د. فكرى حسن ما من يوم يمر إلا ونرى ونسمع أخباراً مروعة عن الصراعات المسلحة من حروب ونزاعات مسلحة دولية وإقليمية ومحلية ذات تأثير مروع على أرواح البشر والمقدرات الاقتصادية والثقافية والبيئية وبالإضافة الى الخسائر المادية المباشرة تتسبب الحروب والنزاعات المسلحة فيما هو أخطر من ذلك ألا وهو تدمير مكونات الذاكرة الجمعية والهوية والانتماء التى لا كيان ولا مستقبل بدونها. تمثل هذه المكونات ما تتوارثه المجتمعات جيلاً بعد جيل للحفاظ على قيمها وثوابتها ووحدتها تستنير به فى حاضرها وتتلمس من خلاله طريقها نحو المستقبل. لم تعد الحروب والنزاعات مقصورة على ميادين القتال على الحدود ولم تعد تقتصر على الجيوش والقوات المسلحة مع التقنيات الحديثة، وهو ما يمثل أكبر الخطر لا فحسب على المدنيين العزل ولكن أيضا على المواقع الأثرية من العصور الماضية والمبانى العامة والأسواق والأحياء والبيوت القديمة التاريخية. ولا يقتصر الأمر على ذلك لأن القصف الذى يستهدف المدن والقرى، بحجة أن بها أماكن تصنيع أو تخزين أو تمركز قوات معادية، يعصف بالبنية المجتمعية من خلال مقتل واصابة المئات أو الآلاف من المدنيين، ويدمر البنية التحتية، كما هو الحال حالياً فى فلسطينالمحتلةوإيران، ويقوض مكونات التراث الحى من طقوس اجتماعية واحتفالات وعروض وحرف ومعارف وفنون. كما أن للصراعات تأثيرها المدمر على الأماكن الطبيعية من صحارى وغابات واراض زراعية ومراع تحمل بصمة التاريخ والبشر الذين ساهموا على مر السنين جيلا بعد جيل فى تطويع الطبيعة لتنطق بإنجازاتهم ومثابراتهم. ليست كل أنواع هذا التراث مقصورة على شعب بعينه أو قوم بذاتهم، فلقد أجمعت الدول منذ 1972 على أن هناك تراثا عالمى مشتركا هو ما يوحدنا كبشر وهو ما يذكرنا بتاريخ البشرية الضارب فى أعماق التاريخ والذى يتعدى بآلاف السنين الحقبة الأخيرة التى تنامت فيها منظومة الدولة القومية بما تتضمنه من تمايز وتمييز بين الدول وما ترتب على ذلك من حروب عالمية وتنابز عنصرى واستغلال اقتصادى وتبعية ثقافية. تُظهر الحروب والنزاعات المسلحة أسوأ ما فيما يسمى ب الحضارة الأوربية الحديثة، وما هى الا محصلة إنجازات الحضارات القديمة، التى تمتلك من ناحية كل مؤهلات الانطلاق نحو مستقبل أفضل للبشر اجمعين ولكنها مرهونة بمطامع ومكاسب حفنة من أباطرة المال وكهنوت من السياسيين وجوقة من المُنظرين يبشرون العالم بأيديولوجيات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. عانت الشعوب الأوربية من ويلات الحروب وتحاربت دولهم على أراضيهم وفى باقى أنحاء العالم فى الحرب الأوربية الأولى والحرب الأوربية الثانية (وهى حروب بين دول أوروبية شملت العالم)، وتنبه بعض المفكرين والساسة لما جلبته هذه الحروب من تدمير وتخريب، فدبجوا فى إثر الحرب الأوربية الثانية معاهدة لاهاى لحماية الممتلكات الثقافية فى 1954 وهى المعاهدة التى اعترفت بالتراث الثقافى الذى تملكه الإنسانية جمعاء، لأن كل شعب يساهم بنصيبه فى الثقافة العالمية. وبما أن للمحافظة على التراث الثقافى فائدة عظمى لجميع شعوب العالم فإنه ينبغى أن يُكفل لهذا التراث حماية دولية. وشمل تعريف الممتلكات الثقافية المبانى المعمارية التاريخية، والأماكن الأثرية، والصروح التذكارية والمتاحف