داخل آلاف البيوت المصرية هناك خطر حقيقي يتربص بكل ساكن دون أن يشعر، خطر لا تصاحبه صفارات إنذار ولا يصدر عنه أي صوت، فقط شرارة صغيرة من مشترك كهرباء رخيص أو سلك مضروب اشتراه مقاول بعين موفرة كفيلة بأن تشعل منزلًا بالكامل وتحوله إلى مأساة. ومع دخول شهور الصيف وارتفاع درجات الحرارة واستهلاك الكهرباء بشكل مكثف يتحول هذا الخطر إلى كارثة حقيقية تهدد أرواح وممتلكات ملايين المصريين. في عام 2024 شهدت مصر 46 ألفًا و925 حادث حريق بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بنسبة زيادة بلغت 3.2% عن عام 2023. لكن الأخطر أن نصف هذه الحرائق وقعت خلال الصيف وهي الفترة التي يزداد فيها الاعتماد على أجهزة التكييف ويرتفع فيها الضغط على شبكات الكهرباء وتتسرب فيها شرارات الخطر من أضعف نقطة في الدائرة وهى السلك الرديء أو توصيلة غير مطابقة للمواصفات. وأصبحت الحرائق الناتجة عن خلل كهربائي ظاهرة يومية لا تثير دهشة رغم أن كل رقم منها يعني بيتا احترق، أو حياة انتهت. لكن ما وراء هذه الحرائق ليس فقط الإهمال بل سوقا سوداء متكاملة لبيع أدوات كهرباء مغشوشة تروجها مصانع بير السلم، ويتعامل بها مقاولو العقارات ويقبل عليها مواطنون يبحثون عن الأرخص دون إدراك لخطورتها. المكسب من الرديء فعلى الرصيف في سوق شعبي أو محل كهرباء صغير يمكن لأي شخص أن يشتري لفة سلك بسعر أقل من نصف سعر السلك المعتمد لكن هذا الفرق السعري يعادل فرقًا في جودة الحياة نفسها. في أحد محلات بيع الأدوات الكهربائية بمنطقة وسط البلد تحدثنا مع أحد أصحاب المحلات رفض ذكر اسمه والذي قال: إن الأسلاك المضروبة تنتشر بصورة غير طبيعية فالإقبال عليها كبير جدًا من نسبة من المقاولين وعمال الكهرباء لأنهم عندما يشترون تلك الأسلاك والأدوات الرديئة ويوفرون الفرق لأنفسهم رغم إن الزبون دافع ثمن التجهيز الغالي. ويضيف صاحب محل الكهرباء؛ أن المكسب في الأسلاك الرديئة يصل إلى 25% أما إذا تاجرت في الأنواع المعتمدة والأصلية فالمكسب لا يتعدى 2% فقط وهو ما يشجع البعض على الغش دون أي اعتبار للخطر. ويؤكد على انتشار تلك الأسلاك المغشوشة بسبب مصانع بير السلم الموجودة في المناطق العشوائية وأعلم بعضها فى محافظة القليوبية على سبيل المثال؛ حيث يستغل هؤلاء بدرومات العمارات في إنشاء مصانع بير سلم يصعب اكتشافها بالإضافة لاعتمادهم على مخازن ضخمة تعمل على توزيع هذه الأسلاك للسوق المحلي وهو ما يسهل أو نستطيع أن نقول انه احدى ابرز أسباب وقوع الحرائق في مصر. أما المصيبة الكبرى– والكلام على لسان صاحب محل أدوات كهربائية - فتكمن في أن بعض الكابلات المصنّعة بطرق بدائية تطلى خارجيًا بشكل احترافي حتى يوحي لمن يشتريها أنها بالجودة اللازمة، في حين أن الشعيرات الداخلية تكون ضعيفة ومتناثرة وغير قادرة على تحمل أدنى ضغط كهربائي. نصائح ذهبية كهربائيون ومهندسون أكدوا أن الفرق بين السلك الجيد والرديء لا يظهر بسهولة للمواطن العادي لكنه يظهر لحظة وقوع الكارثة فالسلك الأصلي مقاوم للنار بينما المغشوش يشتعل في ثوان. يرى الخبير في الأمن الصناعي المهندس خالد حسين؛ أن المشكلة أخطر مما يبدو