محمود الجارحي: كلمة السيسي في ذكرى أكتوبر جسدت وعي القيادة وقوة الدولة    نائب رئيس جامعة أسيوط يتفقد سير العمل بقطاع المكتبات الجامعية    رئيس الوزراء يؤكد التزام مصر ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الوطني    «البترول» تستعد لحفر بئر جديدة في البحر المتوسط    تكاليف اقتراض الحكومة الفرنسية تقفز بعد استقالة رئيس الوزراء واهتزاز أسواق المال    القاهرة الإخبارية: التنسيق المصري القطري حاضر بقوة في المفاوضات بين حماس وإسرائيل    السعودية تتيح أداء العمرة لجميع حاملي التأشيرات ضمن مستهدفات رؤية 2030    استدعاء ثنائي المصري فادي وائل وسيف الجبالي لمعسكر منتخب مصر 2008 استعدادًا لكأس العالم    النيابة العامة تُفرج عن 38 متهمًا محبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا    وزير الخارجية يلقى كلمة مصر في المجلس التنفيذي لليونسكو.. ويدعو جميع الدول لانتخاب الدكتور خالد العناني لمنصب المدير العام    بالصور.. أحمد حلمي ومنى زكي يخطفان الأنظار في أحدث ظهور    «الرعاية الصحية» و«الدواء المصرية» تبحثان توطين الصناعات الطبية والدوائية الروسية    سر صفاء الذهن..عشبة صباحية تمنحك تركيزًا حادًا وذاكرة قوية    «تنمية المشروعات» وشباب «تراثنا» يحتفلون بذكرى انتصارات أكتوبر    باحث فلسطيني للفجر: لا أتوقع حدوث فارق بمفاوضات غزة.. ونتنياهو يعتبر رد حماس الإيجابي مناورة سياسية |خاص    عضو بالبرلمان الإستوني: الحرب الروسية في أوكرانيا تمثل اختبارا قويا لحلف الناتو    أبو الغيط يحتفل بإطلاق ترجمات عالمية لكتابيه "شاهد على الحرب والسلام" و"شهادتي"    منافسة شرسة بين 8 لاعبين على جائزة نجم الجولة السابعة فى الدوري الإنجليزي    أسعار الحديد في أسيوط اليوم الإثنين 6102025    آخر مستجدات مصير فيريرا مع الزمالك    الأهلي يحدد 16 أكتوبر موعدا مبدئيا لرحلة بوروندي    البطلة آية سويلم بنت الإسماعيلية تحصد ذهبية بطولة نيويورك للقوة البدنية    كرة سلة - أهلي بني غازي يعين سامح صلاح مديرا رياضيا    منتخب إنجلترا يعلن استبعاد ريس جيمس.. وانضمام مدافع سيتي بدلا منه    "Taskedin" تطلق مبادرة لدعم 1000 رائد أعمال بالتزامن مع انطلاق قمة "تكني سميت" بالإسكندرية    شاهد فرحة 2735 نزيلا مفرج عنهم بعفو رئاسى فى ذكرى انتصارات أكتوبر    4 متهمين: جنايات المنيا تحجز قضية قتل واستعراض قوة.. للأربعاء القادم    موعد امتحانات شهر أكتوبر لصفوف النقل 2025-2026.. (تفاصيل أول اختبار شهري للطلاب)    رئيس الوزراء يصدر 3 قرارات جديدة (تفاصيل)    خطوات التسجيل في برنامج الهجرة العشوائية إلى أمريكا 2026.. كل ما تحتاج معرفته عن اللوتري الأمريكي    لحظة مؤثرة.. ياسر جلال يودع ابنته بعد حصولها على منحة تفوق    سر خطير كشفته بدلة استشهاد "السادات".. وكيف تغير مسار رصاصة فقتلته.. فيديو    موعد عرض مسلسل المدينة البعيدة الحلقة 32 والقنوات الناقلة في مصر    «عاوز الحاجة في نفس الثانية».. 