ودور الكتب والمراكز الثقافية والتحف الفنية والمخطوطات والكتب والأشياء الأخرى ذات القيمة الفنية التاريخية والأثرية، والمجموعات العلمية والمحفوظات والوثائق. وفى 1999 استكملت معاهدة لاهاى ببروتوكول ثان لتعزيز المحافظة على الممتلكات الثقافية وينص على أنه لا يجوز التذرع بالضرورات العسكرية القهرية للتخلى عن التزامات الحفاظ على الممتلكات الثقافية، وحظر استهداف الممتلكات التراثية أو تعريضها للضرر. كما أنها نصت على اتخاذ التدابير التحضيرية التى تتخذ فى وقت السلم ويشمل إعداد قوائم حصر، والتخطيط لتدابير الطوارئ للحماية من الحرائق أو من انهيار المباني، والاستعداد لنقل الممتلكات الثقافية المنقولة أو توفير الحماية لتلك الممتلكات فى موقعها، وتعيين السلطات المختصة المسئولة عن صون الممتلكات الثقافية. كما نصت على الامتناع عن اتخاذ قرار بشن أى هجوم قد يتوقع تسببه فى إلحاق أضرار عرضية مفرطة بممتلكات ثقافية محمية . ولذلك ينبغى تسجيل عناصر التراث الثقافى (وهو المصطلح الذى نفضله عن مصطلح «الممتلكات» بما له من صبغة اقتصادية) ووضع شعار الاتفاقية المميز على المباني، وتوفير ملاجئ آمنة لعناصر التراث المنقول، وانشاء وحدات متخصصة داخل القوات المسلحة للحفاظ على التراث فى حالة نشوب نزاع مسلح، وحظر استخدام المواقع التراثية لأغراض عسكرية. كما يجوز وضع الممتلكات الثقافية تحت الحماية المعززة وتشمل هذه الممتلكات التراث الثقافى العالمي، وينطبق ذلك فى حالة إيران على 28 موقعا مسجلا على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، علما بأن هناك 56 موقعا اضافيا قائمة اليونسكو تحت التسجيل. وبالطبع ينبغى ألا تكون هذه المواقع مستخدمة لأغراض عسكرية، أو كدرع لحماية مواقع عسكرية. وعلى الدولة المتضررة أن تعد قائمة بالممتلكات الثقافية (عناصر التراث) التى يستلزم طلب منحها حماية معززة الى لجنة حماية الممتلكات الثقافية فى حالة النزاع المسلح. على أن يرسل المدير العام دون إبطاء إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى جميع الأطراف، إشعاراً بأى قرار تتخذه اللجنة بإدراج ممتلكات ثقافية على القائمة. وخلال العقود الأخيرة، التى أصبح التراث والممتلكات الثقافية، من أفغانستان إلى مالى مرورا باليمن أو العراق، هدفا مباشرا للتدمير المتعمّد، وبات ضحيّة الأضرار الجانبية الناجمة عن النزاعات، ومنه النهب والاتجار غير المشروع، اعتمد مجلس الأمن للأمم المتحدة بالإجماع القرار 2347 فى 2017 الذى يجعل من حماية التراث الثقافي، لأول مرّة، ضرورة أمنية ويُدين التّدمير المتعمّد للممتلكات الثقافية باعتباره جريمة حرب. وينضم الى اليونسكو الدرع الأزرق الدولى (Blue Shield International) وهى منظمة غير حكومية تعمل لتبادل الخبرات والمعلومات ويستخدم شعارها لحماية عناصر التراث المهددة، والمجلس الدولى للمتاحف (ICOM) والمجلس الدولى للمعالم والمواقع (COMOS)، والمعهد الدولى للقانون الإنسانى. (IIHL)، الذى ساهم فى ادانة المحكمة الجنائية الدولية للمتورطين من يوغوسلافيا ومالى بالسجن باعتبار أن تدمير التراث الثقافى جريمة حرب. كما وقعت اليونسكو مع إيطاليا فى 2016 اتفاقية لإنشاء «الخوذ الزرقاء للثقافة» (Blue Helmets for Culture) كفرقة عمل طوارئ للتدخل فى حالة الصراعات المسلحة فى أى مكان بالعالم. وبخصوص التراث فى الأراضى المحتلة، كما فى فلسطينالمحتلة، لا يستبعد بروتوكول 1999 المسئولية الجنائية الفردية أو ممارسة الولاية القضائية بموجب القانون الوطنى أو القانون الدولى الممكن التطبيق، كما يُحرم ويمنع طرف يحتل أراضى أو جزءاً من أراضى طرف آخر، فيما يتعلق بالأراضى المحتلة من أى تصدير غير مشروع لممتلكات ثقافية، أو أى نقل غير مشروع لتلك الممتلكات أو نقل لملكيتها، أو إجراء أى تغيير فى الممتلكات الثقافية أو فى أوجه استخدامها يقصد به إخفاء أو تدمير أى شواهد ثقافية أو تاريخية أو علمية كما يمنع أن تجرى أى عمليات تنقيب أو إدخال تغييرات عليها أو على أوجه استخدامها. وبالنسبة لإيران، يهدد القصف المتواصل فى جميع أنحاء البلاد على تعريض المواقع التراثية العالمية، ناهيك عن المواقع ذات القيمة التراثية القومية والمحلية، والتأثير المروع على التراث اللامادى الحى بخسارة فادحة ينبغى تفاديها، وبالطبع حسنا تصنع إيران بحماية المتاحف ونقل الآثار الى ملاجئ آمنة. وعليها ان تتقدم بطلب تعزيز الحماية والتدخل السريع لفرق عمل الطوارئ ومن ناحية أخري، على كل الجهات الإقليمية والدولية أن تساهم فى التوعية بدور التراث بجميع اطيافه فى التنمية المجتمعية والاقتصادية وبأهمية التراث خارج نطاقه القومي، على الصعيد الإنسانى. ليست إيران مجرد دولة معاصرة، فهى جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية، ومن السفه اختصارها فى مذهب ديني. يقف موقع التراث العالمى «بريسيبوليس» شاهدا على امبراطورية عالمية، ولم ينته دورها مع صعود اليونان الى الصدارة، وأصبحت، جزءا لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية امتدت الى الصين فى نفوذها، كما أنها كانت سباقة فى نظم الرى التى تتبدى فى مواقع التراث العالمى فى شوشتار ويزد، وهو ما نقله العرب إلى اسبانيا والذى عرف الغرب منه طواحين الماء التى لم يكن للثورة الصناعية أن تقوم بدونها. لذلك علنا لا نكتفى بنظرة ضيقة الى التراث بوصفه مجرد تحف فنية ونفائس، وأن تقوم الجهات الدولية والإقليمية والمحلية من الحكومات والمنظمات الأهلية بدورها فى التوعية بالبعد المجتمعى والإنسانى للتراث، وفى أهمية التراث فى مجالات التنمية المستدامة ، وعندما يحين الوقت لإعادة الإعمار أن تكون هناك أولوية تتخطى ترميم المبانى العمرانية المتضررة بالحرب واستعادة التراث المسروق، على الا يقتصر الأمر على المبانى ليشمل دعم وتنشيط مهارات التراث الحى اللامادى الذى يتيح فرصا عظيمة لإعاده الثقة ولتعزيز الثقافة المدنية ونشر القيم الثقافية المجتمعية والقيم الإنسانية، التى تعزز مفاهيم التعاون والتكافل، والتى تفتح فى نفس الوقت مجالات واعدة للابتكار من خلال الصناعات الإبداعية. وينبغى أن يكون ذلك جزءا لا يتجزأ من أى خطة إعادة إعمار. ونظراً لعدم توافر الخبرات المحلية الكافية، هناك حاجة للاستعانة بالمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، التى تتمتع بالخبرة وتراكم التجربة فى هذا المجال، لتنفيذ عملية إعادة إحياء التراث الثقافى من خلال الجامعات والجمعيات الأهلية والمجتمع المدني، وتخصيص صندوق تمويل للتدريب وبناء القدرات التعليمية والمؤسسية.