لم تعد مهنة التمريض فى مصر مجرد «بديل اضطرارى» للطلاب بعد الثانوية، بل تحولت إلى خيار مهنى واعٍ يسعى إليه كثيرون ممن يرون فيها مستقبلًا مضمونًا، ورسالة إنسانية ذات قيمة ومع اقتراب كل عام دراسى جديد، تشهد كليات التمريض والمدارس الفنية الصحية إقبالًا ملحوظًا، مدفوعًا بتغير النظرة المجتمعية تجاه المهنة، وزيادة الطلب على الكوادر التمريضية فى المستشفيات الحكومية والخاصة. ومع ذلك، لا يخلو الطريق من بعض العقبات، فهل تسير منظومة التمريض فى الاتجاه الصحيح لتأهيل كوادر قادرة على مواجهة تلك التحديات؟ وكيف يرى الطلاب والخبراء واقع المهنة ومستقبلها؟ هذا ما تسعى «الأخبار» إلى استكشافه. اقر أ أيضًا | نقيب التمريض تشيد بدور الأطقم التمريضية بالتأمين الطبي لانتخابات الشيوخ تقول د. كوثر محمود، نقيب عام التمريض، إن مصر تمتلك حاليًا نحو 25 كلية للتمريض على مستوى الجمهورية، إلى جانب كليات خاصة وأهلية، فضلًا عن ما يقرب من 360 مدرسة ومعهد تمريض تابعة لوزارة الصحة بنظام الخمس سنوات. وتشمل الدراسة تخصصات متعددة منها: التمريض الباطنى والجراحى، تمريض الأطفال، تمريض الأم والوليد، تمريض الطوارئ والعناية المركزة، تمريض الصحة المجتمعية، بالإضافة إلى إدارة التمريض والتعليم التمريضى، مما يتيح للخريجين خيارات واسعة للتخصص والتدرج المهنى. وفيما يتعلق بفرص العمل، توضح نقيب التمريض أن السوق المحلى لا يزال يستوعب أعدادًا كبيرة من الخريجين، سواء فى المستشفيات الحكومية والجامعية أو فى القطاع الخاص والمراكز الطبية، إلى جانب مجالات الرعاية المنزلية وصحة المجتمع، أما على الصعيد الدولى، فهناك طلب متزايد على الكوادر التمريضية المصرية، خاصة فى الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا، شريطة استيفاء شروط اللغة والاعتماد المهنى. التطوير المهنى وحول التنسيق مع الجهات الحكومية، تشير كوثر محمود إلى تعاون النقابة مع وزارة الصحة والمجلس الصحى المصرى وهيئة الرعاية الصحية فى تنظيم برامج تدريبية وورش عمل لنشر الأدلة الإرشادية ورفع كفاءة الممرضين، مع التأكيد على أهمية التطوير المهنى المستمر وربط الأداء بمعايير الجودة والمسئولية الطبية. ورغم هذه الجهود، تشير النقيبة إلى وجود عجز ملحوظ فى أعداد الممرضين مقارنة بالاحتياجات الفعلية للمستشفيات، مع تباين ملحوظ فى توزيع الكوادر بين المحافظات، وهو ما يفرض تحديات كبيرة على المنظومة الصحية. وتلعب النقابة دورًا محوريًا فى تطوير المهنة والدفاع عن حقوق العاملين بها، من خلال المشاركة فى صياغة التشريعات، والتصدى لأى اعتداءات أو إساءات بحق الممرضين، والمطالبة بتحسين الأجور والبدلات وظروف العمل، بالإضافة إلى العمل على تأهيل القيادات التمريضية وتوفير فرص للتعليم المستمر. مبادرات لرفع الحوافز وفى إطار تحسين بيئة العمل، تعمل النقابة على مبادرات لرفع الحوافز وإضافة بدلات مثل بدل المخاطر وبدل السهر، رغم استمرار شكاوى كثير من الممرضين من ضعف الرواتب، كما تضع النقابة خطة لتقنين سفر الممرضين إلى الخارج من خلال عقود رسمية واتفاقيات دولية، بما يضمن حماية حقوقهم وتحقيق استفادة اقتصادية للدولة. أما عن النظرة المجتمعية للمهنة، فتؤكد أن هناك تحسنًا نسبيًا فى تقدير المجتمع لدور التمريض، خاصة بعد الجهود الإعلامية والإشادة بالدور البطولى للممرضين خلال الأزمات الصحية، إلا أن بعض الصور النمطية السلبية لا تزال بحاجة إلى