ويصفها بأنها قضية أمن قومي؛ فالحرائق في المنشآت والمنازل تؤدي إلى خسائر بالمليارات وفي أحيان كثيرة تؤدي إلى وفيات والسبب واحد منتجات مغشوشة منتشرة بلا رقابة. وطالب خبير الأمن الصناعي الدولة بتشديد الرقابة على مصانع بير السلم ومراجعة تراخيص المحلات الصغيرة وهذا دور الرقابة الصناعية ووزارة التموين بالإضافة لتغليظ العقوبة على المتورطين في بيع أو تصنيع الأدوات الكهربائية المغشوشة وإطلاق حملات توعية وطنية للمواطنين والمقاولين، مع إدخال مادة السلامة الكهربائية ضمن مناهج التعليم الفني والصناعي وذلك حتى لا تتكرر نفس الكوارث. وقدم خبير الأمن الصناعي مجموعة من النصائح للوقاية من حرائق الكهرباء، تشمل فحص مصابيح الإضاءة والأسلاك بانتظام، وعدم استخدام المشتركات الرخيصة وإبعاد الأجهزة المولدة للحرارة عن الستائر والسجاد، بالإضافة لفصل الأجهزة غير المستخدمة، خاصة في المطبخ والحمام، مع عدم استبدال الفيوزات بأخرى ذات قدرة أكبر، والأهم كما يقول خبير الأمن الصناعي هو ضرورة الاعتماد على الفنيين المتخصصين في تركيب التوصيلات. فيما يرى المهندس سامي عبد الرحمن خبير الأمن الصناعي؛ أنه في ظل اتساع رقعة الحرائق الناتجة عن الكهرباء تعتبر جرس إنذار مبكر لكل بيت وكل منشأة حكومية أو خاصة فالخطر ليس في الكهرباء نفسها، الخطر في التعامل العشوائي مع الكهرباء، محذرا من أن الاعتماد على كهربائيين غير مؤهلين أو مقاولين يشترون كابلات مغشوشة قد يحول أي وحدة سكنية إلى كتلة لهب خلال دقائق. ويؤكد أنه هناك سلسلة من الإجراءات الوقائية التي يجب اتباعها لأنها كما وصفها الفاصل بين الحياة والموت منها؛ اختبار الشبكة الكهربائية بالكامل قبل التشغيل، عدم شراء أي أسلاك أو كابلات بدون شهادة مطابقة معتمدة أو فاتورة رسمية من موزع موثوق ومنع توصيل الأجهزة الحرارية مثل السخانات والمكاوي والتكييفات بمشتركات تجارية رخيصة، لأنها ببساطة غير مصممة لذلك الحمل الكهربائي بالإضافة لفحص دوري للتوصيلات كل 6 أشهر على الأقل، وخصوصًا قبل مواسم الصيف التي يزيد فيها الاستهلاك. ويشير إلى أنه يجب تدريب كل فرد في المكان، سواء موظف أو ساكن، على استخدام طفايات الحريق وكيفية فصل الكهرباء وقت الطوارئ، بالإضافة لمنع تمرير كابلات الكهرباء جنب مواسير الغاز أو المياه، لأن أي تسريب بسيط مع شرارة يعني كارثة، كما يجب استخدام قواطع ذكية تفصل تلقائيا عند وجود ماس أو ارتفاع غير طبيعي في التحميل، بدلا من القواطع التقليدية اللي غالبًا تنهار مع أول اختبار حقيقي. فالحرائق لم تعد تقتصر على المنازل فقط بل امتدت إلى مستودعات كبرى ومطاعم شهيرة ومخازن مصانع وهو ما حدث مؤخرا في أكثر من حريق أدى إلى خسائر بالملايين، وتحقيقات كانت تنتهي أغلبها بعبارة «الحريق اشتعل بسبب ماس كهربائي» لكن المفارقة أن كثيرا من أصحاب هذه المشروعات أنفسهم يكونون قد لجأوا إلى حلول مؤقتة أو أرخص شوية أسهمت في الانفجار. الكهرباء والضمير وتقول الدكتورة سارة عبد الحميد أخصائية الطب النفسي: إن الناس التي تشتري أدوات كهربائية مغشوشة ليس دائمًا فكرها أو نيتها الإهمال لكن أحيانا يكون وراء القرار ضغط