في دراسة التاريخ، حينما لا تتوافر معلومات كافية عن فئة أو شريحة ما من المجتمع، لفهم أوضاعها وظروفها، يلجأ المؤرخون للتركيز علي فرد واحد من هذه الفئة لمحاولة فهم سياق الفئة ككل، أي أن "السيرة الذاتية" لشخص بعينه تصبح أداة مهمة لفهم الجوانب التاريخية الخفية لجماعة كاملة ولفترة تاريخية ما. وهذا بالضبط ما فعله باقتدار د. مجدي جرجس في كتابه "يوحنا الأرمني وأيقوناته القبطية.. فنان في القاهرة العثمانية"، إذ يتخذ من فنان الأيقونات الأرمني الشهير منطلقاً لدراسة ظاهرة تزايد تصوير الأيقونات في مصر في القرن الثامن عشر، كما يرسم عبر سيرة هذا الفنان الفرد مشهد الطائفة الأرمنية وفئة الفنانين، محاولاً فهم سياق هذه الفترة التاريخية ووضعية الفنانين، ووضعهم الاجتماعي فيها، وكيفية ممارستهم لأعمالهم. وتعود أهمية الكتاب كما تكتب د. نللي حنا في تقديمها له إلي أنه ولأول مرة تجري دراسة يوحنا الأرمني كجزء لا يتجزأ من تاريخ القرن الثامن عشر، بتناول انتاجه الفني كظاهرة اجتماعية لا كظاهرة فريدة تنتمي لتاريخ الفن. "فبدلاً من دراسة أيقوناته في سياق تقليد تصوير الأيقونات فحسب، لنري أين تقع أعماله من هذا التقليد، يقدم هذا الكتاب الأيقونات كجزء من المشهد الاجتماعي للقرن الثامن عشر في مصر، ليقدم إجابات عن الظروف التي أدت إلي تزايد تصوير الأيقونات في العصر الذي عاش فيه يوحنا الأرمني، وعن الذين طلبوا رسم هذه الأيقونات وقاموا بتمويلها، وعن الطريقة التي استطاع بها المصور أن يلبي الطلب المتزايد عليها". ويوحنا الأرمني، لمن لا يعرفه، فنان أيقونات أرمني غزير الانتاج عاش وعمل في القاهرة خلال القرن الثامن عشر (توفي 27 يوليو 1786 م). ويذكر جرجس في مقدمته أن بروز اسم يوحنا كأهم فناني تلك الفترة سبب ارتباكاً كبيراً في التأريخ للفن القبطي والثقافة القبطية بوجه عام. فالكتابات التي حاولت تفسير ظاهرة ازدهار إنتاج الأيقونات في القرن الثامن عشر، ربطت هذا الازدهار بحنا الأرمني "الوافد الأجنبي الذي أتي من القدس فناناً مكتمل النضج والنمو"، حيث رأت هذه الكتابات أنه نقل إلي مصر تقاليد المدارس الفنية في سوريا وفلسطين، وهي المدارس التي نشأت وازدهرت تحت مؤثرات انفتاح هذه المنطقة علي الغرب. أو أن حنا بوصفه أرمنياً، نقل الفن الأرمني إلي مصر، وهو الفن الذي تأثر بكل التطورات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المجتمعات التي عاش فيها الأرمن في الغرب والشرق. أي أن إنتاج الأيقونات في مصر ازدهر تحت تأثير هذا الوافد الأجنبي الجديد! ويلاحظ المؤلف أن وجهة النظر هذه تتسق مع دعاوي كثير من المؤرخين الخاصة بأن نهضة المجتمعات الشرقية جاءت كأثر للحملة الفرنسية وانفتاح هذه المجتمعات علي الغرب. وهي الرؤية التي تمت مراجعتها في العديد من الدراسات حول الإمبراطورية العثمانية بشكل عام، ومصر بشكل خاص. لكن كيف يفسر مجدي جرجس ظاهرة ازدهار انتاج الأيقونات في هذه الفترة بدرجة غير مسبوقة؟! هو بدايةً يراها كجزء من حركة ازدهار، كانت مصاحبة لحركة احياء ثقافي بدأت منذ منتصف القرن السابع عشر واستمرت في القرن الثامن عشر. فالقرن الأخير لم يكن عصر تدهور كما