فى مشهد متكرر لم يعد غريبًا على متابعى الشأن العام، تُنشر مقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعى، توثّق وقائع خروج عن القانون، سلوكيات صادمة أحيانًا، وأحداث تتراوح ما بين الفوضى والبلطجة والاعتداء على حقوق الآخرين. لكن الجديد والمبشّر فى هذا السياق، ليس فى الفيديوهات نفسها، بل فى سرعة استجابة أجهزة الشرطة المصرية لهذه البلاغات الشعبية غير التقليدية، التى باتت تشكّل حلقة جديدة ومؤثرة فى سلسلة ضبط الشارع المصرى. نحن أمام نموذج واضح لما يمكن تسميته «شراكة مجتمعية حديثة»، تجاوزت المفهوم التقليدى للإبلاغ، إلى مساهمة فاعلة من المواطن فى تحقيق الانضباط العام. فالمواطن الذى يُسجّل، أو يُعيد نشر فيديو يظهر فيه انتهاكًا للقانون، لم يعد مجرّد متفرج، بل أصبح شريكًا فى حماية مجتمعه، وفى دعم مؤسسات الدولة فى أداء دورها. وهذه الإيجابية الشعبية التى تستند إلى ثقة متنامية فى أداء وزارة الداخلية تؤكد أن المجتمع الحى هو مجتمع لا يقبل بالتواطؤ أو الصمت، بل يطالب بالعدل والردع وإنفاذ القانون. ●●● اللافت فى استجابة الشرطة المصرية لتلك الوقائع، ليس فقط فى سرعة التحرك وضبط الجناة، بل فى القدرة التقنية المتطورة على رصد الفيديوهات، وتحليل محتواها، وتحديد هوية الأشخاص المشاركين فيها، ومواقعهم بدقة، ثم التحرك الميدانى السريع لإنهاء الحدث ومحاسبة المتورطين. نحن أمام أداء أمنى يُحاكى متطلبات العصر الرقمى، ويدرك تمامًا أن الشارع اليوم لم يعد فقط ميدانًا ماديًا، بل امتدادًا افتراضيًا ينبض على مدار الساعة. هذا التطور التقنى فى الأداء الشرطى ليس وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة لجهد مؤسسى طويل فى تحديث البنية المعلوماتية والأدوات التكنولوجية للوزارة، وتدريب كوادرها على استخدام أحدث وسائل الرصد والتحليل، فى إطار فلسفة أمنية تُوازن بين سرعة الردع وحكمة الإجراء. ولا يفوتنا هنا أن نُشير إلى مفارقة لافتة أصبحت تتكرر فى عدد من الوقائع المصورة، إذ إن أطراف المشاجرات أو المعتدين لا يدركون أن أعين المواطنين مفتوحة، وأن الكاميرات حتى لو كانت فى جيب هاتف بسيط أصبحت أداة توثيق قد تفضح أو تُدين، أو حتى تُنصف. لقد تغيّرت قواعد المشهد، وأصبح الوعى الشعبى ممزوجًا بأداة تقنية دقيقة، لتكتمل دائرة العدالة: رصد فوري، تفاعل أمنى، ومحاسبة قانونية. هذا التحول لم يكن ممكنًا لولا استيعاب المؤسسة الشرطية لهذه النقلة الرقمية، واستعدادها النفسى والمؤسسى لمواكبة هذا التغير. فى الوقت ذاته، لا يمكن إغفال الدور الإيجابى رغم كل ما يُقال لوسائل التواصل الاجتماعى، التى تحوّلت من منصات للتعبير إلى أدوات حقيقية لكشف السلوكيات المرفوضة مجتمعيًا. هى مرآة لا ترحم، لكنها باتت جزءًا من منظومة العدالة المجتمعية، وساعدًا رقابيًا فى يد المواطن، وسلاحًا يُستخدم لصالح الانضباط إذا أُحسن توظيفه. ●●● لقد كانت الشرطة المصرية، ولا تزال، هدفًا لمنهجية تشويه منظمة منذ عام 2011، حاولت تفكيك صورتها وهدم جدار الثقة بينها وبين الناس. لكن الواقع الحالى يعكس عكس ما خطّط له المتربصون: جهاز أمنى يتطور، ومواطن يستعيد ثقته، ومجتمع يشارك، ودولة تسعى لترسيخ الأمن بيد القانون لا بسطوة الردع العشوائي. ومن هنا، لا تُعد استجابة الشرطة السريعة لمقاطع الفيديو مجرد نجاح أمنى، بل هى تجسيد حيّ لعقد اجتماعى جديد، يقوم على المشاركة لا التواكل، وعلى الثقة لا الخوف، وعلى احترام متبادل بين المواطن ومؤسسات دولته. وهو ما يفسّر بواقعية شديدة لماذا تُصنّف مصر، رغم اتساعها الجغرافى وتمددها العمرانى وتعدادها الضخم، كواحدة من أكثر دول العالم أمانًا. إننا أمام نموذج يمكن البناء عليه وتطويره: شراكة مجتمعية أمنية حقيقية، تستند إلى وعى المواطن، وكفاءة الدولة، وحيوية التكنولوجيا، واستقرار المنظومة العدلية. وما نحتاج إليه الآن، هو مزيد من التوعية، ومزيد من الشفافية، ومزيد من الإيمان بأن حفظ الأمن لم يعد شأنًا شرطيًا صرفًا، بل قضية مجتمعية تعنينا جميعًا.