أحضر له قلمًا عجيبًا بمقاييس ذلك الزمان، كان قلمًا بسوستة، التف حوله الفصل كله ليروا عجبًا. أسكن على مقربة من الساحل الأطيب. يسترد الناس أنفاسهم لحظة إفاقة مع أذان الفجر، فى وقت يكاد شباب الساحل الشرير يبدأون صخبهم ولا ينهونه إلا عند احتماء الشمس. أهل الساحل الأطيب يسمون الأشياء كما تعارف عليها المصريون منذ فجر التاريخ: الفلافل طعمية، وليست «جرين بيرجر»، والفسيخ ليس «جراى فيش ألا نيل»، والتشققات والتسلخات التى علمت على أجساد حمالى أجولة الغلال الشقيانين العرقانين فى الساحل الأطيب لن تكون أبداً ما يسميها سكان الساحل الشرير»صن كيسز» (بوسة من الشمس). يحول عمال الساحل الأطيب المنطقة أسفل كوبرى الساحل إلى شمسية يحتمون بها من لهيب الشمس. أكيد عرفتم أننى أتحدث عن ساحل روض الفرج. لا يتعمد عمال ساحلنا الأطيب الجلوس تحت أشعة الشمس «عشان يعملوا تان» (اكتساب البشرة للون البرونزى)، لأن هذا «التان» أو اللون القمحى هو لون جلدهم الطبيعى، اكتسبوه بعرق جبينهم على مر الزمن. فى ساحل روض الفرج، ينتشر على جانبى شوارعه الفرعية محلات العطارة والغلال وبيع الأسماك الطازجة، وتدب حياة أخرى بالمنطقة قبل شهر رمضان، ففيه يبدأ أكبر سوق لبيع البلح بمصر، واشتهر هذا السوق بإطلاق أسماء السياسيين والنجوم على أنواع البلح، فاطلق مثلاً رمضان الماضى اسم «نتنياهو» على أردأ الأنواع. ملامح الحى العتيق تبدلت، فاختفى ما تم إنشاؤه من جسور ومراسٍ على النيل فى عهد محمد على فى القرن التاسع عشر، لتفريغ البضائع القادمة من الصعيد والدلتا، ومنها مرسى ساحل روض الفرج. وهى بالطبع غير»مراسى» الساحل الشرير، التى لا تدخلها إلا بتأشيرة العصر الرقمى (كيو أر كود). الساحل الأطيب خرَّج لنا مشاهير الغناء الشعبى الأصيل، محمد رشدى، وحسن الأسمر، وأحمد عدوية. والحمد لله أن الثلاثة ماتوا قبل أن يسمعوا أغانى مهرجانات الساحل الشرير لشاكوش وبيكا وعنبة وصاصا. واعتقد أن الأخير طفل ينادونه باسم الدلع. ورأيت فيديو لمطرب - أو هكذا يزعم - اسمه «عنبة» يدخل لخشبة المسرح بالساحل الشريروسط موكب من ثمانية بودى جاردات «ليه خايف يقطفوه». وفى فيديو آخر- لاستعراض الثراء الفاحش لمطربى المهرجانات - تظهر سيدة تطوق عنق حمو بيكا على خشبة المسرح بعدة سلاسل ذهبية من النوع الثقيل يسمونه «جنزير». حين يشاهد أهل الساحل الأطيب هذه الفيديوهات يمصمصون الشفاه. ◄ القلم أحببت الكتابة بالقلم، رغم الثورة التى أحدثها الكى بورد فى تسهيل الكتابة. وما زلت حتى الآن اشترى منه الرخيص والنفيس، ويعرف كل القريبين منى أن أحب ما أهدى به ليس سوى قلم. كيف لا نحب القلم، وقد أقسم به ربنا، وأفرد صورة كاملة له فى كتابه الكريم: (ن، والقلم وما يسطرون). وحتى تعرف الأجيال الجديدة قيمة ما يشهده العصر من تطور، أذكر أننى عام 1966 كنت فى السنة السادسة الإبتدائي، وكنا نكتب بالقلم الحبر، ولم يكن القلم الجاف شائعاً بعد، إلا أن أحد تلاميذ الفصل، وكان والده يعمل بالسعودية، أحضر له قلماً عجيباً بمقاييس ذلك الزمان، كان قلماً بسوستة، التف حوله الفصل كله ليروا عجباً، فحين يضغط زميلنا على زر بالقلم، يخرج منه سن الكتابة، وإذا ضغط مرة أخرى أدخل السن لداخل القلم. كان القليل من الأقلام الجافة يستعمل وقتها، وعلى قلتها لم يكن شائعاً بينها القلم بسوستة. وفى أوائل الثمانينيات