هو شائع عنه، إذ سبق لبيتر جران أن "وضع يده علي ملامح صحوة ثقافية شهدتها مصر في القرن الثامن عشر شملت معظم الجوانب الثقافية كما عبرت بشكل ما عن اتجاهات علمانية في ثقافة هذا العصر. بينما تقدم نللي حنا من خلال دراستها لثقافة الطبقة الوسطي في مصر العثمانية، جانباً آخر من جوانب هذه الصحوة من خلال دراسة كيفية تطور ثقافة الطبقة الوسطي بعيداً عن ثقافة المؤسسات الرسمية، وبالتالي اتساع نطاق القراءة والتعليم لأفراد لا يلتحقون بنمط تعليم مؤسسي". فقد شهدت مصر منذ بداية القرن السابع عشر تحولات سياسية وإدارية مهمة، تمثلت في الصلاحيات الواسعة التي تُرٍكت للباشا (ممثل السلطة العثمانية في مصر) والتي أصبح بموجبها يعين كبار المسؤولين في إدارة البلاد دون الرجوع للباب العالي. كما أن توقف الحملات العسكرية في أواخر القرن السابع عشر أدي لتغير وضع مصر في الدولة العثمانية، إذ لم تعد منطقة انطلاق للقوات العسكرية العثمانية، فتحول ولاتها وكبار العسكر فيها إلي بيروقراطيين، وسرعان ما ظهرت البيوت المملوكية كقوي مهيمنة في مصر في القرن الثامن عشر حيث استأثروا بمعظم السلطة في هذا القرن. وفي ظل هذه التغيرات ظهر نفوذ كبار المباشرين الأقباط المشتغلين لدي كبار الأمراء ورجال الأوجاقات. كان هؤلاء أداة الأمراء في السيطرة علي معظم الأمور المالية والإدارية في الدولة، لذا تضخمت ثروة المباشرين القبط مع تضخم ثروة مخدوميهم. "في القرن الثامن عشر أصبحت هنالك أضلاع ثلاثة لإدارة الأمور المالية: الأمراء المماليك، المباشرين القبط، كبار المشايخ، ونشأت بينهم مصالح اقتصادية واجتماعية، واستخدم المباشرون القبط ثرواتهم ونفوذهم في خدمة مصالح طائفتهم إلي مدي بعيد". وكان من الطبيعي أن يتبني المباشرون نهضة حقيقية في ما يخص تعمير وترميم الكنائس والأديرة القبطية، وصاحب هذه النهضة بالضرورة ازدهار في نسخ المخطوطات ورسم الأيقونات والرسوم الجدارية اللازمة لتزيين الكنائس والأديرة. أي أن الأمر ليس متعلقاً بتغلغل النفوذ الغربي في مصر أو تأثير الفنانين الوافدين من أماكن أخري بقدر تعلقه بسياق حركة التعمير المشار إليها، وهي حركة لافتة إذا وضعنا في الاعتبار أن ترميم وتعمير الكنائس كان يتم في السابق بحذر شديد وصعوبات بالغة، وفي هذا الصدد يشير المؤلف إلي عدم وجود أخبار عن تعمير أو ترميم كنائس قبل منتصف القرن السابع عشر، أما بدءاً من منتصف هذا القرن وطوال القرن الثامن عشر، فتغيرت الأوضاع و"شهدت معظم الكنائس والأديرة حركة تعميرية واسعة النطاق، حتي أنه لا تخلو أية كنيسة أثرية أو دير من شاهد علي امتداد يد التعمير إليه في القرن الثامن عشر". وبالعودة لثنائية الوافد والمحلي، نجد أن المؤلف لا يغفل الإطار الأوسع لتفسير هذه الظاهرة المحلية، لكنه يشّدد علي صعوبة تحديد ما هو اقليمي وما هو محلي في ما يخص الظواهر الثقافية. مشيراً إلي أن أهم خصائص الدولة العثمانية هو ذلك التعدد العرقي والديني والثقافي الناتج عن تجمع هويات وثقافات ومعتقدات مختلفة تحت الحكم العثماني الذي الذي لم يفرض النسق العثماني سوي علي المستوي الإداري تاركاً التقاليد والممارسات المحلية للشعوب التي