معالجة عبر التوعية والتثقيف. أبرز التحديات وتتمثل أبرز التحديات فى العجز العددى، وهجرة الكفاءات بحثًا عن فرص أفضل بالخارج، وضغوط بيئة العمل، وتفاوت مستويات التأهيل بين المسارات الدراسية، فضلًا عن الحاجة لرفع الأجور والحوافز. وتوجه النقيبة رسالة للطلاب المقبلين على دراسة التمريض، مؤكدة أن المهنة إنسانية قبل أن تكون مهنية، وتفتح آفاقًا واسعة للعمل محليًا ودوليًا، لكنها تتطلب التزامًا وجهدًا مستمرين، والاستعداد للتعلم مدى الحياة، مع استثمار الفرص المتاحة للتطور الأكاديمى والمهنى. كليات التمريض فيما تتحدث د. فاطمة أحمد عابد، عميد كلية التمريض جامعة القاهرة، عن أن كليات التمريض شهدت فى السنوات الأخيرة إقبالاً متزايدًا من الطلاب، نظرًا لتنامى الوعى بأهمية مهنة التمريض، وزيادة الطلب المحلى والدولى على الكوادر التمريضية المؤهلة، خاصة بعد جائحة كورونا التى أبرزت دور التمريض فى الرعاية الصحية، مشيرة إلى كلية التمريض بجامعة القاهرة على وجه الخصوص تحظى بإقبال متزايد من الطلاب، حيث أدرك الطلاب وأولياء الأمور أهمية مهنة التمريض ودورها الحيوى فى النظام الصحى، وتعد الكلية من الوجهات الأولى للمتفوقين الراغبين فى دراسة تخصص طبى عملى له فرص واسعة داخل مصر وخارجها. وتشير إلى أن كليات التمريض تتميز بتركيزها على الجانب الإنسانى والعلاجى فى آن واحد، كما توفر فرصًا واسعة للعمل محليًا ودوليًا، بالإضافة إلى أن فترة الدراسة أقل من بعض التخصصات الطبية الأخرى، وكذلك فرص تدريب عملى مبكر ومكثف، مما يُكسب الطالب مهارات مهنية قوية من السنوات الأولى، مشيرة إلى أن الدراسة فى كلية تمريض القاهرة تتميز بدمجها بين الجانب الأكاديمى والعملى منذ بداية الدراسة، كما تتيح للطالب فرصًا متعددة للتدريب فى بيئات علاجية مختلفة، فضلًا عن أن خريجى الكلية يتمتعون بفرص توظيف واسعة النطاق، داخل مصر وفى المؤسسات الطبية الدولية، نظرًا لاعتماد الكلية على مناهج متوافقة مع المعايير العالمية. مناهج حديثة وتنوه إلى أن كليات التمريض أصبحت تعتمد على مناهج حديثة، ومقررات مطورة وفقًا لمعايير الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد، بالإضافة إلى التدريب السريرى المكثف فى المستشفيات الجامعية، كما يتم توفير دورات لتنمية مهارات التواصل، والعمل ضمن فرق طبية وكذلك دورات لغات، حيث أضافت تمريض القاهرة مقرر اللغة الألمانية من ضمن المقررات الاختيارية لطلابها وأيضًا تأهيل طلابها لاجتياز الاختبارات الدولية NCLEX-RN ، وهو ما يجعل خريجيها مؤهلين للعمل محليًا ودوليًا. وفى إطار تطوير البرامج الأكاديمية، شاركت كلية التمريض جامعة القاهرة فى تحديث البرنامج المكثف لخريجى الكليات غير التمريضية، بما يضمن تزويد الملتحقين به بالمعارف والمهارات الأساسية لممارسة مهنة التمريض وفقًا للمعايير المهنية المعتمدة، كما تمت إضافة البرنامج التخصصى والذى يؤهل الطلاب للتخصص الدقيق فى بعض المجالات التى تلبى احتياجات سوق العمل عالميًا ومحليًا مثل تمريض الطوارئ والعناية المركزة، تمريض الأورام للبالغين، تمريض المسنين، تمريض القبالة، تمريض الأطفال ذوى الخطورة العالية وجارٍ العمل على إضافة تخصصات أخرى مثل تمريض صحة المجتمع والتمريض النفسى. كما تم مؤخرًا وضع اللائحة الداخلية لكلية التمريض جامعة القاهرة الأهلية لتتماشى مع التطورات العالمية، حيث تشمل تخصصات دقيقة إضافية مثل تمريض أورام