فى تحول استراتيجى ملحوظ خلال العقد الماضي، أعادت مصر توجيه بوصلتها بقوة نحو عمقها الإفريقى، لتطلق سياسة خارجية نشطة أعادتها إلى موقعها الطبيعى كلاعب محورى فى القارة. لم تكن هذه «العودة» مجرد شعار دبلوماسي، بل تجسدت فى خطوات عملية ومبادرات طموحة عززت من خلالها القاهرة علاقاتها بدول القارة، وبلغت ذروتها فى توليها أدوارًا قيادية مؤثرة داخل الاتحاد الإفريقى. بعد فترة من التركيز على الشؤون الداخلية والإقليمية، شهدت السياسة الخارجية المصرية تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ عام 2014، تحولًا جذريًا نحو إفريقيا استند هذا التحول إلى إدراك عميق بأن أمن مصر القومى ورخاءها الاقتصادى مرتبطان ارتباطًا وثيقا باستقرار وتنمية القارة الإفريقية. اقرأ أيضًا | الرئيس يبحث مع نظيره الأنجولى ملفات القرن الإفريقى وقد اعتمدت هذه العودة على العديد من الإجراءات الرئيسية منها الدبلوماسية الرئاسية، حيث كثف الرئيس السيسى الزيارات الرئاسية المتبادلة واستضاف قادة الدول الإفريقية، مما أرسل رسالة واضحة على أعلى مستوى بالالتزام المصرى تجاه القارة.. ومن جانب آخر كان الاهتمام بالشراكات الاقتصادية.. حيث تجاوزت العلاقات حدود السياسة لتشمل تعاونًا اقتصاديًا ملموسًا، حيث بلغ حجم التبادل التجارى بين مصر ودول الاتحاد الإفريقى 9.2 مليار دولار خلال عام 2023 مقابل 8.7 مليار دولار خلال عام 2022 بنسبة زيادة قدرها 5.7%، وقد كان حوالى 4.7 مليار دولار فى عام 2014 .. ومن جانب آخر قد برزت شركات مصرية كلاعب رئيسى فى قطاعات البنية التحتية والطاقة والتشييد فى العديد من الدول الإفريقية، ولعل أبرز مثال هو مشروع بناء سد «يوليوس نيريري» فى تنزانيا، بتكلفة تبلغ 2.9 مليار دولار، هو المثال الأبرز على قدرة مصر على تنفيذ مشروعات البنية التحتية القارية الكبرى التى تخدم أهداف التنمية لشعوب إفريقيا. وقد اهتمت مصر بالتنمية وبناء القدرات فى دول القارة، حيث قدمت من خلال «الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية» آلاف الدورات التدريبية للكوادر الإفريقية فى مجالات متنوعة كالطب، والزراعة، والأمن، والدبلوماسية، وهو الأمر الذى يساهم فى نقل الخبرات المصرية ودعم التنمية المستدامة فى القارة. وقد كان تولى الرئيس السيسى للاتحاد الإفريقى فى عام 2019 نقطة تحول فارقة، فلم تكن رئاسة بروتوكولية، بل كانت فترة عمل دؤوب لوضع رؤية عملية للعمل الإفريقى المشترك.. وركزت الرئاسة المصرية على محاور حيوية، منها التكامل الاقتصادي، حيث لعبت مصر دورًا حاسمًا فى إطلاق المرحلة التشغيلية لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، إيمانًا منها بأن هذا التكامل هو المحرك الرئيسى لنهضة القارة.. كما اهتمت بالبنية التحتية، حيث أطلقت مصر مبادرات لربط القارة، وأبرزها مشروع طريق «القاهرة - كيب تاون» الذى يهدف إلى تسهيل حركة التجارة والأفراد بين شمال القارة وجنوبها. وتبنت مصر ملف «إعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد النزاعات»، حيث أسست «مركز الاتحاد الإفريقى لإعادة الإعمار والتنمية» الذى تستضيفه القاهرة، ليكون منصة لدعم الدول الخارجة من صراعات.. لتعيد مصر الزخم لمفهوم الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية. لم يقتصر الدور المصرى على الجانب التنموي، بل امتد ليشمل أحد أكثر الملفات تعقيدًا وهو حفظ السلم والأمن من خلال عضويتها ورئاستها المتكررة لمجلس السلم والأمن الإفريقى، ولعبت مصر دورًا محوريًا كصوت للاعتدال والحكمة، من خلال التركيز على مكافحة الإرهاب والتطرف، وذلك انطلاقًا من خبرتها الطويلة فى هذا المجال، فعملت على تنسيق الجهود الإفريقية لمواجهة التنظيمات الإرهابية وتجفيف منابع تمويلها الفكرى والمادي.. كما شاركت بفعالية فى جهود الوساطة فى العديد من بؤر التوتر فى القارة، مثل ليبيا والسودان ومنطقة الساحل، داعية إلى الحلول السياسية والحوار الشامل، وهو الأمر الذى يؤكد إيمان مصر بأن استقرار القارة يبدأ من وجود دول وطنية قوية ومؤسسات قادرة على تقديم الخدمات لمواطنيها، وهو المبدأ الذى تدافع عنه فى كافة المحافل الإفريقية. ورغم نجاح مصر خلال السنوات الماضية فى إعادة تعريف دورها فى إفريقيا، والانتقال من مجرد الحضور الرمزى إلى الشراكة الفاعلة والقيادة المؤثرة. كما رسخت مكانتها كشريك لا غنى عنه فى مسيرة القارة نحو تحقيق التكامل والازدهار.. إلا أن التحديات لا تزال قائمة، لكن الأسس التى تم وضعها تبشر بمستقبل واعد لعلاقات مصرية-أفريقية أكثر عمقًا وتأثيرًا، قائمة على المصالح المشتركة والمصير الواحد.