يشهد المسجد الأقصى المبارك تصعيدًا غير مسبوق فى وتيرة الاقتحامات من قبل المستوطنين الإسرائيليين خلال الأشهر الأخيرة، فى سياق سياسى وأمنى يتجه نحو محاولة فرض وقائع جديدة على الأرض تُهدد الوضع القانونى والتاريخى القائم للمسجد. هذا التصعيد يواكبه انشغال عربى وإسلامى متراجع، وانقسامات فلسطينية داخلية، ما يثير المخاوف من أن تسعى إسرائيل إلى استنساخ السيناريو الذى طبقته فى المسجد الإبراهيمى بمدينة الخليل مطلع التسعينيات، حين قسّمت المكان زمانيًا ومكانيًا بين المسلمين واليهود بعد مجزرة ارتكبها مستوطن فى رمضان 1994، ليصبح ذلك التقسيم أمرًا واقعًا يستعصى على التراجع. اقرأ أيضًا | محمد العرابي: القضية الفلسطينية مكون رئيسى فى السياسة الخارجية المصرية تأتى الاقتحامات المكثفة بقيادة جماعات «الهيكل» المتطرفة فى إطار منهجي، يتزامن مع مواسم الأعياد اليهودية، وتتم تحت حماية كاملة من قوات الاحتلال، وهو ما يعبر عن تحوّل واضح من مجرد «زيارات استفزازية» إلى محاولات منظمة لأداء طقوس توراتية علنية، بما فى ذلك النفخ بالبوق وجلب القرابين الرمزية داخل ساحات المسجد. ويحاول المتطرفون، بدعم سياسى من وزراء فى الحكومة الإسرائيلية الحالية، ترسيخ مفهوم «السيادة الإسرائيلية على الحرم»، تمهيدًا لفرض تقسيم زمانى يتم خلاله تخصيص ساعات ثابتة يومية لليهود، ثم الانتقال لاحقًا إلى تقسيم مكانى يقتطع أجزاء من ساحات المسجد لصالحهم، كما حدث فى الحرم الإبراهيمي. تستفيد إسرائيل من جملة من الظروف الإقليمية والدولية فى تسريع هذه الخطوات: أولًا، انشغال العالم العربى بأزماته الداخلية وتراجع القضية الفلسطينية فى الأجندة الإقليمية لصالح ملفات التطبيع والتحالفات الأمنية والاقتصادية. ثانيًا، الانقسام الفلسطينى الحاد بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وعدم القدرة على الاتفاق على استراتيجية مشتركة لحماية الأقصى، بينما تكتفى السلطة الفلسطينية بإصدار بيانات احتجاجية دون القدرة على التدخل ميدانيًا، وتقتصر خيارات المقاومة فى غزة على التهديد بالصواريخ دون اللجوء إلى التصعيد الفعلي، فى ظل توازنات الردع القائمة. ثالثًا، المناخ الدولى المشغول بالحرب فى أوكرانيا والمنافسة الصينية الأمريكية، واعتبار الولاياتالمتحدة لإسرائيل شريكًا استراتيجيًا لا يمكن إزعاجه فى مرحلة الانتخابات الأمريكية المقبلة، ما يوفر غطاءً سياسيًا واسعًا أمام تل أبيب. على المستوى الداخلى الإسرائيلي، تحتضن الحكومة اليمينية الحالية تحالفًا هو الأكثر تطرفًا فى تاريخ إسرائيل، يضم أحزابًا مثل «قوة يهودية» و«الصهيونية الدينية»، حيث يمثل وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش تيارًا يؤمن بأن «تغيير الوضع القائم فى الأقصى» هو مهمة وطنية عاجلة. هذا التحالف يرى فى أى تراجع عن مشروع «الهيكل» ضعفًا أمام المقاومة الفلسطينية، ويسعى إلى تسريع الخطوات قبل حدوث أى تغيرات سياسية قد تطيح بهذا المعسكر المتشدد من الحكم. بالتالي، فإن التطورات فى الحرم الشريف ليست مجرد عمل دينى رمزي، بل هى جزء من برنامج سياسى أمنى منظم تُشرف عليه الدولة بهدف السيطرة التدريجية على الأقصى وتقويض الوجود العربى الإسلامى فيه. فى المقابل، يحذر مراقبون من أن استمرار هذه الاقتحامات تحت حماية الجيش، إلى جانب الاعتداء المتكرر على المصلين والمرابطين وطرد حراس الأوقاف الأردنية، ينذر بتفجر مواجهة واسعة قد تبدأ من القدس وتمتد إلى الضفة الغربية وربما غزة، خصوصًا إذا ما تم التجرؤ على خطوة مثل تقسيم المسجد رسميًا. غير أن إسرائيل تراهن على أن ردود الفعل الفلسطينية ستبقى فى حدود «الهبة الموسمية» بمعنى تظاهرات محلية واشتباكات محدودة سرعان ما تتلاشى مع مرور الوقت، كما حدث بعد أحداث باب العامود ومعركة الشيخ جراح. كما تراهن على أن أى تصعيد كبير من غزة سيجدد الضغوط الدولية على حركة حماس ويفتح الباب أمام وساطات عربية لاحتواء الموقف، وهو ما يمنحها مزيدًا من الوقت لفرض الوقائع تدريجيًا. المخاوف من «استنساخ تجربة المسجد الإبراهيمي» ليست مجرد فزاعة، ذلك أن إسرائيل طبقت النهج نفسه خطوة بخطوة فى الخليل: بدأت باقتحامات محدودة بحماية الجيش، ثم بالسماح للمتطرفين بأداء طقوس، ثم قسّمت المكان زمانيًا (ساعات للصلاة اليهودية وأخرى للمسلمة)، وانتهت إلى تقسيم مكانى يُسيطر فيه المستوطنون على نحو 60٪ من الحرم، مع فرض نظام بوابات إلكترونية وتحكم كامل بالمرور. اليوم تتكرر المؤشرات ذاتها فى الأقصى: تحديد بوابات لدخول اليهود، مطالبة بإزالة علم فلسطين، منع الاعتكاف فى ليالى رمضان، الاعتداء على المصلين فجرًا لإفراغ المسجد، فى حين ترتفع الأصوات المتطرفة للمطالبة بإقامة «الهيكل الثالث» فوق أنقاضه. خلاصة القول، إن استهداف المسجد الأقصى بات عملية سياسية دينية ممنهجة تستفيد من اتساع نفوذ التيار اليميني، ومن حالة الضعف الفلسطينى والانشغال الإقليمى والتهاون الدولي. استمرار التصعيد بهذه الوتيرة قد يقود خلال السنوات القليلة المقبلة إلى فرض تقسيم زمانى ومكانى مشابه للمسجد الإبراهيمى ما لم يحدث تحرك عربى إسلامى حاسم، أو تغير جذرى فى ميزان القوة على الأرض لصالح الفلسطينيين، سواء عبر انتفاضة شعبية شاملة تعيد الاعتبار للقدس كقضية مركزية، أو عبر تحوّل استراتيجى فى موقف الفاعلين الإقليميين القادرين على الضغط على إسرائيل سياسياً واقتصادياً. السيناريو الأخطر يتمثل فى أن تتجه إسرائيل ضمن رؤيتها الدينية تجاه الأقصى إلى تجاوز حتى مسألة التقسيم، وصولًا إلى إجراءات هندسية وأثرية قد تمس أساساته بحجة «الأعمال الترميمية»، وهو ما يمكن أن يؤدى إلى انفجار غير مسبوق يتجاوز حدود فلسطين إلى الإقليم بأسره.