حكمها كما هي بدرجة كبيرة. إضافة إلي هذا، سمحت الحربة الكاملة الممنوحة للأفراد والجماعات للتحرك في الحيز الجغرافي الواسع للدولة العثمانية بدرجة عالية من التبادل الثقافي بين شعوب الدولة العثمانية. وكذلك التبادل الثقافي بين هذه الشعوب وبين التجار والأفراد من دول حوض المتوسط الأوروبية. يذكر أندريه ريمون علي سبيل المثال أن القاهرة في القرن الثامن عشر كان بها أربعين ألف أجنبي، أي بنسبة شخص أجنبي لكل ستة أو ثمانية أشخاص قاهريين. وفي ما يخص رسم الأيقونات توزعت أصول الفنانين المتواجدين في مصر في القرن الثامن عشر بين مصريين وشوام وأروام وأرمن، إلا أن الزبون كان في الغالب قبطياً، وبالتالي كانت الموضوعات المصورة قبطية. وكثير منها لقديسين محليين. ويطرح د. مجدي جرجس تساؤلاً مهماً هو: هل التزم هؤلاء الفنانون بتقاليد محلية تناسب ذوق زبائنهم، أم أنهم طوعوا أساليبهم ذات الخلفيات الثقافية المختلفة، لتتلاءم مع الذوق المحلي؟ لكنه سرعان ما يقر بأن الإجابة عن سؤال مماثل لا تزال صعبة وتحتاج إلي جهود كبيرة من متخصصين في الفن، مشيراً في الوقت نفسه لجانبين في تقاليد رسم الأيقونات في مصر تشابهتا مع ظاهرتين معاصرتين في أسطنبول، الجانب الأول هو توقيع الفنانين بأسمائهم علي أعمالهم الفنية، وهو التقليد الذي بدأ في مصر مع إبراهيم الناسخ ويوحنا الأرمني. والجانب الثاني هو الاتجاهات الشعبية في رسم الأيقونات من تزايد رسم قديسين محليين أكثر من الشخصيات التقليدية المتعلقة بالكتاب المقدس، وهو ما أبرزه باحثون باعتباره تأثرا بتقاليد المدرسة السورية والفلسطينية. ويمضي المؤلف في كتابه متتبعاً الجالية الأرمنية في مصر، تلك الجالية دخلت وازردهرت خلال العصر الفاطمي خاصة في عصر الوزير بدر الجمالي أرمني الأصل، قبل أن يضعف وجودها خلال العصر العثماني، حيث أن هذه الجالية لم يكن لها في مصر نفس نفوذها وثرائها في الجاليات الأرمينية في الولايات العثمانية الأخري. وتفاعل الأرمن في مصر مع الأقباط وتداخلوا اجتماعيا وثقافيا علي مستويات متعددة منها الكنسي والاجتماعي، ويقدم حنا الأرمني نفسه مثلا واضحا علي هذا التفاعل، إذ أنه تزوج مرتين من سيدتين قبطيتين، كما سار وفق الكثير من العادات والتقاليد المحلية التي سار عليها الأقباط. ويأخذ المؤلف من هذه دليلا علي أن عمل حنا الأرمني كرسام للايقونات دخل بالضرورة ضمن اطار التفاعل هذا. فتقليد رسم الأيقونات، واستخدامها في الكنائس، لم يكن يوما ما تقليدا أرمنيا، وتثبت الشواهد ممارسة القبط لهذا الفن منذ زمن بعيد، واستمرارهم في ممارسة رسم الأيقونات وتقديسها دون أن تحفظ ديني أوعقيدي مثلما حدث في مناطق أخري من العالم المسيحي. ويخلص إلي أن ممارسة حنا لرسم الأيقونات "جاءت في إطار ظاهرة محلية، لها ظروفها، وترتبط بتقاليد محلية، بدأت منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي". تبقي الإشارة إلي أهمية الكتاب خاصة في ظل قلة المكتوب عن الأقباط في العصر العثماني، وندرة إن لم يكن انعدام الدراسات عن الأرمن في الفترة نفسها. الكتاب: يوحنا الأرمني وأيقوناته القبطية المؤلف: مجدي جرجس الناشر: المجلس الأعلي للثقافة