3 أبراج غير صبورة ومتسرعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-10-2025 في محافظة الأقصر    داعية إسلامي: نصر أكتوبر انتصار إيمانيا وروحيا وليس عسكريا فقط (فيديو)    «العمل» تعلن 720 فرصة عمل بسلسلة محلات شهيرة    وزارة الشباب والرياضة تُحيي اليوم العالمي للشلل الدماغي    ممثلًا عن إفريقيا والشرق الأوسط.. مستشفى الناس يشارك بفريق طبي في مؤتمر HITEC 2025 العالمي لمناظير الجهاز الهضمي العلاجية المتقدمة    مصرع طفل سقط من علو في إمبابة    محافظ المنوفية يفتتح أعمال تطوير ورفع كفاءة نفق "كوبري السمك" بحي غرب شبين الكوم    وزير العمل: القانون الجديد أنهى فوضى الاستقالات    أفلام لا تُنسى عن حرب أكتوبر.. ملحمة العبور في عيون السينما    «الداخلية»: ضبط متهم بالنصب على مواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    فالفيردي يغيب عن معسكر منتخب الأوروجواي    التوعية والتمكين وتحسين البيئة للعاملين ..أبرز حصاد العمل بالمحافظات    نجم الزمالك السابق يعتذر لمحمد مجدي أفشة    3 علماء يفوزون بجائزة نوبل في الطب لعام 2025 (تفاصيل)    نائبا رئيس الوزراء يشهدان اجتماع مجلس إدارة هيئة الدواء المصرية.. تفاصيل    «عبد الغفار» يشارك في ختام «مهرجان 100 مليون صحة الرياضي»    مياه القناة: تجارب عملية لمواجهة الأمطار والسيول والأحداث الطارئة في الشتاء    «الداخلية» تكشف ملابسات فيديو يُظهر اعتداء على مواطن وأسرته بدمياط    كجوك والخطيب: القطاع الخاص المصرى مرن وإيجابي وقادر على التطور والنمو والمنافسة محليًا ودوليًا    رئيس الوزراء الفرنسي بعد استقالته: لا يمكن أن أكون رئيسًا للوزراء عندما لا تستوفي الشروط    لماذا يستجيب الله دعاء المسافر؟.. أسامة الجندي يجيب    ما حكم وضع المال فى البريد؟.. دار الإفتاء تجيب    أسعار الخضراوات والفاكهة بكفر الشيخ الإثنين 6 أكتوبر 2025    اعرف مواقيت الصلاة اليوم الأثنين 6-10-2025 في بني سويف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد صدور كتابها «ما بين إمبراطوريتين».. نللى حنا: الدراسات التاريخية تعيش أزمة ولم يعد لدينا سوى مؤرخين متوسطين
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 21 - 07 - 2025

خلال عام 2016 تلقت الدكتورة نللى حنا دعوة لزيارة دمشق، لتكريم صديقها المؤرخ السورى عبد الكريم رافق، والذى توفى العام الماضى، عن عمر ناهز 93 عامًا ناقشت «حنا» فى كلمتها علاقة مصر بالإمبراطورية العثمانية، وعند عودتها ظلت فكرة تلك العلاقة تطاردها بشكل مستمر، إلى أن قررت بدء رحلة خاصة للبحث عن جذورها لم تتخيل وقتها أن رحلتها ستستمر لقرابة ال9 سنوات وهى مدة العمل على كتابها الأخير «ما بين إمبراطوريتين.. مصر فى القرن السادس عشر» والذى صدرت منه النسخة العربية مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية.
تعتبر حنا كتابها خلاصة تراكمات علمية وحياتية خلال رحلتها الممتعة والممتدة مع الحقبة العثمانية، وتقدم فيه صورة بانورامية كاملة عن المحروسة خلال القرن السادس عشر، الذى شهد عمليات معقدة لانتقال السلطة بين المماليك والعثمانيين هذه العملية عادة يتم تقديمها فى كثير من الكتابات على أنها «انتقال سلس للسلطة» ولأنها دائمًا ترفض الإكلشيهات فقد كان لها رأى آخر، حيث تشرح وتحلل فى كتابها كيف أن هذا الانتقال لم يكن سلسًا بالمرة وهى محاولة من جانبها لملء فراغ ضخم تركه المؤرخون فى التاريخ، فقد تجاهل أغلبهم هذه الفترة بسبب ندرة الوثائق والحوليات التى يمكن من خلالها التأريخ لهذه الحقبة.
تتبعت «نللي» أسباب غياب «الحوليات» والوثائق التى تخص هذه الفترة، ولجأت لمصادر غير تقليدية، مثل كتب الأدب والفقه والرحالة والمتصوفة، لتخرج فى النهاية باستنتاجات -ربما- تكون بمثابة تاريخ آخر يكتب عن مصر فى هذه الحقبة تقول: «الأدب قادر على التأريخ ولكن وفقًا لشروط صارمة. من الممكن الاستعانة بالأدب لتوصيف حالة المجتمع، واستطعت بالفعل جمع معلومات حول أعيان وكبار المسئولين، من خلال الأدب نظرًا لغياب المعلومات حول فترة ما بعد ابن إياس؛ لذلك نحن لم نتعرف على ذوى النفوذ إلا من خلال الكتابات الأدبية».
تشرح حنَّا فى كتابها أيضًا كيف عانى العثمانيون من تعقيدات وضع إدارى بيروقراطى فرضه المماليك خلال إدارتهم للدولة، وهو ما انعكس على بدايات حكمهم فى مصر، حيث وجد العثمانيون صعوبة بالغة فى إدارة البلاد والعباد؛ وبذلك فإنها ترصد بتأن عبر كتابها العمليات البطيئة والمعقدة لإدماج ولاية مصر فى المنظومة العثمانية لم يتحقق هدف الدولة العثمانية بسهولة كما يظن الكثيرون، فبمجرد غزوهم مصر سنة 1517 بقيادة سليم الأول ظل النظام العميق للدولة المملوكية «شوكة» فى حلقهم، وقد أدركوا فى مرحلة مبكرة أن محاولة بسط السيطرة الكاملة ليست بالعملية السهلة، حيث ظلت محاولة بسط السيطرة من جانبهم مستمرة لقرابة قرن كامل؛ أى حتى مطلع القرن ال17.
هنا نحاور المؤرخة الدكتورة نللى حنَّا أستاذة التاريخ ب الجامعة الأمريكية، حول هذا الكتاب المهم، ونتعرف منها على شكل المجتمع المصرى آنذاك، وكيف حاول العثمانيون السيطرة على الولاية الأهم فى العالم الإسلامي؟ نتعرف أيضا على رؤيتها بخصوص الدراسات التاريخية التى يتم تقديمها حاليًا، وموقفها كمؤرخة من التوترات الحالية فى المنطقة والعالم.