الأطفال، تمريض الرعاية الصحية المنزلية، تمريض الإدمان والتأهيل النفسى، تمريض الصحة الرقمية والمعلوماتية، تمريض المسنين والرعاية التلطفية، التطوير المهنى الأكاديمى فى تعليم التمريض، كما يجرى الإعداد لبرامج مهنية متقدمة فى مجالات مثل إدارة الرعاية الصحية والتمريض الجراحى المتقدم. وتؤكد أنه لدى الكلية عدة بروتوكولات تعاون مع جامعات ومؤسسات صحية دولية فى ألمانيا ودول الخليج، تتيح فرص تبادل طلابى وأكاديمى، وتبادل الخبرات البحثية والتدريبية، وهو ما يُسهم فى تطوير مستوى التعليم والبحث العلمى داخل الكلية. التدريب العملى ويبدأ التدريب العملى فى الكلية من السنوات الأولى، حيث يتلقى الطلاب تدريبًا بمعامل محاكاة داخل الكلية، ثم ينتقلون للتدريب السريرى فى مستشفيات جامعة القاهرة مثل مستشفى قصر العينى، تحت إشراف أعضاء هيئة التدريس. وبالإضافة إلى مستشفيات جامعة القاهرة، تتعاون الكلية مع عدد من المستشفيات العامة والمتخصصة ومراكز الرعاية الصحية، ما يوفر للطلاب بيئة متنوعة للتدريب واكتساب المهارات العملية اللازمة لسوق العمل مثل مستشفى الهرم، مستشفى أم المصريين العام، معهد السكر، معهد القلب، معهد الأورام، مستشفى 57. وتؤكد أنه يتم تقييم الطالب بناءً على الأداء العملى المباشر، وتعتمد الكلية على منظومة تقييم شاملة تشمل التقييم العملى المستمر، وتقارير أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة، والتفاعل مع الحالات السريرية، والاختبارات الشفوية بالإضافة إلى الاختبارات العملية الموضوعية (OSCE)، التى تقيس كفاءة الطالب فى تقديم الرعاية وفق المعايير المهنية العالمية. تقنيات المحاكاة وهناك توجه مستمر لتحديث المناهج وربطها بالواقع العملى، وتولى الكلية اهتمامًا كبيرًا بتطوير الجانب العملى من خلال التوسع فى استخدام تقنيات المحاكاة الإلكترونية وتقنيات التعليم الافتراضى، وتحديث المعامل لتشمل نماذج محاكاة متقدمة، بما يساعد الطلاب على اكتساب المهارات السريرية فى بيئة آمنة تحاكى الواقع للتدريب قبل النزول الميدانى، كما يتم حاليًا العمل على إطلاق برامج دراسات عليا تخصصية مثل الماجستير ودبلومات مهنية فى الرعاية المنزلية، وتمريض الأورام، والرعاية المجتمعية بما يلبى احتياجات سوق العمل المتطور. مهنة إنسانية من جانبه، يؤكد الحسن تايب حسن، أخصائى التمريض، أن مهنة التمريض تمثل دعامة أساسية فى أى مؤسسة صحية، لا تقل أهمية عن دور الأطباء، موضحًا: «نحن نرافق المرضى على مدار الساعة، نتابع حالتهم، ونتحمل ضغوطًا نفسية وجسدية هائلة. لكن رغم ذلك، لا تزال النظرة المجتمعية تهمش دورنا، وكأننا مجرد مساعدين، لا شركاء فى تقديم الرعاية الصحية»، مضيفًا أن أقصى ما يطلبه طاقم التمريض هو الاحترام والتقدير الإنسانى، فهم لا يسعون فقط إلى عائد مادى، بل إلى كلمة طيبة تعكس إدراك المجتمع لحجم ما يحملوه من مسئوليات. ضغوط العمل ويشير إلى أنه من بين أبرز التحديات التى تواجه الممرضين فى مصر، النقص الحاد فى أعداد الكوادر التمريضية، مما يؤدى إلى زيادة غير طبيعية فى عدد ساعات العمل، قد تصل فى بعض الأحيان إلى يومين أو ثلاثة دون راحة حقيقية. وينوه إلى أنه لم يكن التمريض حلمه منذ البداية، بل جاء اختياره للمجال نتيجة توجيه عائلى، بحثًا عن وظيفة مستقرة، لكنه مع الوقت أدرك قيمة الرسالة التى يحملها، وتكوّن لديه شعور بالفخر والانتماء للمهنة. ويقول: «خلال الدراسة، كنا ندرس علومًا