واقعة بشعة بدايتها لعب أطفال بريء، مجرد لهو طبيعي بين أبناء العائلة، لكنه سرعان ما تحول إلى شرارة أحرقت القلوب، فأشعلت خلافات الكبار، وانتهت بجريمة قتل مروعة راح ضحيتها أب أربعيني أمام أعين أبنائه وزوجته، في مشهد صادم هز قرية بأكملها، بعدما سالت دماؤه على الأرض إثر طعنات غادرة مزقت جسده وأطفأت حياته، بسبب خلافات بدت تافهة، لكن نفوسًا امتلأت بالحقد والكراهية حولته إلى انتقام دموي، دفع ثمنه رب أسرة بسيط لا ذنب له سوى أنه حاول الدفاع عن أطفاله وحماية كرامتهم.. انتهت حياة عامل الكهرباء الطيب؛ الذي قضى سنوات عمره يعمل ليلًا ونهارًا ليؤمن لقمة العيش لأسرته، بطعنات غادرة حرمت أبناءه من حضنه إلى الأبد، تاركة خلفها جرحًا لا يلتئم في قلب زوجته وأطفاله وجيرانه الذين عرفوه دائمًا بطيبة قلبه ورضاه بالقليل .. وإلى تفاصيل القصة المأساوية. لم يكن صباح يوم الأحد مختلفًا في بدايته عن بقية أيام الرجل الأربعيني غانم الشحات، ابن قرية منية سندوب التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية.. استيقظ قبل شروق الشمس بقليل، توضأ وصلى ركعتي الضحى، رفع يداه بالدعاء كالعادة يطلب الرزق الحلال، راجيًا الله أن يبارك له في قوته وصحته وأولاده الأربعة. كان غانم رجلًا بسيطًا في حياته، عظيمًا في صبره.. يعمل في شركة الكهرباء منذ سنوات طويلة، يخرج كل صباح قبل أن يفتح أهالي القرية عيونهم، ويعود في منتصف اليوم بجسد متعب لكنه مبتسما.. تجلس أسرته الصغيرة حول مائدة الغداء البسيطة، وزوجته تضع له الطعام بحب وصبر شبيه بصبره.. كان وقت الغداء هو لحظته الوحيدة للراحة، يمدد جسده قليلًا على فراشه، ليستجمع قواه لرحلة كفاح أخرى لا تقل مشقة عن وظيفته الصباحية. بعد ساعتين من الراحة، ينهض غانم سريعًا.. لم يكن النوم يغريه كثيرًا، فهو يعلم أن الرزق لا يأتي للنائمين. يُخرج دراجته البسيطة، يضع عليها قسط اللبن، ويربطه جيدًا بحبال قوية حتى لا ينقلب، ثم ينطلق يجوب شوارع القرية والقرى المجاورة، ينادي بصوته الهادئ: «لبن بلدي.. لبن بلدي طازة». لم يكن مجرد بائع لبن، بل كان يحمل قلبًا أبيض وابتسامة صافية تجعل كل من يراه يدعو له بالرزق والستر، رغم ضيق حاله وكثرة أعبائه، كان راضيًا تمام الرضا، لا يشكو من شيء سوى من تلك المشكلات الصغيرة التي كانت تلاحقه في الخفاء.. مشكلات لم تكن في حسبانه يومًا أن تتحول إلى دماء تُراق على الأسفلت. اقرأ أيضا: يقتل أمه بمساعدة زوجته ويدفن جثتها فى الزراعات البداية بدأت القصة بخلاف بسيط بين أبنائه وأبناء أخواله، أطفال يلعبون ويتشاجرون مثل كل الأطفال، لكن ما لم يكن في الحسبان أن تتحول تلك الخلافات البريئة إلى شجار بين الكبار.. حاول غانم كثيرًا احتواء الأمر، لكنه وجد نفسه أمام عداوة لا يعلم لها سببًا سوى القلوب المريضة.. أبناء أخواله اعتادوا التعدي على أبنائه وإهانتهم، حتى اضطر أكثر من مرة لتحرير محاضر في مركز الشرطة يحمي بها أطفاله من أقاربه. ورغم ما تعرض له، لم يكن قلبه يحمل كرهًا أو نية للانتقام، كان يقول دائمًا لزوجته: «متخفيش في النهاية دول شوية عيال وبكره القلوب تتصافى في الاخر كانا عيلة واحدة»، لم يكن ذلك المسكين يدري أن هناك من يتربص له ويخطط لقتله وجعل أبناءه يعيشون في ظلمة اليتم. في صباح يوم الحادث، خرج