهدف إليه، وظلت هذه العادة متمسكة بى وأنا متمسك بها! ولقد كان هذا الكتاب الذى توشك أن تقرأ صفحاته أحد ضحايا هذه العادة المرذولة فلو أنى أعدت قراءة ما كتبته، أو بذلت جهدًا ملموسًا فى مراجعة بروفات الطبع لما اضطررت إلى أن أضيف إلى صفحاته واحدة تحمل العنوان المشهور «تصحيح»، وقد كانت هذه الأخطاء المطبعية والإملائية موضوع مناقشات متصلة بينى وبين بعض زملائى، وقال البعض إن القارئ لها تفوته أسباب وقوع الخطأ، وقال البعض الآخر إن الأمر لا يحتاج إلى هذا الاهتمام الكبير، وقلت أنا بل إن الأمر فى نظرى أبعد أثرًا مما يتصورون وما ذلك إلا لأن عملية التصحيح فى الصحافة من العمليات الأساسية، ولقد امتلأت الصحف فى فترات مختلفة بحملات على الذين يكلفون بعمليات التصحيح، وقاد هذه الحملات بعض كبار الكتاب الذين كانت المعانى المهمة فى مقالاتهم تصاب بهزات ضخمة نتيجة للأخطاء المطبعية وغير المطبعية. ومعنى هذا أن الأمر يحتاج إلى مزيد من العناية، ومزيد من الاهتمام بهذا الأمر الصحفى الحيوى المهم، وأنا هنا لا أريد أن أحمل المصححين كل المسئولية، ذلك لأننى شريك فى الخطأ، و«الشركة» مرجعها هذه العادة المرذولة التى تحول بينى وبين أن أقطع من وقتى ما يسمح بقراءة بروفات الطبع بعناية تجعل الكتاب نظيفًا من كل الوجوه! ويختتم الأستاذ جلال الدين الحمامصى مقدمته بنصيحة يقول فيها: إن القارئ الذى سيقرأ هذا الكتاب لأنه يحب الصحافة ويحب العمل بها سيستفيد من هذا الاعتراف الذى أسجله على هذه الصفحات، وسيأخذ منه درسه الأول ويتخلص من الآن من هذه العادة المرذولة «إذا كان مثلى من الذين لا يعيدون قراءة ما يكتبون أو لا يعنون بقراءة البروفات قبل أن يأذن بالنشر والتوزيع». وتبقى قراءة ما كتبه د.طه حسين لكتاب «صحافتنا بين الأمس واليوم». وللحكاية بقية!