هناك اعتقاد سائد وهو أن دراسة الإمبراطورية العثمانية لا بد أن تبدأ من المركز؛ أى العاصمة.. لكنكِ فى المقابل تعتقدين أن دراسة الإمبراطورية عبر الإقليم يساعدنا فى معالجة الخلل بالنسبة للكتابة التاريخية.. فى رأيك لماذا لم ينتبه المؤرخون لهذه الجزئية ولماذا ركزت أغلب الدراسات حول المركز لا الإقليم؟
توجد العديد من الأسباب منها مثلًا أن الفترة العثمانية عادة ما يتم تقديمها عبر الوثائق الموجودة داخل مصر والاكتفاء بهذا الجانب، مع وجود بعض الاستثناءات لكن بشكل عام من النادر استخدام المؤرخين للوثائق العثمانية وعندما يكتبون عن القرن ال16 فهم يبدأون من منتصفه ويعالجون وثائق منتصف القرن وليس بدايته وهذا يرجع لعدة أسباب مثلًا فنحن لدينا مشكلة فى تعلم اللغة العثمانية داخل مصر، نتيجة غياب الأقسام التى تدرسها ونتيجة لذلك أصبح التاريخ العثمانى الذى نقدمه يكتب عبر الاستعانة بمصادر مصرية بحتة أيضًا فالكتابة عن تاريخ العصر العثمانى بدأت متأخرة، لأن مصر عاشت فترات من التراجع الثقافى والانحدار فى معظم الكتابات فضلًا عن تجاهل التاريخ العثمانى الذى درسناه فى فترة متأخرة نسبيًا مثلًا فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى تم تجاهل الحقبة العثمانية بالكامل فى المقابل تم تقديم التاريخ المصرى المملوكى بشكل عميق، أما العثمانى فقد اقتصر على صفحات قليلة جدًا فى كتابات المؤرخين حيث ركزت كتاباتهم على العصر المملوكى، ثم العثمانى بصورة موجزة وبعده ينتقلون للاستفاضية فى الكتابة عن عصر محمد على باشا، وهذا يعنى أن العصر العثمانى كان دائمًا ما «يقع فى السكة».
الأمر الثانى أن الأتراك أنفسهم يواجهون المشكلة نفسها لأن غالبية المؤرخين الأتراك لا يتكلمون العربية وليس هناك اهتمام من جانبهم بالعالم العربى. لكن المؤكد وجود كم كبير من الوثائق عن مصر فى إسطنبول والتى لم تستخدم بعد فى الكتابات التاريخية أما على المستوى العالمى نجد أن الدراسات الأجنبية ركزت على دراسة المركز وليس الإقليم لكن بلا شك فإن دراسة وثائق الإقليم لها أهمية كبيرة لأنها تقدم لنّا صورة مغايرة حول وضع الأقاليم وتأثيرها على المركز وليس العكس.
قلتِ فى كتابك إن ندرة الحوليات أجبرتك على إعادة بناء سردية حول هذه الفترة من خلال الرجوع لوثائق غير تقليدية.. مثل: الأعمال الأدبية، والرسائل الفقهية، وكتب الرحالة، والتراجم، وكتابات المتصوفة.. كيف يمكن استعمال هذه المصادر من جانب المؤرخ وهل الأدب قادر على التأريخ؟
الأدب قادر على التأريخ لكن وفقًا لشروط صارمة نحن لا نأخذ المعلومات من المصادر الأدبية باعتبارها مسلمات، إذ يمكن الاستعانة بالأدب لتوصيف حالة المجتمع استخدمت مثلًا كتابات الجزيرى والذى عاش فى منتصف القرن ال16، حيث كتب عن الحج خلال هذه الفترة بسبب عمله على كسوة الكعبة وخدمة الحجاج؛ لذلك سنحت له الفرصة لتكوين علاقات جيدة مع أعيان المجتمع، وأهل السلطة، إذ تبادل معهم اللقاءات والأحاديث المستمرة، وبحكم موقعه تعرف على إبراهيم الدفتردار، وهو شخص لم نكن نعلم عنه شيئًا كمؤرخين رغم الدور المهم الذى لعبه أثناء هذه الفترة.
وعرفت أيضًا عبر المصادر الأدبية أن هناك ديوان خاص بالمالية أيضًا والذى كنا نجهل دوره أو وجوده من الأساس، وقد عمل فيه أحد المماليك دورًا كبيرًا داخله بسبب توافر معلومات لديه عن الطبيعة المالية لمصر والتى كان يجهلها الأتراك مثل هذه الأمور تعرفت عليها من خلال الأدب، وكان من الضرورى عدم تجاهلها أيضًا من خلاله استطعت جمع معلومات حول أعيان وكبار المسئولين المشكلة من وجهة نظرى سببها أن هناك نقص حاد وغياب للمعلومات حول فترة ما بعد ابن إياس؛ لذلك نحن لم نتعرف على ذوى النفوذ إلا من خلال الكتابات الأدبية.
