محمد على علي مدار تاريخ الإنسان تتنازعه ثلاث رغبات، الأولي حكي القصص عن ماضيه، والثانية إضفاء الأكاذيب عليها، والثالثة محاولة تنقيحها من هذه الأكاذيب، ونحن نعمل هنا علي الرغبة الثالثة. منذ أكثر من عام تراودنا الفكرة في أخبار الأدب عن سلسلة حوارات مع مؤرخين مصريين، يجمعهم رفض التاريخ الرسمي، تاريخ الحكام، الذي يدرسه المصريون أطفالا في المدرسة، ثم طلابا في الجامعة، ثم يسهمون بكتابته في مراحل لاحقة من حياتهم. قبل عامين عرض التليفزيون المصري مسلسلاً عن الملك فاروق، حظي المسلسل بنسبة متابعة عالية، وبترويج إعلامي لا بأس به. هذا النجاح يمكن له أن يشير، ليس فقط إلي أنه بإمكان التاريخ أن يصبح مادة شعبية، وإنما أنه يمكن لهذه المادة أن تكون غير تقليدية، ومغايرة لما سبق وتعلمه المشاهدون في المدرسة، وأن تظل شعبية مع ذلك. كما أصدرت دار الشروق سلسلة كتب ذات عنوان دال "الجانب الآخر: إعادة قراءة للتاريخ المصري." تحت إشراف المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق، والذي لا يمكن أيضاً إغفال مقاله الأسبوعي في الأهرام علي مدي سنوات بعنوان "الأهرام ديوان الحياة المعاصرة." كما نتذكر باحترام "سيمنار التاريخ العثماني" الذي قام بتأسيسه الراحل رؤوف عباس وصارت ندوته السنوية تجتذب الكثير من غير الأكاديميين أو المتخصصين. بغض النظر عن الأسباب، فقد بدا في السنوات الأخيرة أن الناس متعطشة لتاريخ عن بلدها يُكتب من وجهة نظر مغايرة. نماذج المؤرخين الذين عملوا علي سرد التاريخ المغاير كثيرة، اخترنا منهم ست شخصيات في سلسلة الحوارات التي نبدأ نشرها من هذا الأسبوع، يجمعهم رفض الرواية الرسمية للتاريخ، سواء تلك التي رسخها الاستعمار أو سلطة ما بعد يوليو، واستخدامهم للأدوات الحديثة في قراءة التاريخ، وتفرقهم تخصصاتهم: نيللي حنا بدراساتها المستفيضة عن أوضاع الطبقة الوسطي في العصر العثماني، وخالد فهمي عن تاريخ الجيش والمؤسسة الطبية في عصر محمد علي، شريف يونس بدراساته عن الأيديولوجيا الناصرية وكيفية تشكل ما سمي ب"فكر الثورة"، وتوفيق إكليمندوس الذي اختار منهج "دراسات النخبة" وهو يتعامل مع الخلفيات التي أتي منها الضباط الأحرار وأعضاء مجلس قيادة الثورة، مجدي جرجس بدراساته المستفيضة عن تاريخ الأقباط في علاقتهم بالكنيسة وبسائر فئات المجتمع، وهدي السعدي المتخصصة في دراسة تاريخ المرأة بالعصور الإسلامية الأولي. بعضهم اختار الحديث معنا عن أوضاع التأريخ بشكل عام في مصر، واختار البعض الآخر التركيز علي تخصصهم العلمي، ومن هنا جاء ترتيب حواراتنا: نبدأ برؤية لمشاكل دراسة التاريخ تحدثنا عنها المؤرخة نيللي حنا، ثم ننتقل إلي تخصصات معينة، مثل الأقباط والمرأة وثورة يوليو، وانتهاء باستنتاج مفصل يحدثنا عنه خالد فهمي. والأسئلة كثيرة، هناك أولا سؤالنا الأساسي والأكثر عمومية عن كيفية كتابة تاريخ مصر بناسها وطوائفها ومهمشيها، أو ما تم التعارف عليه باسم "التاريخ من أسفل"، والسؤال عن وضع دراسة التاريخ في الجامعة المصرية الآن، وكيف يمكن للمادة التاريخية الأكاديمية أن تصبح مادة شعبية، مثلما أصبح عليه الأدب مثلا في السنوات الأخيرة؟ نحاول معاً في سلسلة الحوارات هذه قراءة تاريخ مصر بعيون جديدة، وكتابته بأقلام جديدة، ليصبح هو تاريخ الناس والحياة اليومية، لا تاريخ السلطة، وكلنا أمل في الإضافة.