«لكن هل كان الوفاء يُحتم - في أي يوم - أن يضحي المصري بعذراء جميلة ثمناً لاستمرار النيل في وفائه؟!» .. والناس فى حبه سكارى/ هاموا على شطه الرحيب/ آه على سرك الرهيب/ وموجك التائه الغريب/ يا نيل يا ساحر الغيوب.. مسحوراً بكلمات ذهبية تنساب بشدو عبد الوهاب لرائعة محمود حسن إسماعيل: «النهر الخالد»، تكاد تنافس انسياب النيل الذى يسيل بأمواج فضية، صورة لا تغيب عن ذاكرة تسبح بقاربها فى رحلة لا نهائية، بدأت مبكراً، منذ طفولتى التى تفتحت على ضفة نيل مدينتى الصغيرة، القابعة فى أحضان الدلتا. منذاك، وعلى مدى عقود عمرى، لم أفقد افتتانى بالنيل، ولا شغفى بتأمله دون ملل، فى هدوء صفحته أحياناً، أو حركة أمواجه بفعل الرياح مرة، وحركة المراكب الشراعية مرات عدة، إذ تربط بين ضفتى النيل بين ميت غمر وزفتى، أتابع خلجاته حين أعبر ما بين الضفتين راكباً لقارب، أو راجلاً عبر الكوبرى العتيق ما بين المدينتين، وظل الحال هكذا، وكأن ثمة طقساً مقدساً ينظم علاقتى بالنهر الذى يشبه قصيدة سرمدية ! ورغم أننى لم أدرك فى طفولتى الباكرة، كل معانى القصيدة، إلا أن اللحن كان يلقى صدى خلاباً فى روحى، ومع تقدم العمر، وتعدد أسفارى على مجراه، ظل النيل ملاذى أينما وحيثما حللت، أحدثه، وأخاله يحدثنى، ديالوج لم ينقطع أبداً، فالنهر ينافس آلة الزمن! هل تتداعى الكلمات، والذكريات، لأننا بصدد الاحتفال ب «وفاء النيل»؟ لا أظن، بل ربما عاتبت نفسى بسبب هذا الخاطر، فالنهر الخالد حاضر دائماً فى نفس كل مصرى بوعى، أو دون وعى، ولا يحتاج إلى مناسبة للحفاوة به، فالوفاء علاقة تبادلية، فكما كان النيل وفياً منذ فجر التاريخ، كان المصرى يبادله وفاءً بوفاء، وكما يقول أهل اللغة: توافى القوم أى تكاملوا، وأحسب أن النيل كائن حى، يحبنا كما نحبه، ويشعر بنا كما نشعر به، ويقدرنا كما نقدره، أنه وفى لنا، ونحن أوفياء له، والوفى الذى يأخذ الحق ويعطى الحق، والعهدة على أساطين العربية. لكن هل كان الوفاء يُحتم - فى أى يوم - أن يضحى المصرى بعذراء جميلة ثمناً لاستمرار النيل فى وفائه؟! أسطورة عروس النيل .. واغصن تلك أم صبايا/ شربن من خمرة الأصيل/ وزورق بالحنين سار/ أم هذه فرحة العذارى؟/ تجرى وتجرى هواك نارا.... حين تنعطف القصيدة عند منعطف «الصبايا» و«العذارى» تتنحى الذاكرة البصرية جانباً، لتحتل الذاكرة التاريخية محلها! ينساب قارب الذاكرة مع انسياب شدو عبد الوهاب إلى محطة الأسطورة. وما أكثر ما أحاط بالنيل من أساطير، إذ غزل أجدادى القدماء قبل آلاف السنين أساطير تترجم رؤيتهم لمحيطهم بمفرداته، وكان النيل فى القلب منها. المياه - والنيل تحديداً - نافست الأساطير بشأنها، نشأة الخلق، والأكوان، والأديان، ومع الزمن توارت أساطير كثر، لكن أسطورة عروس النيل ظلت تخايل المصريين!.. لكنى