اقتصادي فالشخص يعيش حالة من القلق والتوتر المزمن ويتجه لحلول مؤقتة وأرخص لأنه يشعر أنه مهدد طول الوقت ماديًا، فتجده يفكر في اللحظة الحالية وليس في المستقبل وهذا بالطبع خطأ، فالمأساة إن الدماغ وقتها تعمل بنظام النجاة اللحظية وليس السلامة طويلة المدى وهذا سلوك دفاعي خطير. وتضيف؛ أنه في نفس الوقت نجد بعض المقاولين أو الفنيين الذين يغشون في العمل ولديهم تبلد أخلاقي لا يهمهم أمان الناس فقط التوفير في التكاليف، وهذا معناه إن هذا الشخص مع الوقت يتجاهل ضميره لأن الأهم عنده هو المكسب الذي يعود عليه من هذا العمل، ودائمًا تجده يقنع نفسه، «بأنه لن يحدث شيء»! وتؤكد أخصائية الطب النفسي؛ المشكلة أن كل طرف يرمي اللوم على الآخر، فالمواطن يقول «معيش» والمقاول الغشاش في منطقه «الزبون مش هيفهم»!، والنتيجة إن البيت تتحرق والنفوس ايضا تتحرق من جوه بسبب الشعور بالذنب أو الفقد. جريمة مكتملة الأركان أما يارا طلعت المحامية فتقول: إن القانون المصري يتعامل مع الغش في الأدوات الكهربائية باعتباره جريمة مكتملة الأركان وبيع أو تداول سلع غير مطابقة للمواصفات يُعاقب عليه بالقانون وفقا لقانون حماية المستهلك، ووفقا للقانون بيع منتج مغشوش ممكن يوصل عقوبته للحبس من سنة ل 5 سنوات وغرامات تتجاوز 300 ألف جنيه، خاصة لو نتج عنه ضرر أو إصابة. وتؤكد أن الأخطر قانونا هو لو أدى السلك المغشوش إلى حريق نتج عنه وفاة أو إصابات وقتها نكون أمام جريمة قتل خطأ أو إصابة خطأ بسبب الإهمال الجسيم وهنا العقوبة تزيد حيث تزيد فيها المسئولية الجنائية مباشرة على المقاول أو الفني وأحيانا على صاحب المحل الذي باع المنتج، لأن الغش في الأدوات الكهربائية ليس مجرد غش تجاري بل هو جريمة تهدد أرواح الناس. وتضيف يارا طلعت المحامية؛ أن القانون يحمل الدولة مسئولية الرقابة على الأسواق والمصانع غير المرخصة وفي حالة تقصير أجهزة الرقابة أو التفتيش ممكن المواطن أن يلجأ لتعويض مدني عن الأضرار التي حصلت له. وتقدم المحامية يارا طلعت نصيحة قانونية للمواطنين؛ أنه لا يجوز بأي حال أن يتم تركيب أو استخدام أدوات كهربائية بدون فواتير أو شهادات مطابقة وأي حادث ينتج عن أدوات مغشوشة يعرض المتسبب للمساءلة الجنائية والمدنية معا. فما يحدث في سوق أدوات الكهرباء المغشوشة ليس مجرد حالة فساد عابرة، بل جريمة ممنهجة تهدد حياة الملايين. ورغم تكرار الحرائق يوميًا لا يزال بعض البائعين يروجون لبضاعتهم وبعض المقاولين يركبونها في بيوت لا يعرف أصحابها أنهم يسكنون على لغم مؤجل الانفجار. الدولة ممثلة في حماية المستهلك والرقابة الصناعية ووزارة التموين مطالبة بإجراءات قوية تشمل ضبط المصانع غير المرخصة وإغلاق المخازن وتشديد الرقابة وتحميل المسئولين عن كل حادثة حريق مسئوليتهم الجنائية حتى يتعظ الآخرون ولا يكررون الأخطاء. ليس الدولة فقط لكن المواطن أيضا له دور، فلا عذر لمن يشتري الموت بثمن أقل فالكهرباء ليست لعبة ولا مجال للتوفير فيها لأن البيت الذي يشتعل بعد دقائق من الماس الكهربائي لا يعود أبدا كما كان. اقرأ أيضا: الحماية المدنية تسيطر على حريق داخل شقة السكنية بالوراق| فيديو