متعددة تؤهلنا للعمل مبكرًا، وكان التدريب العملى جزءًا مهمًا من إعدادنا، لكنه لم يكن كافيًا دون ممارسة حقيقية داخل المستشفيات ومع تطور الوسائل التعليمية، أصبحت الفيديوهات التوضيحية والتدريب الذاتى ضرورة حتمية لتطوير المهارات». هجرة الممرضين ويقول إنه وسط تراجع التقدير المجتمعى وضعف العائد المادى، باتت الهجرة إلى الخارج حلاً مطروحًا لدى الغالبية من طواقم التمريض، فالسفر لا يُنظر إليه فقط كفرصة لتحسين الوضع المالي، بل كمخرج من واقع لا يُقدر هذه المهنة بالشكل اللائق، ففى الخارج، يُنظر إلى الممرض باعتباره مهنيًا محترفًا، له احترامه ومكانته، على عكس ما نراه هنا من تهميش وإهمال فى كثير من الأحيان. وفى هذا الصدد، تتفق الممرضة هدى محمد مع زميلها، مؤكدة أن تجربتها الشخصية مع التمريض بدأت بدافع اضطرارى، لكنها تحولت بمرور الوقت إلى قناعة وفخر. وتقول: «التحقتُ بمهنة التمريض نتيجة لظروف مجموع الثانوية العامة، ورغبة الأهل فى تأمين مستقبل مضمون، فهم كانوا يرون فى التمريض مهنة مناسبة للفتاة، خاصة إذا اضطرت لاحقًا للاعتماد على نفسها». وقد وجدت فى المهنة ما يستحق العطاء، موضحة أن الدراسة النظرية مهمة، لكنها لا تصنع ممرضًا ناجحًا وحدها، فالتدريب العملى هو الفيصل الحقيقي، سواء أثناء الدراسة أو داخل المستشفيات، والممارسة هى ما تكسبنا الخبرة. وتوضح أنها بدأت رحلتها من مدرسة التمريض، ثم التحقت بالمعهد الفنى الصحى، وبعده بكلية التمريض، وخلال تلك المراحل، كانت تتنقل بين أقسام المستشفيات الحكومية لاكتساب الخبرة العملية، أما عن أبرز الصعوبات فتتمثل فى قلة عدد الممرضات، خاصة فى الأقسام النسائية، مما يضع على عاتقها مسئولية متابعة أكثر من حالة فى آن واحد. قائلة: «أحيانًا أتحمل وحدى مسئولية عدة حالات، وفى حال حدوث أى تقصير، تتم محاسبتنا فورًا دون اعتبار لضغط العمل أو أن كثيرًا من المهام ليست ضمن اختصاصنا».. ورغم ذلك، تؤكد هدى: «أنا فخورة بمهنتى، لأنها إنسانية بالدرجة الأولى، ومليئة بالمواقف التى تتطلب الصبر والعطاء، أما الصورة السلبية المنتشرة عن التمريض فهى غير حقيقية، على الأقل بالنسبة لنا نحن خريجى الكليات والمعاهد الرسمية». طلبات ضرورية من جهتها، تُعبر ماجدة متولى، نائب رئيسة التمريض، عن فخرها العميق بالمهنة التى مارستها طوال 28 عامًا، مؤكدة أنها تمنحها شعورًا بالاكتفاء الذاتى ورضا داخليًا، من خلال تخفيف آلام المرضى وسماع دعواتهم. لكنها، فى الوقت ذاته، تعترف بأن التقدير لا يزال غائبًا، وحقوق طاقم التمريض لا تزال مهدرة. وتوضح ماجدة أن التدريب مستمر لمواكبة التطورات، لكن المقابل المادى لا يكفى لتأمين حياة كريمة، حتى بعد سنوات طويلة من العمل، مشيرة إلى أن أطقم التمريض أكثر عرضة للعدوى، خصوصًا فى العيادات الخارجية، نتيجة نقص التطعيمات، مطالبةً بضرورة توفير رعاية صحية أفضل للممرضين. وتؤكد أهمية تخصيص حوافز إضافية لبعض التخصصات مثل «تمريض الجودة»، نظرًا للضغوط الكبيرة التى يتحملها هذا القسم، كما تنتقد تأخير صرف ملابس التمريض، التى تُمنح كل ثلاث أو أربع سنوات، ما يدفع الممرضين لشرائها بأنفسهم بأسعار مرتفعة قد تتجاوز الألف جنيه.. وتختم ماجدة حديثها بمطالبة واضحة: «نحن بحاجة إلى تأمين طبى جيد، ونوادى ترفيهية ومراكز علاج مخصصة لطاقم التمريض، فكما نهتم بصحة الآخرين، من حقنا أن نحصل على الرعاية التى تضمن لنا الاستمرار فى أداء رسالتنا».