لم استطع تصور إقدام أجدادى على اقتراف هذا الإثم، وقد انبلج فجر الضمير الإنسانى من حضارتهم التى عرفت التمدن قبل الزمان بزمان. وكان المنقذ من تلك الضلالات العبقرى الفذ د. جمال حمدان، إذ أطربنى اجتهاده الرائع الذى دحض تماماً حكاية عروس النيل الزائفة.. يشير عالمنا الجليل إلى أن مصر منذ القدم شهدت قمة «الزواج السعيد» عبر زواج موفق بين الماء والأرض، بين النيل والتربة، وتجسد ذلك فى صورة الفيضان حين، وحيث يطغى النهر على الأرض، فيركبها ويلقحها فتلد الخصب والنماء. وفى موضع تال من «شخصية مصر» ذلك السفر الثرى للدكتور حمدان، ينقل عن العالمة الجليلة د. نعمات فؤاد، ما يستكمل به تفسيره الداحض، ليؤكد أنه، كما تكمن هذه الفكرة الأزلية فى أسطورة إيزيس وأوزوريس التى ترمز إليها عند الفراعنة، فإنها لم تختف أو تخفت قط فى الفولكلور العربى من أدب شعبى، وغير شعبى، ومن هنا أيضا - وليس من هناك - فكرة «عروس النيل» كصورة مجازية، بمعنى أن أرض مصر إنما هى عروس النيل التى يدخل عليها كل عام، فيخصبها، وليست بمعنى الضحية البشرية المزعومة التى تُلقى به، وهى الأسطورة التى ثبت خطؤها نهائيا سواء فى مصر الفرعونية، أو غير الفرعونية. إلا أن الذاكرة البعيدة تستدعى ما كنت أشاهده فى ستينيات القرن المنصرم، من محاكاة رمزية للأسطورة التى ثبت زيفها، فكان أهل مدينتى يقفون أعلى الكوبرى الرابط بين ضفتى النيل، يلقون بعرائس خشبية أو قطنية، وبعضهم يمارس نفس الطقس، وهم يبحرون فى المراكب الشراعية، لكنهم يقيناً يدركون أن ما يقومون به ليس إلا نوعاً من الفولكلور اللطيف! وإن كان للأسطورة سحرها، فإن صدق التاريخ عند تدقيقه لأكثر سحراً. لم ألوث المياه أبداً وكما يقترب النيل من مصبه، تدانى القصيدة ختامها: .. وأحمل النور للحيارى/ فإن كوانى الهوى وطارا/ كانت رياح الدجى طبيبى/ آه على سرك الرهيب/ وموجك التائه الغريب/ يا نيل يا ساحر الغيوب... ليس سراً يتيماً، ولكنها أسرار حملها النيل الساحر فى أحشائه، فرسمت ملامح دراما تاريخية، وحواراً جدلياً طويلاً بين الإنسان والنهر منذ فجر التاريخ، وعبر حقبه حتى اللحظة الراهنة.. والشاهد أنه على مر الزمان، ظلت سمة الوفاء المتبادل باقية، حتى يكاد الوفاء ينساب نيلاً، ويسكب النيل الوفاء على الأرض الطيبة، ويقابل المصرى ذلك بوفاء مستحق لواهب الحضارة والحياة على مر العصور. ولا أنسى ما أورثنا أجدادنا القدماء إياه من حرص على قيم عظيمة، فى مقدمها ما يمس المياه - أو بدقة النيل - ففى كتاب الموتى الفرعونى المأخوذ عن بردية «آنى» يقول: «لم ارتكب إثماً، ولم أسرق،....، ولم أتسبب فى خراب أرض محروثة....