إذن هل يمكن الاستعانة بكلًا من الرواية والرسائل الفقهية لكتابة التاريخ؟
بالتأكيد لكن المهم أن يستعمل ويوظف المؤرخ أدواته بشكل جيد، إذا ما أراد الاستعانة بالأدب أو السينما خلال رحلة تأريخه للقرن ال19 على سبيل المثال. أما الرسائل الفقهية من الممكن أن تكون مليئة بالمعلومات التاريخية وقد استخدمتها للتعرف على العملية المعقدة لإدارة الأراضى الزراعية خلال القرن ال16، لكن من المهم معرفة أن الرسائل الفقهية قد لا تحوى داخلها أية معلومات مفيدة بالنسبة للمؤرخ. هذا الأمر يعتمد بالأساس على موقف الفقهاء من السياسات المحلية ومصالحهم نلاحظ مثلًا أنهم كتبوا الكثير من الكتابات حول أزمة الأراضى خلال منتصف القرن ال16 وهذا سببه تعارض مصالحهم مع الدولة العثمانية؛ لذلك نجد كثير من الكتابات تتحدث حول هذه الجزئية.
لاحظت أن طريقة التعامل مع طبقة التجار جرت بسلاسة شديدة ولم يكن هناك صدام بينهم وبين الدولة العثمانية مقارنة بمحاولة بسط النفوذ على الأراضى الزراعية من جانب العثمانيين.. ألا يبدو هذا غريبًا؟
سبب ذلك يعود إلى أن كلا الطرفين؛ أى الدولة العثمانية والتجار استفادا من النظام الجديد اهتم العثمانيون بالزراعة لكونها أهم مورد للدولة العثمانية أما التجارة فقد كانت هناك مصالح مشتركة بين العثمانين والتجار؛ لذلك جرت العملية بسلاسة، حيث ضمن التجارة المصريون رواجًا لتجارتهم فى كافة أنحاء العالم الإسلامى.
ذكرتِ أيضًا أن المصادر المحلية الشامية لهذه الفترة كانت أكثر غزراة من المصرية.. ما سبب ذلك؟
لعدة أسباب فمصر كما ذكرت ظلت تعتمد على كتابات ابن إياس، بينما ظهر فى الشام العديد من المؤرخين خلال تلك الفترة مثل: ابن طولون الصالحى، ونجم الدين الغزى هؤلاء استطاعوا الكتابة عن الشام فضلًا عن وجود تراجم لكثير من الفقهاء أما فى حالة مصر فتحليلى أن المصريين أصيبوا بصدمة عقب سقوط المماليك، ولم تعد للثقافة معنى يذكر ابن إياس مثلًا أن أعيان المماليك كانوا يتسولون فى الشوارع لأنه لم يعد هناك مصدر رزق لهم بعد أن سحب العثمانيون كافة الامتيازات منهم. لم ينهار مركز مصر لكنه تراجع، فضلًا عن أنه لا يمكن مقارنة الكتابات التى أنتجها المماليك بالكتابات الأخرى التى تم تقديمها ليس فى الفترة العثمانية فقط بل فى التاريخ الإسلامى بأكمله؛ لذلك عندما غادر المماليك السلطة حدث شلل تام للثقافة المصرية. لم يستوعب مثقفوها حقيقة ما جرى، لكنهم عادوا بعد هذه الصدمة وقدموا كتاباتهم مرة أخرى، لكن ليس بالقدر الذى كان من قبل.