غانم من منزله كعادته، وضع قسط اللبن على دراجته، ألقى نظرة على زوجته وأطفاله الذين اعتادوا دعواته الدافئة كل يوم.. لم يكن الأب يعلم أنها المرة الأخيرة التي يسمعونه فيها يقول: «استودعتكم الله الذي لا تضيع عنده ودائع». انطلق يبيع اللبن ويجمع بعض الجنيهات؛ لكي يشتري بها مستلزمات البيت ويسدد قسط دراجته القديمة ويشتري ثيابًا لأطفاله الصغار، لكن حين عاد، لم يكن الموت بعيدًا. ففي طريق العودة، كان هناك من ينتظره.. أشقاء والدته، لم يكن انتظارهم له للاطمئنان عليه، بل كان كمينًا دمويًا.. ووفقا لشهود العيان؛ أوقفوه في منتصف الطريق، حاول التحدث إليهم وتهدئة الأمر، لكن قلوبهم أغلقت أبواب الرحمة.. انهالوا عليه بسكاكين حادة.. انقضوا عليه كأسود جائعة، لم يتركوه يلتقط أنفاسه، لم يمنحوه فرصة للحديث أو الدفاع عن نفسه.. انهالوا عليه بالسكاكين، واحدًا تلو الآخر.. أصوات طعناتهم اخترقت قلب طفله الذي كان معه قبل أن تخترق جسد والده.. حاول غانم الهرب، لكنه لم يستطع، لم يتركوه إلا جثة هامدة وسط دمائه، يحيط بها الناس في ذهول، وطفل صغير يرتعش بجانبه يصرخ «بابا اصحى».. مشهد أبكى الحجر، لكنه لم يهز قلوب القتلة التى تحجرت منذ زمن بعيد... لم يصدق أحد أن الدم سال بهذه السرعة بين أقارب من دم ولحم واحد.. وقف الأهالي في ذهول، تملؤهم رهبة المشهد، يتساءلون كيف يمكن أن تنزع الرحمة من قلب إنسان ليقتل أخيه أو ابن أخته دون سبب إلا الحقد والكره؟.. ما حدث رصدته كاميرات المراقبة وكان خير دليل على ما فعله القتلة. بلاغ أبلغ الأهالي الشرطة؛ التي تمكنت من إلقاء القبض على أربعة من الجناة.. وخلال تحقيقات النيابة، اعترف الشهود بكل تفاصيل الجريمة، لم يكن لدى القتلة مبررًا حقيقيًا سوى أنهم كرهوا غانم لأنه كان إنسانًا طيبًا لا يؤذي أحدًا، لكنه لم يقبل إهانة أطفاله.. ووجهت النيابة العامة للمتهمين تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد؛ وفقا لتحريات المباحث وأقوال الشهود، فإن خلافات طويلة بين الطرفين كانت الشرارة الأولى التي أشعلت نيران الجريمة. أوراق القضية سردت تفاصيل مؤلمة، وجاء في أقوال الشاهد الأول محمد الشحات، شقيق المجني عليه؛ أن المتهمين توعدوا شقيقه وأهليتهم بإلحاق الأذى بهم، وبالفعل تربصوا به في طريق عودته إلى بيته، وهاجموه بالأسلحة البيضاء حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.. أما الشاهد الثاني، إبراهيم غانم الشحات، ابن الضحية، فحكايته كانت الأكثر ألما، عندما رأى بعينيه والده يُقتل بدم بارد، فقال: «راجع أنا وبابا البيت، لقيتهم واقفين مستنينا، هاجموه فجأة وضربوه بالسكاكين.. حاول يجري بس مسكوه، فضلوا يضربوه لحد ما مات قدام عيني». القصاص وبعد أشهر قليلة من التحقيقات، عقدت محكمة جنايات المنصورة جلسة النطق بالحكم، برئاسة المستشار ياسر بدوي سنجاب، وعضوية المستشارين محمد حسن السيد عاشور، ومحمد صلاح البرعي.؛ قضت بإحالة أوراق المتهمين إلى فضيلة مفتي الجمهورية لأخذ الرأي الشرعي في إعدامهم.. القاعة صمتت للحظة عند النطق بالحكم العادل.. أصوات البكاء امتزجت بدعوات القصاص، وعيون صغيرة تائهة ما زالت تبحث عن حضن الأب وزوجة أصبحت أرملة ومسئولة عن تربية 4 أبناء، لكن الحكم العادل أثلج قلوبهم وكان عنوانا للحقيقة.