، ولم ألوث أبداً المياه.... ولم أنقص شبراً من الأرض، ولم استول على حقول الآخرين، ولم أحول مياه الرى فى موسمها، ولم أخرب قنوات المياه الجارية». فى بردية «نو» تأكيد لذات المعانى إذ يقول: لقد أعطيت الخبز للجوعى، والماء للعطاشى، والكساء للعرايا، وزورقاً لمن تحطمت مراكبهم.....». إلى هذا الحد كانت فطرة الأجداد نقية، نقاء يضاهى عذوبة النيل، وانعكس الأمر على ما يمثل مسئولية أخلاقية واجبة، تتوارثها الأجيال، لتكون بمثابة بوصلة تقودنا إلى الوفاء بالنيل جزاء وفائه بنا ولنا. هكذا أحسب أن التعدى على النيل وما يحيط به من أرض خصيبة، انتقاص فادح من قيمة الوفاء له، وتلويث مياهه وشواطئه جريمة نكراء تطيح بمفهوم الوفاء به، وممارسة الهدر جُرم لا يقل بشاعة عن ما سبق. فهل يعى الأحفاد مغزى تراث الأجداد الذين صاغوا رؤية غاية فى الرقى والتحضر، قبل أن تدرك البشرية تلك المعانى الرائعة؟ قمة هرم الوفاء أى قيمة تشبه البناء الهرمى.. ولعل قمة هرم الوفاء، أن نحفظ حقوقنا فى مياه النيل، بعد أن قطع آلاف الأميال، ليصلنا حاملاً معه الخير والنماء. إذا كان النيل كابد هذه المسيرة، وقاوم الطبيعة عبر هذا المسار، لتكون مصر هبة النيل، ثم لتكون أرض مصر هبة مشتركة بين النيل والمصريين، فإن رد الجميل، وفاء بوفاء، ألا تسمح مصر بأى مساس بحقوقها المائية، وهو ما أكدته القيادة السياسية مراراً وتكراراً، باعتباره أمراً لا يقبل نقاشاً أو فصالاً، أو رضوخاً، مهما كانت التحديات أو التضحيات، ثم أن للوفاء صوراً متعددة، وتجليات تتناسب مع كل مستجد.. حين يؤكد الرئيس السيسى أن وعى المصريين ركيزة لمواجهة أى تهديد، فإن تجاوب كل مواطن مع تلك المقولة، يترجم مفهوماً راقياً للوفاء. وعندما يؤكد أن ملف مياه النيل جزء من حملة الضغوط علينا، لتحقيق أهداف أخرى، فان إدراك أبعاد ذلك، يعنى قدرة على فهم ماهية الوفاء عملياً، بالبحث عن كيف نواجه، وطناً ومواطنين، هذه الضغوط، وأن نفضح ما وراءها من غايات غير بريئة، بل تستهدف الإضرار بالإنسان والنيل فى آن واحد. .................... أحسب أن الرسالة بلغت مقصدها، داخل مصر، وما وراء حدودها، بل إن عنوان الرسالة يتوجه للعالم أجمع، والأمر لا يغيب عن صاحب فطنة. من حق النيل علينا وفاء منه أن يُقابل بوفاء منا، فبعد أن قام بما يشبه «سباق الحواجز» - كما وصفه العلامة د. حمدان - فى رحلته من بدايتها إلى نهايتها، حواجز تتعاقب وراء بعضها البعض كحلقات السلسلة، إلا أن النيل لا يفتأ بقوة ومهارة، أو بحسن الحظ أن يتجاوزها واحدة واحدة لمصر، إلى أن يصل إليها، بعد رحلة حب طويلة شاقة وفاء لوطن المصب، فإن الجزاء لابد أن يكون من جنس العمل، وهل جزاء الوفاء إلا الوفاء؟ وعود على بدء: مسافر زاده الخيال/ والسحر والعطر والظلال/ ظمآن والكأس فى يديه/ والحب والفن والجمال/ شابت على أرضه الليالى/ وضيعت عمرها الجبال/ ولم يزل يطلب الديارَ/ ويسأل الليل النهارَ...