حاولتِ فى كتابك الإجابة عن سؤال وهو: «أين تكمن السلطة.. فى المركز أم الهامش»؟ فى رأيك هل ساهم الإقليم وبخاصة مصر فى استمرار حكم العثمانيين طيلة هذه الفترة.. فقد أعطتهم مصر والشام قيمة اقتصادية مضافة لم يحلموا بها؛ أى تحولت الدولة العثمانية بفضل مصر لإمبراطورية حقيقية؟
بالتأكيد لعبت مصر دورًا كبيرًا فى هذه الجزئية لأنها ساهمت فى استمرار حكم الإمبراطورية العثمانية، أولًا لأسباب اقتصادية وأبرزها التجارة، إذ حصلوا على مصادر دخل جديدة ومتنوعة لم تكن متاحة لهم من قبل، واستفادوا أيضًا عمليات التجارة داخل البحر الأحمر، فضلًا عن الأموال التى كانت ترسلها مصر سنويًا لإسطنبول كونها الولاية الأغنى قبل وجود العثمانين فى مصر لم تكن السلطة العثمانية تملك سوى ميناء إسطنبول وأزمير والأخير لم يكن ذا صقل يذكر مقارنة بالموانئ المصرية. لكن على أية حال عندما وضع العثمانيون يدهم على مصر وشمال إفريقيا ضمنوا أن العالم العربى أصبح ملكًا لهم، واستطاعوا بفضل هذه الأمور تكوين الإمبراطورية وتمويل حروبهم من خلال التجارة، والجباية التى فرضوها على ولاية مصر، والشام، وشمال إفريقيا.
فى كتابك قلتِ إن مصر فى بداية حكم العثمانيين لم تدار من جانب السلطان العثمانى أو الباشاوات بل ظلت تدار من جانب هؤلاء الذين امتلكوا سلطة المعرفة.. لماذا أخفى المماليك معرفتهم أمام العثمانيين رغم أن ذلك كلفهم حياتهم فى كثير من الأحيان.. ما سبب حرصهم على ألا تتسرب معرفتهم الإدارية والمالية، وهل تعتقدين أن المماليك كانوا أكثر ذكاء من العثمانيين بدليل استمرار تأثيرهم بعد انهيار دولتهم بقرون.. بينما فى المقابل انهارت الدولة العثمانية ولم يعد لها تأثير يذكر الآن؛ أى بعد قرن واحد من سقوطها؟
للأسف نحن لا نملك معايير للحكم إن كان ذلك تم باستخدام الذكاء أو صدفة. يمكن أن تكون الصدفة قد لعبت دورًا مع المماليك لكن السؤال المهم الذى يجب طرحه دائمًا هو كيف تنتهى الإمبراطورية وعلى أى صورة انتهت؟ هذه أمور ينبغى الالتفات إليها فى المستقبل من جانب الدراسات التاريخية يجب إعادة النظر فى فكرة نهاية الإمبراطوريات والحقيقة أن الناس لا ينتهون بتغيير نظام الحكم، بل إن هناك استمرارية ومعارف تظل تتراكم ولا تنتهى، لكن من الضرورى فهم الجانب الاجتماعى لسلوك الناس صحيح أن السلطة تغيرت على عدة مستويات، كما أن العثمانيين بسطوا سيطرتهم. لكن إذا تعمقنا فى الأمور سنجد أن هناك بقايا وترسبات ظلت مترسخة داخل الحياة الاجتماعية لدى المصريين كانت معرفة العثمانيين بمصر مرتبكة وناقصة، وهذا سبب لهم أزمات كبيرة فى بداية حكمهم ولم يكن انتقال السلطة سلسًا، ومثل هذه الأمور تحتاج لإعادة نظر أما بالنسبة لصعوبة شراء ولاءات المماليك من جانب العثمانيين وخاصة هؤلاء الذين تخصصوا فى الأمور المالية، فالمواجهة لم تكن سهلة، هناك مماليك تعاونوا مع العثمانيين وفى المقابل حجبوا بعض المعلومات الهامة الأخرى، وهناك مماليك ماتوا من الجوع، وآخرين قتلوا فى الشوارع، وهناك من تم تعيينهم كبشوات فى بلدان أخرى. لذلك نحتاج للتوسع فى هذه النوعية من الدراسات التى تتحدث عن نهاية الدولة.