جرى نقاش مع أستاذنا الراحل الكاتب القدير محمد العزب موسى، وكان مشرفاً على ملحق «العالم بين يديك»، تعجب فيه كيف يمكن أن يبدع الكتَّاب والروائيون، وهم يخطون مقالاتهم ورواياتهم على الآلة الكاتبة، لم تكن ثورة الكمبيوترات قد اشتعلت بعد. وأضاف: كثيراً ما يكون شكل القلم وهو يجرى على الورق موحياً للكاتب بفكرة أو خاطرة صفو اللحظة، فقلت له: أعتقد أنها مسألة تعوّد، وبالمثل قد تكون خبطة الأصبع على حرف الآلة الكاتبة موحية أيضاً بفكرة ما، «ولو حضرتك وضعت القلم والورق جانباً واستخدمت الآلة الكاتبة لعدة شهور، ستستغرب نفسك حين تعود للورقة والقلم مرة أخرى». تطور الحديث بعدها لحوار حول إساءة البعض لاستخدام القلم فى الكذب والتضليل، ولىّ الحقائق أو اجتزائها، وكلها مهالك ذكَّرنا القرآن بخطورتها فى سورة البقرة: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). وأبيات الشعر التى كتبها ذو النون المصرى، أحد زهاد صعيد مصر: وما من كاتبٍ إلا سيبلى ويبقى الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيءٍ يسرك فى القيامة أن تراه آيات من المصحف وأبيات من الشعر تؤكد كلها حرمة وقدسية القلم، يجب أن يعيها كل حملة الأقلام، وإذا كان الكاتب القدير عبد الرحمن الشرقاوى قد ذكر فى مسرحيتة الشهيرة «الحسين شهيدا»: الكلمة نور وبعض الكلمات قبور. نعتذر على اقتباسنا منه لنقول إن القلم نور، وبعض الأقلام فجور. تحية من القلب لأصحاب أقلام شريفة مدادها حب مصر، والحمد لله فإنهم كثر. ◄ تكييف ببلاش ابتلانا الله بمنخفض الهند الموسمى الذى يحمل معه لهيب الحر لمصر. هو نظام جوى منخفض الضغط، ينشأ فوق شبه القارة الهندية نتيجة الارتفاع الشديد بدرجات الحرارة، ويتكون عادة فى مايو، ويبلغ ذروته فى يوليو وأغسطس. ويمتد تأثيره ليشمل مناطق واسعة من شبه الجزيرة العربية، إيران، العراق، وبلاد الشام، ويصل حتى مصر وشمال إفريقيا. المنخفض يجذب كتلًا هوائية شديدة السخونة من الجزيرة العربية نحو مصر. لكن ليس كل ما يأتى من الهند شر كله. يذكرنا تقريرلمركز «حلول للسياسات البديلة» بمصر، أن الهند خففت درجات حرارة الصيف عبر برنامج «الأسطح الباردة»، الذى اعتمد على طلاءات عاكسة منخفضة التكلفة، قللت درجات الحرارة داخل المبانى حتى 5 درجات مئوية، وساهمت فى تقليل مخاطر الحرائق بنسبة 32%. ودعا المركز للاستفادة من التجارب الدولية الناجحة الأخرى، زهيدة التكلفة مثل برنامج «الأحياء المتميزة» فى برشلونة، الذى أعاد تشكيل الشوارع الجانبية كممرات خضراء، وخفّض درجات الحرارة بالأحياء الكثيفة. ودعا المركز الحكومة المصرية لإعطاء أولوية لزيادة المساحات الخضراء بالمناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية المرتفعة، لافتًا أن نحو 66% من سكان القاهرة يعيشون بأحياء تقل فيها حصة الفرد من المساحات الخضراء عن 0٫5متر مربع، موضحاً أن زيادة نسبة الغطاء الشجرى بالمناطق المكتظة حتى 50%، يسهم فى خفض درجة حرارة الهواء بمقدار 0٫5 درجة مئوية، وتقليل استهلاك التبريد المنزلى بنحو 12 كيلوواط/ساعة سنويًّا. وطالب التقرير بتصميم أساليب تهوية مبتكرة ورخيصة، يمكن دمجها ضمن كود البناء المصري، لتقليل آثار الحرارة القاسية على الفئات الأكثر ضعفًا، كعمارة القباب التى اعتمدها البناء العظيم د. حسن فتحى.. اللهم أجرنا من حر جهنم.