لم يعد الأمر مقتصرًا فقط على تنمية «المهارات» التقنية أو الوظيفية، بل امتد ليشمل «الجدارات» بمفهومها الأشمل. فى ظل التطورات المتسارعة عالميًا فى مجالات الرقمنة والذكاء الاصطناعى وضرورة امتلاك رأس المال البشرى المهارات والجدارات المستقبلية وفى ظل تكلفة فجوة المهارات للاقتصاد العالمى ما يصل إلى 8.5 تريليون دولار بحلول 2030، تبذل مصر جهودًا دءوبة لسد الفجوة بين مخرجات نظام التعليم واحتياجات سوق العمل من المهارات والجدارات من خلال تعاون فعّال بين جميع أجهزة ومؤسسات الدولة. هذه الجهود تعكس أولويات الحكومة فى تأهيل ليس فقط الخريجين من الجامعات لاحتياجات سوق العمل ولكن أيضًا العاملين فى القطاعات المختلفة فى السوق المصرى خاصة أن ما يقرب من 60% من القوى العاملة فى مصر يعملون فى القطاع غير الرسمى بما يعكس انخفاض فرص حصولهم على التدريب والتأهيل المناسب لتوجه واستراتيجيات الدولة فضلاً عن وجود فجوة واضحة بين مؤهلات الخريجين واحتياجات الاقتصاد الحقيقى. ومن ثم فإن ارتفاع معدل بطالة الخريجين وانتشار العمل غير الرسمى يترتب عليه خسائر اقتصادية غير مباشرة تتطلب تدخلاً منهجياً لمعالجة فجوة المهارات خاصة فى ظل إشارة تقرير «مستقبل الوظائف» الصادر عن المنتدى الاقتصادى العالمى لعام 2025 بشأن ظهور 170 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2030، مقابل اختفاء 92 مليون وظيفة، وتغيير نحو 39% من المهارات الأساسية المطلوبة فى سوق العمل. وفى سبيل تحقيق التكيف مع تغيرات أسواق العمل المحلية والعالمية فقد استجابت الحكومة المصرية بمجموعة من المبادرات المتنوعة لمواجهة هذا التحدى. منها ما قامت به وزارة التعليم العالى والبحث العلمى من إطلاق برامج تهدف إلى تطوير التعليم العالى والتوجيه نحو تنمية المهارات والجدارات مثل التوسع فى مراكز التطوير المهنى بالجامعات، وتفعيل العديد من المبادرات مثل مبادرة «كن مستعدًا». وفى الإطار ذاته تساهم مؤسسات كبرى مثل مدينة زويل ومركز النانو تكنولوجى فى تطوير المهارات البحثية والتقنية، فضلاً عن قيام الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد بتحديث معايير البرامج الأكاديمية وربطها باحتياجات سوق العمل. أيضًا فى قطاع الاتصالات، أطلقت وزارة الاتصالات مبادرات بارزة مثل «بناة مصر الرقمية» و«أشبال مصر الرقمية»، وأنشأت مدارس التكنولوجيا التطبيقية، ومراكز الابتكار، ومعاهد التدريب، إلى جانب إطلاق «الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعى 2025-2030». كما دعمت وزارة البترول إنشاء مدارس تطبيقية بالتعاون مع شركاء دوليين لتأهيل الطلاب فى تخصصات الطاقة والتكنولوجيا، بينما توفرهيئة تنمية المشروعات الصغيرة برامج دعم فنى ومالى لتأهيل رواد الأعمال. فى ظل هذا الحراك نحو سياسات فاعلة لتنمية رأس المال البشرى فى مصر لم يعد الأمر مقتصرًا فقط على تنمية «المهارات» التقنية أو الوظيفية، بل امتد ليشمل «الجدارات» بمفهومها الأشمل والتى تجمع بين المعرفة والسلوك والقدرة على تطبيق المهارات فى مواقف عملية متنوعة. فعلى سبيل المثال أصبح الاهتمام لا يقتصر فقط على ضمان اتقان الفرد استخدام برنامج معين أو أداء وظيفة معينة، بل امتد الأهتمام أيضاً بضرورة التأكد من امتلاكه مهارات أخرى مثل التعاون، والتحليل، والتواصل، وهى ما يُعرف بالجدارات. هذا التوجه هو ما تعكسه المبادرات الحكومية الحديثة، حيث يتم تصميم البرامج التدريبية والتعليمية لتطوير «الجدارات الأساسية» وليس فقط المهارات الفردية. ولضمان استدامة هذه الجهود الحثيثة وتحقيق أثر فعال طويل الأجل، تحتاج مصر إلى بلورة خارطة طريق وطنية شاملة لتنمية المهارات والجدارات. تبدأ هذه الخارطة بتفعيل العلاقة بين المراصد القومية التى تقوم بمتابعة احتياجات سوق العمل مثل تلك التابعة لوزارة العمل ووزارة التخطيط وباقى مؤسسات الدولة وعلى وخاصة وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم والبحث العلمى بما ينعكس على تصميم وتنفيذ المناهج الدراسية. كذلك ينبغى توسيع نطاق التعلم المستمر من خلال منصات رقمية وتدريب الكبار والعاملين فى مختلف المؤسسات، فضلاً عن ضرورة زيادة الاستثمار فى تأهيل الكوادر من المعلمين وأعضاء هيئة التدريس وتحديث المناهج. كما يتطلب الأمر أيضاً تفعيل تعزيز الشراكات المستدامة بين الجامعات والمؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، وتنسيق سياسات التدريب والتأهيل بين الوزارات المعنية وفق أهداف واضحة وقابلة للقياس. بهذه الطريقة يمكن لمصر أن تحوّل فجوة المهارات والجدارات إلى فرصة حقيقية لبناء اقتصاد مستدام قائم على الابتكار والتنافسية. عميد تجارة عين شمس السابق