أيضًا عندما جاء الفرنسيون إلى مصر واجهوا نفس المصير، وعانوا كثيرًا من جمع الضرائب بسبب النظام المعقد للبلاد فضلًا عن امتناع البعض من مساعدتهم أو مدهم بالمعلومات وبالمناسبة أدرك العثمانيون منذ فترة مبكرة ضرورة منع احتكار المناصب لذلك تبنوا سياسة التدوير بالنسبة للولاة العثمانيين خوفًا من احتكار المناصب، لكنهم فى المقابل تركوا الإداريين فى مناصبهم ولم يتم تغييرهم مهما تغير الحكام والولاة فقد عينوا بعض المماليك داخل المناصب الإدارية، ولم يكن لديهم ارتياب نحوهم، لأن كليهما كانت لديه مصلحة من استمرار الوضع، كما أن الدولة العثمانية تبنت فى كثير من الأحيان سياسة برجماتية فى التعامل مع الأمور.
لننتقل لنقطة أخرى.. قدمتِ عشرات الدراسات والكتب حول الحقبة العثمانية.. هل تراجعتِ عن بعض القناعات والآراء التى قدمتيها فى كتاباتك؟
لا لم أتراجع أبدًا.. منذ صغرى لم أكتب شيئًا لست مقتنعة به، كان ضميرى هو ما يقودنى دائمًا فكتابى الأخير وضعت فيه تراكم خبرات حياتى، صحيح أن الخبرة جعلت كتاباتى بمرور الوقت مختلفة، لكننى لم أغير قناعاتى. كتابى الأخير مثلًا جعل منى شخص مختلفا تمامًا فى السابق كنت أقدم موضوعات مختلفة، وأتنقل من منطقة لأخرى. لكن الآن أشعر أننى غير قادرة على الكتابة حول حادث بعينه أو شخص معين لم أعد قادرة على العودة للوراء والكتابة عن الموضوعات الدقيقة مثلما كنت أفعل فى الماضى، الآن أنظر للأشياء بصورة شاملة وواضحة.
حاليًا هناك عشرات الكتابات التاريخية المصرية التى تصدر سنويًا.. هل تعيش الكتابات التاريخية داخل مصر صحوة أم أنها تتراجع؟
العالم كله يعيش أزمة على مستوى الدراسات التاريخية. فى أمريكا مثلًا هناك نوع من التسطيح للتاريخ كما أن المنح المقدمة لنيل الدكتوراه من جانب الجامعات الأمريكية أصبح تمويلها ضعيف، وهى أمور تجبر الطلبة للبحث عن موضوعات سهلة وبالنسبة لمصر فقد أنتجنا عددا كبيرا من المؤرخين المهمين، وقد لعبوا دورًا مهمًا فى عملية التأريخ للمجتمع المصرى، لكن الآن أرى أن الاهتمام بالتاريخ تراجع كثيرًا، أصبح المفكرين، والنوابغ يتجهون نحو مجالات متعلقة بالاقتصاد، وعلوم الحاسب وبالمناسبة فهذه المشكلات تعانى منها أيضًا أوروبا، مثلًا فى ستينيات القرن الماضى ظهر مؤرخين فرنسيين غيروا من شكل التاريخ الذى كنا نعرفه، وهنا أنا لا أبالغ بل أتحدث بواقعية ومنهم مثلًا المؤرخ فرنان بروديل، لكن اليوم لم يعد لدينا مثل هؤلاء المؤرخين، لدينا مؤرخين متوسطين على المستوى العالمى. لكن هناك نقطة أريد الإشارة إليها وقد تبعد قليلًا عن سؤالك وهى أن إلغاء مادة التاريخ من مناهجنا سواء فى الثانوية العامة أو الجامعات أمر لن نتحمل عواقبه، ونحن لا ندرك نتائجه التى ستصيبنا على المدى الطويل، وسيقودنا الأمر لكارثة تربية أجيال لا يعرفون تاريخهم أمر خطير على الأمة ككل، وهذا يمهد ويسمح للعدو لكتابة تاريخنا وفقًا لأجندته وتصوره الخاص، وهى أمور بالمناسبة تجرى الآن.
