مطلوب فورًا: رفع الوعى بخطورته وتحديث قوانين تداوله يُعطل إنتاج الطاقة داخل الخلايا.. فتنهار الأعضاء تدريجيًا استيقظ أهالى قرية «دلجا» التابعة لمركز ديرمواس فى محافظة المنيا بمصر على واحدة من أبشع الحوادث الإنسانية، حين توفى أب بعد أيام من وفاة أطفاله الستة، فى سلسلة وفيات غامضة أثارت الذعر والحيرة، وبعد أيام من التكهنات والجدل، كشفت التحاليل الطبية عن مفاجأة صادمة: جميع الضحايا تعرضوا للتسمم بمادة شديدة السمية تُعرف باسم الكلورفينابير، وهو مبيد حشرى يُستخدم فى مكافحة الحشرات. يمتد استخدام هذا المبيد ليشمل العديد من الحشرات الزراعية التى تشكل تهديدًا للمحاصيل، مثل الديدان والثاقبات والذباب الأبيض والعث، بالإضافة إلى البعوض فى مجال الصحة العامة، والحشرات المنزلية مثل الصراصير والنمل والبق، ولذلك فإن تعرض الإنسان له، سواء عن طريق الخطأ أو الإهمال، قد يتحول إلى كارثة، كما حدث فى هذه الحادثة المفجعة التى أعادت إلى الواجهة النقاش حول خطورة المبيدات الكيميائية التى قد لا تظهر آثارها فورًا. كيف يقتل الكلورفينابير؟ الكلورفينابير هو مبيد حشرى حديث ينتمى إلى فئة «البيرولات»، ويُستخدم خصيصًا لمواجهة الحشرات التى أصبحت مقاومة للمبيدات التقليدية مثل البيريثرويدات، ما يميّز هذا المركب أنه يُصنّف كمبيد أولي، أى أنه لا يكون فعالًا بشكل مباشر، بل يتحوّل داخل جسم الحشرة أو الإنسان إلى مادة سامة بعد أن تُفكك بفعل إنزيمات طبيعية فى الجسم ،هذا التحوّل الداخلى يجعل الكلورفينابير خطيرًا للغاية، لأن أعراض التسمم به لا تظهر فورًا، بل تبدأ فى الظهور تدريجيًا، بعد أيام من التعرض له، ما يصعّب تشخيصه أو التعامل معه فى الوقت المناسب، ولهذا السبب يستخدمه المزارعون والجهات الصحية بحذر شديد، ولكنه فى الوقت نفسه قد يتحول إلى تهديد حقيقى إذا تم تداوله أو تخزينه بطرق غير منظمة. وتكمن خطورة الكلورفينابير فى طريقة عمله داخل الجسم، إذ يستهدف الميتوكوندريا، وهى محطات توليد الطاقة فى الخلايا، يقوم المبيد بتعطيل هذه الوظيفة، فيمنع الخلايا من إنتاج الطاقة الضرورية للبقاء، ونتيجة لهذا الانهيار الخلوي، تبدأ أعضاء الجسم الحيوية، مثل الكبد، والقلب، والمخ، والكلى، بالتدهور، الأسوأ من ذلك أن هذا المبيد لا يكتفى بتعطيل الطاقة، بل يفعّل أيضًا سلسلة من التفاعلات تؤدى إلى ما يُعرف بموت الخلايا المبرمج، وهى عملية انهيار ذاتى للخلايا تحدث عندما تتعرض لضرر لا يمكن إصلاحه. من البشر إلى البيئة تظهر أعراض التسمم بالكلورفينابير عادة بعد مرور فترة تتراوح بين 5 إلى 14 يومًا من التعرض، تبدأ الأعراض غالبًا بحالة عامة من التعب، مع غثيان أو قيء، قبل أن تتطور إلى فشل كلوى أو كبدي، اضطرابات فى الوعي، مشاكل فى التنفس، وقد تنتهى بتوقف مفاجئ فى عضلة القلب، ومما يزيد الأمر تعقيدًا، عدم وجود ترياق معروف لهذه المادة حتى اليوم، حيث يقتصر العلاج على الرعاية الطبية الداعمة مثل الغسيل الكلوي، ومراقبة الوظائف الحيوية، دون قدرة حقيقية على عكس تأثير المادة السامة فى حال تقدم الحالة. ولا تتوقف خطورة الكلورفينابير عند حدود جسم الإنسان، بل تمتد إلى البيئة بشكل مقلق. فالمادة تبقى فى التربة والمياه لفترات طويلة، قد تصل إلى عام كامل، ما يؤدى إلى تراكمها وتأثيرها السلبى على الحياة البرية، الأسماك والطيور والنحل وحتى الديدان الأرضية قد تتعرض للتسمم بسبب بقايا هذه المادة، ولهذا، فإن الاستخدام غير الواعى أو غير المنضبط لهذا المبيد قد يسبب كوارث صحية وبيئية، خاصة فى المناطق الزراعية أو داخل المنازل التى يُخزن فيها المبيد بدون معرفة حقيقية بخطورته. ومن هنا تأتى الحاجة الملحة إلى رقابة صارمة على تداول هذا النوع من المبيدات، ومنع بيعه أو تخزينه إلا فى إطار قانونى مرخّص وتحت إشراف الجهات المختصة، فغياب التنظيم، وغياب الوعي، هو ما يفتح الباب لتكرار مآسٍ إنسانية مثل حادثة المنيا، إن تحصين المجتمع ضد مثل هذه السموم يبدأ أولًا بالوعي، وثانيًا بالردع القانوني، لأن حياة البشر لا تحتمل العشوائية. د. عمرو عبد السميع الأستاذ بكلية العلوم جامعة القاهرة