«وماتت ساداكو، ولكنها تحولت إلى رمز للسلام، وشاهدة على الجرم الأمريكى». لم أكن أتصور أن تكتب لى الأقدار أن أكون يومًا فى نفس المكان، بل نفس النقطة التى سقطت فيها ثانى وآخر قنبلة نووية، إنها قنبلة «الولد البدين» النووية التى ألقتها طائرة بى 29 أمريكية يوم 9 أغسطس عام 1945 (غدا السبت تمر الذكرى الثمانين للمأساة)، لكى تجبر، هى وشقيقتها التى ألقيت قبلها بثلاثة أيام على هيروشيما، اليابان على الاستسلام، ووقف الحرب العالمية الثانية، وهو ما حدث فى 15 أغسطس لتدخل بعدها فى مفاوضات أسفرت عن معاهدة سان فرانسيسكو فى 1951. هنا نجازاكى سيطرت على مشاعر يصعب وصفها وأنا أقف فى مكان لقى فيه قرابة 74 ألف إنسان حتفهم بعد أن ذابت أجسادهم وعظامهم، حتى قبل أن تصطدم قنبلة اليورانيوم الأرض محدثة تفجيرًا يعادل 16 طنًا من مادة «تى إن تى» شديدة الانفجار، حرص اليابانيون على تخليد اللحظة، وكما توقفت عقارب ساعة حائط عند الدقيقة 11:02 صباحا، لحظة سقوط القنبلة، لايزال اليابانيون يذكرون أنفسهم، بالأهوال التى حدثت، ويذكرون العالم بتلك اللحظة الفاصلة فى التاريخ الإنسانى، حتى لا يذق أحد ما ذاقوه من أهوال تشبه يوم القيامة. تجولت فى حديقة هايبو سنتر، التى اختارها الأمريكان بعناية لتكون مكان سقوط قنبلة «الولد البدين»، حيث حى أوراكامى المزدحم بالسكان فى تلك المدينة الساحلية، الحديقة أعيد تصميمها على شكل دوائر خرسانية، مركزها مكان سقوط القنبلة، يغلب عليها اللون الأسود، وفى مركزها يوجد نصب تذكارى على هيئة مكعب مصنوع من الحجر الأسود، ويتناثر فى الدوائر التى تتسع كلما بعدت عن المركز، لوحات بعدة لغات توثق لتفاصيل ما حدث بالخرائط والأرقام، وتمثال لرجل يرفع يده إلى السماء، مع تماثيل لطيورالكركى الورقية، فى إشارة إلى مأساة «ساداكو».. فمن هى؟ حكاية ساداكو ساداكو تلك طفلة يابانية لم يكن عمرها يتجاوز العامين، وقت سقوط القنبلة، ولكن حظها أنها كانت بعيدة عن مركز إلقائها، وكتبت لها الحياة، وشربت من النهر شربة ماء ملوثة بالإشعاعات، فأصيبت باللوكيميا (سرطان الدم) بعد عشر سنوات، قالوا لها إن هناك أسطورة يابانية تقول إن كل من ينجح فى طى ألف ورقة على هيئة طائر الكركي، يستجاب لطلبه، وبالفعل بدأت ساداكو رحلتها فى طى الورق، ولكن القدر لم يمهلها إلا لطى 644 طائرًا، وماتت، ولكنها تحولت إلى رمز للسلام، وشاهدة على جريمة تسعى الإنسانية بكل وسائلها ألا تتكرر.. أكملت جولتى ودخلت متحف ناجازاكى للسلام الذى أنشئ ليكون مركزا لتأريخ وتوثيق الجريمة التى حدثت، رأيت ما عجل بمشيب شعرى: ورأيت الساعة التى توقفت عن العمل وأرخت بالدقيقة لوقت الجريمة، وملابس وألعاب وأدوات منزل ذابت من شدة الحرارة التى خلفتها القنبلة، مجسمات تفاعلية توضح تأثير الانفجار على البشر والحجر والكائنات الحية، وتوثيق لشهادات من