كما أن هناك تضييقًا فى عملية إصدار التصاريح من جانب دار الكتب والوثائق القومية، كل هذا ساهم فى اتجاه الباحثين الأجانب لدراسة مناطق أخرى مثل تركيا، وسوريا، وأوروبا. وهذه الأمور تساهم أيضًا فى إقدام الطلبة المصريين على دراسة المناطق الآمنة التى لا تحتاج استخراج تصاريح من جانب دار الوثائق.
هل هذا يقودنا لإطلاق مصطلح «موت الدراسات التاريخية» وهو المصطلح الذى انتشر فى كافة التخصصات العلمية منذ مطلع القرن ال21؟
أرجو وأتمنى ألا تموت الدراسات التاريخية، لكن ما يجب أن نعترف به هو أن الكمبيوتر ومجالاته الحديثة أخذت حيزًا كبيرًا، وهذا أمر يجب مراجعته وحث النوابغ على الاتجاه نحو الدراسات التاريخية مرة أخرى.
حاليًا تتردد أحاديث دائمة حول ميلاد نظام عالمى جديد.. وفى المقابل نحن نعيش فترة من الاضطرابات حيث بدأ العالم الذى نعرفه يتبدل.. بحكم تخصصك واطلاعك على سقوط وقيام الدول وأنظمة الحكم فى العالم.. هل نعيش فترة انتقال حقيقية، أم أن هذه اللحظة لم تحن بعد؟
الحقيقة أننى لا أملك إجابة كاملة. هناك استنتاجات منها مثلًا أن العالم ربما يكون مقدم على التغيير، نتيجة انقسام السلطة العالمية وبالنسبة لنّا كعالم ثالث فهناك فرصة تقارب أكثر مع الشرق أكثر من الغرب وهذا شيء إيجابى من وجهة نظرى، فقد شهدت منطقتنا استعمار غربى لقرابة ال500 عام وهذا الاستعمار غير الكثير من الأشياء داخل منطقتنا وقد بدأت محاولات التوجه نحو الشرق من جانب الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ونهرو، وسوكارنو، عبر منظمة عدم الانحياز وهذه الإرهاصات يمكن اعتبارها بداية تجربة لكن المهم وجود مؤسسات حقيقية داخل مصر قادرة على مواكبة ما يطرأ من متغيرات عالمية مؤسساتنا اليوم تعيش أزمة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى وهذا ما يجب أن نعترف به أمام أنفسنا أولًا، نحن لدينا أزمة ثقافة وأزمة تعليم ينبغى أن يتم حلهم الآن. وهذه الأمور يجب تجاوزها سريعًا ليكون لدينا فرصة حقيقية للنجاة؛ لذلك علينا الاستعداد جيدًا.
لم تحصلِ بعد على جائزة النيل.. هل تشغلك التكريمات والجوائز؟
لا.. الجوائز لا تشغلنى أبدًا، ولا أفكر فيها كل ما يهمنى هو تقديم المعرفة التى أمتلكها لكل إنسان يحتاجها.
أخيرًا ما هو عملك القادم؟
أشعر أننى غير مستعدة لتقديم عمل جديد، وأظن أن كتاب «ما بين إمبراطوريتين» هو الأخير فى حياتى العملية قمت داخله بالكثير من الجهد، وعندما انتهيت منه شعرت بإحساس التشبُع سأكرس ما تبقى من عمرى فى التدريس أحب التدريس، وأحب تعليم الطلبة، وتلك هى متعتى الحقيقية فى الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.