حين اجتمع الرئيس عبد الفتاح السيسى بنظيره الأوغندى يويرى موسيفينى فى قصر الاتحادية الاسبوع الماضى، لم يكن الحديث عن نهر النيل تكراراً لخطاب مألوف، بل إعادة تثبيت لمعادلة بقاء، ترسم حدود المصالح المشتركة وتحدد سقف التنازلات الممكنة. فالمياه، فى حسابات القاهرة، ليست ورقة سياسية للمساومة، بل قضية أمن قومى وحق وجودى، تُستمد شرعيته من القانون الدولى والحقوق التاريخية والاتفاقيات المستقرة مع دول الحوض. تاريخياً، تستند مصر إلى جملة من المرجعيات القانونية: من اتفاقية 1929 بين مصر وبريطانيا (نيابة عن مستعمراتها فى شرق أفريقيا)، إلى اتفاقية 1959 مع السودان، والتى رسخت حصتها السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب، هذه الحقوق ليست «منحة» من أحد، بل التزام قانونى دولى ملزم، أقرته مبادئ استخدام المجارى المائية الدولية، وعلى رأسها «عدم الإضرار»، و«الانتفاع المنصف والمعقول». لكن الواقع المائى فى حوض النيل يكشف عن معضلة أكثر تعقيدا؛ فبحسب ما أوضحه موسيفينى فى المؤتمر الصحفى، يهطل على الحوض نحو 1600 مليار متر مكعب سنوياً ،لا يصل منها إلى المجرى الرئيسى سوى 85 مليارا، أى 4% فقط من الإجمالى، هذه المفارقة تفضح زيف الادعاءات بأن مصر «تحتكر» المياه، فالقاهرة لا تطالب بإعادة تقسيم الغلة المائية الضخمة، بل تطالب بالإبقاء على الجزء الضئيل الذى يمثل شريان حياتها الوحيد. التحدى الأكبر يكمن فى التوازن بين حق التنمية وحق البقاء، دول المنابع ترى فى السدود ومشروعات الطاقة الكهرومائية فرصة للنهوض الاقتصادى، بينما ترى مصر أن أى إجراء أحادى دون تنسيق قد يتحول إلى تهديد مباشر لأمنها المائى، وهنا يأتى جوهر الرؤية المصرية؛ التنمية فى دول الحوض ليست مرفوضة، بل مرحب بها، شرط ألا تمس حصة مصر التاريخية أو تهدد تدفق النهر. من الناحية العلمية، يفتح هذا التحدى الباب أمام حلول عملية: 1. تقليل الفاقد المائى من خلال مشروعات مشتركة لتقليل التبخر فى المستنقعات الكبرى، مثل بحر الجبل ومستنقعات السد. 2. التخزين المائى المنسق بين دول الحوض، بحيث تتم إدارة السدود وفق نظام تشغيل مشترك يراعى مصالح الجميع. 3. التوسع فى مشروعات حصاد الأمطار فى دول المنابع، ما يتيح لها موارد إضافية دون المساس بالمجرى الرئيسى. ومن الناحية السياسية، يرتكز الموقف المصرى على ثلاث ركائز: - الشرعية الدولية: رفض الإجراءات الأحادية استناداً إلى قواعد القانون الدولى. - الدبلوماسية النشطة: تعزيز التحالفات داخل الحوض، مع منح أوغندا دوراً محورياً فى قيادة اللجنة السباعية لإعادة التوافق والشمولية. - الردع السياسي: التأكيد على أن المساس بحصة مصر المائية خط أحمر لن يُسمح بتجاوزه. زيارة موسيفينى للقاهرة جاءت إذن فى لحظة حاسمة، لتؤكد أن النيل يمكن أن يظل جسراً للتعاون لا ساحة للصراع، فالمشهد الذى رسمه الرئيس السيسى خلال المؤتمر الصحفى كان واضح المعالم: «نحن جميعًا معًا»، لا مصر والسودان فى مواجهة الآخرين، بل دول حوض النيل كيان واحد يتقاسم الفرص والتحديات. لكن هذه المعادلة لن تصمد إلا إذا أدركت دول المنابع أن من ترويه الأمطار الغزيرة لا يشعر بحساسية من يعيش على ضفاف الصحراء بلا قطرة خارج النهر، ومصر كما وصفها الأوغنديون، «حديقة» لا مصدر لريّها سوى النيل، ولا يمكنها التخلى عن أى جزء من مياهه دون أن تتخلى عن حياتها نفسها. فى النهاية، الرسالة التى خرجت من قصر الاتحادية لم تكن موجهة إلى دولة بعينها، بل إلى كل من يظن أن الضغط المائى يمكن أن يفرض على مصر واقعاً جديداً. القاهرة، وهى تتحرك بثقة، تمزج بين الرؤية العلمية والحزم السياسى، وتدرك أن الحفاظ على النيل هو حفاظ على بقاء وطن، ووفاء لعهد التاريخ، وصون لمستقبل الأجيال القادمة.