بقى حيًا ومات لاحقًا من تأثير الإشعاعات النووية. خرجت إلى الساحة مرة أخرى والتقطت صورًا تذكارية مع مجموعة من اليابانيات ترتدين الزى الشعبى التراثى للمرأة اليابنية «الكيمونو». تركت المكان الذى تعجل فيه الإنسان على الإتيان بجهنم على الأرض، قبل أن يلقى فيها أعداء الإنسانية والحياة فى الآخرة. أطفال غزة ولكن ما حدث للطفلة ساداكو اليابانية وهز ضمير العالم، ولأجلها ولأجل من قضوا سوف تقرع الأجراس غدا للتذكير بالجرم الأمريكى، حدث مثله وربما أبشع مع قرابة 20 ألف طفل فى غزة، يقتلون ليل نهار على الهواء مباشرة، حيث يقصفون مرات بالقنابل الأمريكية الذكية فى مضاجعهم، ومرات وهم يرضعون من أثداء أمهاتهم التى جفت، ونضبت، ومرات تسوى بهم المستشفيات والمدارس والمراكز الأممية التى يتحصنون بها، وأخيرًا صاروا يموتون جوعى، يلقون الله وليس فى حلوقهم الجافة شيء، وأمعاؤهم خاوية. المفلسون: ووسط كل هذا، وكعادتها تتحمل مصر أقدارها، وتقف بكل الوسائل فى مواجهة عدو منزوع الأخلاق والضمير، محصنًا بدعم أمريكى غير محدود، وكما حاصرت إسرائيل شعب غزة فى شِعبهم، راحت مصر تحاصر إسرئيل دبلوماسيًا، وتفعل كل ما فى وسعها لإدخال المساعدات لأهل غزة الذين ألقيت عليهم قنابل تفوق قنبلتى هيروشيما وناجازاكى النوويتين، وراحت مصر تدفع بخمسة آلاف شاحنة محملة بكل احتياجاتهم، 70% منها من مصر، ثم يأتى حوار بعض المفلسين، ويتخرصون على مصر ويدعون زورًا وبهتانًا أنها تحاصر غزة!! أى هراء وأية وقاحة، مصر لم تشترك يومًا فى التآمر على أهل فلسطين، ولم تتورط فى ارتكاب ظلم تاريخى تجاههم، ومصر لن تكون معبرًا للتهجير، عبر إبادة ممنهجة تمارسها إسرائيل جهارًا نهارًا، وهو ما يمهد ببساطة لتصفية القضية، ولن تكون إلا معبرًا لإنقاذهم، وستبقى مصر- كما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسى مرات ومرات - سندًا حقيقيًا للشعب الفلسطينى، وحامية لقضيته من دون حسابات، غير صالح هذا الشعب. التيك توكرز نعيش حالة تغير جذرى فى أنماط الحياة، التى ورثناها وفى شكل العلاقات الاجتماعية التى اعتدناها، وفى صور التواصل الإنسانى المستقرة بين البشر، الكلام قد يكون غير جديد، فجميعنا يشعر بالتغيير ويراه فى البيت والغيط والجامعة والمسجد والكنيسة، ولكن حدته تتعاظم يومًا بعد يوم، يستوقفنى، كما يستوقف من يقرأ بالتأكيد، مشاهد الأطفال والصبية والفتيات فى الأندية وعلى الشواطئ وفى وسائل النقل العامة، وحتى فى دور العبادة وهم فى حالة انعزالية كاملة مع شاشات «موبايلاتهم»، يتحدثون مع كاميراتها رقصًا وغناء، لا يعنيهم من حولهم، هم فى عالمهم، عالم تتشكل أبعاده وتمتد إلى كل بقعة فى العالم يصلها «الريلز». نعيش مجتمعًا القدوة فيه للتيكتوكرز: أم مكة وأم سجدة وأم أربعة وأربعين، يقدمون محتوى أقل وصف يوصف به أنه تافه. خطورة ظاهرة «التيكتوكرز» أنها تهدد بصورة مباشرة منظومة القيم التى تربينا عليها، لم يعد التعليم ولا اتقان العمل هو الطريق المشروع للارتقاء مجتمعيًا، أو تحقيق الربح المادى من مصادر معروفة وشريفة، ولكن هناك طريقا سهلا ومضمونا، وهو تقديم محتوى تافه غث، وبقدر تفاهته، وانحطاط محتواه، بصورة مباشرة وغير مباشرة، بقدر ارتفاع عوائد الحسابات فى البنوك. إنهم آلهة هذا العصر، والقدوة أمام أولادنا، بعد أن أصبحوا نجومًا حقيقية، يملكون المال والتأثير، وللأسف القدرة على التوجيه.. نحن أمام طوفان يجتاح فى طريقه كل القيم والمعانى، بالتأكيد يتساءل الشاب بينه وبين نفسه: لماذا أسهر وأجتهد وأعمل، وأحصل العلم، إذا كان «التيكتوك» سيوفر فى ساعة وربما أقل ما قد يحصله موظف أو مهندس أو طبيب ربما فى سنة؟ التيك توك هو مغارة على بابا التى دخلها لصوص الأخلاق والدين والآداب وخرجوا محملين بالذهب وسكنوا القصور، وتنقلوا بأفخر السيارات. منصة تيك توك قامت بإزالة 16.5 مليون فيديو مخالفًا لقيم المجتمع خلال الفترة من يناير إلى مارس 2025، فى خمس دول عربية هي: مصر والعراق ولبنان والإمارات والمغرب، وأوقفت أكثر من 19 مليون بث مباشر مخالف على مستوى العالم خلال نفس الفترة، بزيادة 50% مقارنة بالربع السابق، وأوقفت بشكل استباقى أكثر من 1.5 مليون بث مباشر فى نفس البلدان.. وقامت وزارة الداخلية بتعقب الخارجات على القانون عبر تلك المنصات وقدمتهم للعدالة. بالتأكيد، المشكلة ليست فى التكنولوجيا، ولكن فيمن يستخدمها، ليست المشكلة فى السكينة التى صنعها الإنسان فى العصور الأولى ليستخدمها فى قطع الأشياء، ولكن فى الذى استخدمها ليقتل بها. خيرًا فعلت أجهزة وزارة الداخلية فى تعقب عدد من التيكتوكرز الذين اعتدوا على الحرمات وشوهوا قيم المجتمع وتعدوا على قيمه من أجل المال، ولكن أنا وأنت شركاء فى صناعة هؤلاء الذين خرجوا علينا كما تخرج الصراصير من بلاعات الصرف الصحى فى الأيام شديدة الحرارة، والرطوبة. قناة السويس قبل أيام، أعاد «الفيسبوك» تذكيرى بصور لى مع عدد من الكتاب الصحفيين فى المجرى الملاحى لقناة السويس الجديدة، كان ذلك قبل عشر سنوات، عندما احتفلت مصر بافتتاح قناتها التى أنجزتها فى أقل من عام معبرة عن إرادة تقهر المستحيل للمصريين الذين اشتروا شهادات لتمويل حفر القناة تجاوزت 67 مليار جنيه فى عدة أيام، ليتم الإنجاز الذى وقف العالم أمامه مشدوها بأيادى ومعدات وخبرات مصرية خالصة.. المصرى إذا آمن بقيادته، كما حدث مع الرئيس عبد الفتاح السيسى فإنه يصنع المستحيل، ويتخطى الصعاب عن طيب خاطر.. الجميل أن مصر تواصل الإنجاز ولم تتوقف لاستكمال مسيرة تطوير المجرى الملاحى للقناة ورفع كفاءته ليبقى الممر الأهم، والأفضل فى العالم، والقادر على الوقوف فى مواجهة كل المشاريع التى تستهدف النيل منه، والقضاء عليه.. ولو كره الكارهون.